الروائي الإريتري حجّي جابر في حوار لـ الخبر

حاوره الأستاذ: حميد عبدالقادر  المصدر: الخبر

استحضر الكاتب الإريتريّ حجي جابر، في روايته "رامبو الحبشيّ"، صوت المرأة الهررية (الحبشية)

رامبو الحبشي

التي تعرف عليها الشّاعر الفرنسيّ "أرثر رامبو" خلال إقامته في منطقة "هرار" (شرق الحبشة)، على ثلاث مراحل بين 1880 و1890، فغيبّها في رسائله لأمه وفي نصوصه الكثيرة، ورفض أن يذكرها ويجعل لها حضورًا. فمارس عليها التغييب وتصرف بعقلية كولونياليّة، رغم العلاقة الغراميّة التي كانت بينهما. أخذ منها ما كان يجب أخذه، مثل أي كولونياليّ حط الرحال بأراضي المستعمرات، ثم تركها في غياهب النسيان، لا أثر لها، ولا حضور، إلى أن جاء حجي جابر، فاستحضر صوتها مجددًا ونسج رواية حولها وأعطاها اسمًا، بطريقة توحي بأن روايته جاءت لمعارضة الممارسات الكولونياليّة، وكسر علاقة الكولونياليّ بالشرق (أو الجنوب)، كعلاقة قائمة على "الجسد"، ونُكران الإنسان وحضوره وثقافته. فانتقم للمرأة الهررية، حين أعطاها حضورا قويًا في الرّواية، وتوغل في أعماقها، ورسم شخصيتها بذكاء. وجعل من الرّواية الّتي هي في الأصل سلاح إمبراطوري كولونيالي لممارسة السيطرة على الآخر (الشرقيّ)، وسيلة إبداعية لدحض تلك الروح الإمبراطورية المتعالية. وهنا تكمن أهمية رواية "رامبو الحبشيّ" التي تندرج ضمن الأعمال الإبداعيّة الكبيرة التي تُعري الكولونيالية وتفضح تجاوزاتها.

فإذا كانت الرّواية قد أعطت للكولونياليّ صوتًا وحضورًا وقدرة على السيطرة، فإن حجي جابر عرف كيف يُعطي للمرأة الهررية حضورًا وصوتًا. لقد مكنه الخيال والرّواية من إعادة بناء ذاكرة مُغيبة، متروكة في العتمة الكولونيالية عمدًا. إنها ذاكرة المرأة الهررية، ومدينة "هرر" التي تدور فيها أحداث الرّواية، والمغيبة بدورها في كتابات "رامبو". وهذا هو دور الرّواية في النهاية كجنس أدبيّ قادر على استعادة ما هو مُغيّب من الذاكرة الإفريقيّة أو الشرقيّة. إنّ حجي جابر، روائي يكتب بكثير من الذكاء الفني، يملك قدرة على رسم ونسج عوالم متخيلة، يستعمل تقنية "الفلاش باك" بلمسات فنية، ويفتح نوافذ الحكي والذاكرة على سعتها "حتى تلك التي صدئت مزاليجها لفرط ما ظلت موصدة" (الصفحة 13 من الرّواية). إنّنا أمام رواية جديرة بالقراءة.


حجي جابر روائي إريتريّ، حازت روايته الأولى "سمراويت”" على جائزة الشارقة عام 2012. وصلت روايته "لعبة المغزل" إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد عام 2016، وحصلت روايته "رغوة سوداء" على جائزة كتارا للرواية العربية 2019. تُرجمت بعض أعماله إلى لغات عديدة مثل الإنجليزية والإيطالية والفارسية.

"رامبو الحبشي" روايته الخامسة صادرة عن تكوين وفي طبعة جزائرية عن منشورات "ضمّة". يتحدث في هذا الحوار الّذي خصّ به "الخبر" عن روايته المتوفرة حاليا في المكتبات الجزائرية.

هل يمكن اعتبار رواية "رامبو الحبشي" كرواية حول التاريخ المنسيّ وما سقط من تاريخ الشرق في ما كتبه الغرب عنه؟


كان هذا في اعتباري ولا شك حين بدأتْ فكرة الرواية في التشكّل، لكني أردتُ أيضاً أن يُجرّب المتن شعور الهامش. ولهذا لعلك لاحظت كيف تم قلب الصورة بالكامل، ليس فيما يخصّ أبطال الرواية وحسب؛ رامبو والهررية والخادم، وإنما عموم الحالة الثقافية والجغرافية والاجتماعية، حيث غدا الهامش متناً يُقرّر ويستحوذ ولا ينشغل بغيره، فيما المتن ومثاله هنا الغرب، ينكمش حضوره مكتفياً بالفرجة. وفي هذا بالمناسبة إعادة للأمور إلى طبيعتها، حين كان الحبشي سيد حكايته دون احتياج للآخرين. هذه الفكرة منحتني براحاً واسعاً للتخييل، وكم أمتعني أن أرى كيف تتحرك الشخصيات بعد طول تقييد، كنتُ أشعر معها ببهجة الانفلات من القيد المتوهم في نظرتنا إلى الحبشة بالمقارنة مع سطوة رامبو أو بقية الرحالة الذين تناولوا المنطقة في كتبهم.

هل توافق على قراءة رواية "رامبو الحبشي"، كرواية مضادة للخطاب الثقافيّ الكولونيالي؟

كدت أسارع بالإجابة موافقاً على هذه الفكرة المغرية، لولا أن خطر ببالي أنّ ذلك قد يُكرّس ما أردتُ نفيه طوال الرواية. بودّي ابتداء أن يُنظر إلى الحكايات الحبشية بشكل مستقل دون ربطها بأفعال التصدي والمقاومة والرد لأنّ ذلك سيورطها في فكرة الإلحاق حتى لو كان ذلك من باب الرفض. إذا اتخذنا هذا المسلك بشكل طبيعي واستقامت فكرته قد نقبل لاحقاً أن يكون من ضمن تداعياته تشكيل خطاب مضاد للخطاب الثقافي الاستعماري، دون أن يكون هذا هو الغرض ابتداء. هل يُشبه هذا الأمر نظرية التابع أو الهامش التي برزت مؤخراً لإتاحة أن تقوم الدول التي طالها الاستعمار بأن تنتج سرديتها الخاصة بمعزل عن السياق الاستعماري وما أنتجه؟ ربما.

لماذا لم يذكر رامبو هذه المرأة الهررية؟

إحدى منطلقات الرواية هي شكوى آرثر رامبو الشهيرة: (الذين صادفتهم لم يروني)، الرجل الذي وصف نفسه في قصائده "بالرائي" لم يستطع أن يرى الفتاة الهررية. وهو الأمر الذي انسحب على المدينة نفسها كما يظهر في النص. وقد مدّدتُ هذا العجز عن رؤية من يقضي العمر يلتفت صوبنا، بحيث شمل الفتاة والخادم وحتى مدينة هرر. هو حديث عن الانتباه الغائب، أو الانتباه بعد فوات الأوان. ثمة أمر آخر؛ لعلّ رامبو قد رأى الفتاة الهررية لكن على غير ما كانت تود وتنتظر، وهنا قد يكون النظر والعمى سواء.

عن ماذا كان رامبو يبحث في الحبشة؟

بظني أنه كان مأخوذاً باستحالة هرر على وجه الخصوص، بسورها العصيّ على التجاوز، بالحكايات المتواترة عن الجمال المخبأ عن العيون. تكاد تكون هرر هي المدينة الداخلية الوحيدة التي استقرّ بها آرثر رامبو، ذلك لأن تطوافه الطويل كان بالأساس حول المدن المطلّة على البحار. هذا التوغّل في جسد الجغرافيا مثّل تجربة مختلفة. وإذا ما علمنا أنّ الترحال كان يسكنه كهاجس، فلم يكن يصل مكاناً حتى يغادره، أدركنا قيمة أن يصل إلى بقعة يصعب بلوغها، وأثر ذلك في إرضاء نزوعه الداخلي نحو التفرّد.

كيف منحتَ هذه المرأة (ألماز) كل هذا الصوت والحضور، هل عبر المتخيل فقط، أم عثرت على بعض الآثار الخاصة بها، في كتاب "آلان بورير" (رامبو في الحبشة) مثلا، أم أنّ هذا الأخير مارس نفس التغييّب؟


انقدحتْ الفكرة في رأسي تحت تأثير جملة مستفزة قرأتها في كتاب آلان بورير الذي كان ينقل عن أحد أصدقاء رامبو قوله (وكانت لديه عشيقة حبشية أحسن معاملتها..) كان السؤال لمَ لم يتم ذكر اسم العشيقة؟ ثم ما المدهش في كونه أحسن معاملتها؟ أوليس ذلك هو العادي والمتوقع؟ من هنا بدأت رحلة البحث والتقصي عن حياة الحبشية المهملة، وبمجرد ما أدركتُ أني أبحث في العتمة حتى أنار ذلك فكرة الرواية في رأسي! إعادة الاعتبار للعشيقة الحبشية وقلب الصورة حيث تتقدم من عتمتها إلى قلب الحكاية. وجدت بعض الآثار؛ صورة وحيدة لها، واسمها الحقيقي الذي فضّلتُ تغييره في النص، مع الاحتفاظ بما يحمله من شيوع بين أصحاب الديانات المختلفة. وجدتُ أيضاً بعض الطباع التي آثرتُ إهمالها كشراهتها في التدخين، لأني خشيتُ أن يبدو ذلك مفتعلاً، ولن يغفر لي كونه حقيقيا بالفعل. لكني حاولتُ الاقتراب من طباع تلائم تلك العادة. كما وجدتُ حكايات لم أوردها في كتابي لكنها ساعدتني كثيراً في كتابة ما لم يحدث.

هل يعكس رفض رامبو ذكر هذه المرأة الهررية علاقة الغرب بالشرق، كعلاقة تقوم على الجسد ثم النسيان؟

في إحدى الصور.. نعم. لكنه أمر ينسحب على كل علاقة غير متكافئة، ولهذا ركّزتُ في حديثي على الانتباه. نحن لا نمنح الانتباه إلا لمن يعنينا. والطريف أنّ هذا يحدث بشكل غير منتبه له أحياناً. وإذا ما اتفقنا أنّ النص ينطلق من الشخصي إلى الخاص ومنه إلى المجال العام، من أزمة الفتاة الهررية مع نفسها ابتداء، ثم أزمتها بين رامبو والخادم، وليس انتهاء عند أزمة الجميع مع مدينة هرر، يمكن القول إن غياب الانتباه في إحدى صوره يمكن تمديده إلى العلاقة بين الشرق والغرب.

تطورت الرّواية أساسًا في القرن التاسع عشر لخدمة أغراض إمبراطورية (أمبريالية)، هل يمكن النظر إليها اليوم كجنس أدبي يكتبها مثقفو الجنوب لفرض الذات التي قمعتها هذه الإمبراطورية؟

باعتقادي أنّ رواية الجنوب قد تجاوزت أو هي في طريقها لتجاوز الانشغال بمرحلة ما بعد الاستعمار كحالة مواجهة. طرأت انشغالات أخرى مع قيام الدولة الحديثة التي نفضتْ مشاكل الاستعمار وولّدتْ معضلاتها الخاصة. أمام الرواية الآن هموم الديكتاتورية وخيبة الاستقلال، وضياع المقدّرات والانقلابات العسكرية، وانكماش الحريات. وهي هموم بقدر ما تتصل بشكل أو بآخر بإرث استعماري، فإنها في آخر المطاف هموم داخلية. لهذا ربما حاولت أكثر من مرة الهروب من اعتبار روايتي، رواية تنتمي بكليتها إلى فكرة النهوض في وجه الغرب الاستعماري، وإن تضمنتْ شيئاً من ذلك.


هل تعتقد أنّ التغييب الذي مارسه "رامبو" وعدم ذكره للمرأة الحبشية، هو نفس التغييب الذي مارسه "ألبير كامي" على العربي في روايته "الغريب"؟

لا أستطيع أن أنكر أنّ رواية "الغريب" لألبير كامي، قد تكون مثلت بطريقة أو بأخرى في خلفية ظروف كتابتي لرواية "رامبو الحبشي"، إضافة إلى رواية كمال داود "معارضة الغريب" التي نبهتني إلى المسلك الذكي في استخدام أدوات التهميش نفسها لكن هذه المرة من أجل إزالة التهميش وتبديده. يبدو الأمر هنا شكلاً من التناسل الروائي الممتد، وتنويعاً سردياً لأغراض مختلفة ومتعارضة أحياناً انطلاقاً من الغريب ثم معارضة الغريب، فرامبو الحبشي، وما سبق ذلك، وما سيأتي تالياً بالضرورة.

Top
X

Right Click

No Right Click