مشكلة اللغات في ارتريا - الجزء الاول

بقلم الأستاذ: ياسين حسب الله - كاتب إرتري - لندن، المملكة المتحدة

مشكلة اللغات في إريتريا، هل لها حل ؟ والإجابة ممكن إذا وجدت النية الصادقة والقيادة الرشيدة،

القومية الاثنية الإرترية

التي لها رغبة صادقة من أجل إيجاد لغة توافق، تسع الجميع وتوحد الامة، وفي إريتريا كما هو معلوم توجد تسعة لغات تتحدث بها المجموعات الارتيرية، ولكن لغتان من هذه اللغات لها السطوة وهي التجرنية والعربية وكلاهما عابر للحدود مايزيد الأمر تعقيدا التجرنية لها امتدادا جنوبيا الى اثيوبيا، واما العربية فلها امتدادا شماليا وشرقًيا.

وبالعودة الى السؤال الاول ان كانت هناك مشكلة لغة من الاساس ام لا؟ والإجابة حسب فهمي نعم وعندما انظر الى مشكلة اللغات الارتيرية، تحضرني الأسطورة البابلية التي تحكي أنه أثناء بناء برج بابل الذي كان الغرض من بنائه الصعود الى السماء وهذا اغضب الالهة مما جلب عليهم لعنتها وهذه اللعنة تمثلت في اختلاف ألسنتهم مما جعل التفاهم بينهم مستحيلا، وهكذا قضي على مشروع البناء في مهده وفر العاملين فيه نظرا لانعدام لغة التفاهم في تجسيد لانعدام التفاهم في مواصلة البناء.

وما أشبه تلكم الاسطورة بالمشكلة الارتيرية التي لم توفق الأجيال السابقة في حلها ولا الاجيال اللاحقة، بل ان جيل المؤسسين، ربما تسبب في تعقيدها من حيث أراد حلها، عندما أتوا على توافق قضى باعتماد ثنائية اللغة، واعتمد البرلمان الارتري، التجرنية والعربية، لغتان للتفاهم في البلد، ومنذ ذلك الحين احتدم الصراع واختلف التحصيل للطلاب وبدأ يؤسس ل ثقافتان مختلفتان يسيران بالتوازي بحيث لا يلتقيان وهاأنذا كما ترون بعضنا يكتب بالعربي ويقرأ له جزء يسير من المجتمع والبعض الآخر بالتجرينية للجزء المتبقي من المجتمع الإرتري.

وفي فترة النضال كانت اللغة أحد المشاكل الجوهرية التي كانت تفرض نفسها عند كل خطوة تخطوها الثورة ففي حالة جبهة التحرير مثلا حاولت أن تتقيد بمبدأ إعطاء اللغتين المساواة في النصيب بصرف النظر عما كان يواجهها من مشاكل في الترجمة الادارية والتعبوية وحاولت جاهدة لتعلم كادرها اللغتين حتى يتسنى لهذا الكادر ان يوصل المفاهيم الثورية والنضالية لقواعدها.

أما في حالة الجبهة الشعبية فكان خيارها وا ضح من البداية بحيث بدأت بتعليم الكادر الذي تنقصه التجرنية، التجرنية وجعلها لغة المخاطبة والمعاملات والتدريب بين الجنود كلغة غالبة مفروضة على الجميع دون أن تتنكر بشكل واضح الحق الدستوري للغة العربية حتى لا تصطدم مع قواعدها المختلفة في مراحل مبكرة مع التقليب الواضح التجرنية والعمل على تطويرها واغناء مفرداتها وادبياتها وفلكورها الغنائي والتمثيلي بحيث صارت اقوى من ذي قبل وقد ساعدها في ذلك كادر متجانس من جيل الشباب الذي درس بالأمهرية وهي لغة شقيقة التجرنية والتجرى كلاهما يعود إلى اللغات السبئية الجعزية وكان سهلا جدا تحويلها إلى التجرنية نظرا لتوحد الحروف وتلاقي الكثير من الكلمات مع وجود القرار السياسي وقلة الكادر المتحدث للغة العربية وضعف الممارسة كلها ساعدت في إضعاف العربية، وكذلك هزيمة جبهة التحرير الارترية وفقد سيطرتها في ربوع ارتيريا ودخولها السودان مما أصاب مشروع العربية في ارتيريا بخيبة امل.

ولكن اللجوء المتزايد الى السودان وكذلك الاغتراب الى الوطن العربي الكبير ومشاريع التعليم التي ادارتها قوات التحرير الشعبية في السودان والمنح الابتعاث لدول عربية أعطت روحا جديدة لمسار اللغة العربية أفقيا وعموديا مما جعلها تتموضع في وضع أفضل من ما بدأت به وحين استقلت ارتيريا التقت التجرنية بالبيروقراطية التي كانت تسير البلد مع الاستعمار الإثيوبي وهكذا فرضت سطوتها بلا منازع في عموم البلاد وعندما تقاطرت الكوادر التي درست باللغة العربية لم تجد من يستقبلها ومن يستوعبها في السلم الوظيفي وحتى التي تم توظيفها في الجهاز المدني انتهى بها المطاف في اقسام الترجمة بعد تعلم التجرنية طبعا. اما بخصوص مدرسي المناهج الإسلامية والمعاهد الدينية فقد وجدت نفسها غير مرحب بها في بيئة اقل ما يقال عنها معادية بل تمت محاربة اغلبها وقتل وسجن كوادرها تحت مسميات امنية وحروب وهمية قضى على جلها في السجون وربما الاعدامات التعسفية مما أجبرها على الهجرة المعاكسة.

بعض التحولات التي جرت للغات الارتيرية بين مد وجزر، خلال العقود التي تلت فترة الكفاح المسلح، وقيام الدولة الارترية، وان كان موضوع اللغة واللغات الارتيرية، أخذ في الظهور من فترة الأربعينات، أي مع اول طموح نحو الاستقلال، واغلب الظن كان عبارة عن، محاصصة انجليزية أرادت به تكوين الكيان الإرتري المسلم - المسيحي، الذي يجاور دولتين كبيرتين تتجاذب ثقافته ولهما تداخل سكاني وترابط تاريخي لا يمكن نكرانه، و الجدير بالذكر أن جبهة التحرير الارترية، في مؤتمرها الثاني تبنت حق القوميات الإرترية، في تطوير لغاتها الموروثة، وكذلك كان الموقف عند الجبهة الشعبية في برنامجها الوطني.

على العموم برنامج تطوير اللغات لكل القوميات من الناحية العملية الجبهة الشعبية قطعت مشوار بإسهامات لا بأس بها اقلها، ماقدمته في تطوير الأغاني والرقصات الشعبية الذي امتازت به، لما له من عظيم الفائدة، في التعبئة العامة لجبهات القتال وجمع التبرعات، كما أنه لعب دورا تثقيفيا و تعريفيا للقوميات على بعضها.

وبعد التحرير أصبح لكل طالب أن يختار اللغة التي يحب ان يدرس بها حتى الصف السادس وبعدها يواصل بالانجليزية، و الأمر الى هنا أشبه برفاهية قلما تحلم بها شعوبا كثيرة لها من الإمكانيات الكبيرة، ولكن العيب في هذا النهج هو أن دارسي هذه اللغات لن يستفيدوا منها في الممارسة الرسمية المتعامل بها في وطنهم ولا حتى في إقليمهم. واللغة المعمول بها في البلد هي التجرنية وبالتالي دارسي المدارس الابتدائية بلغات الأم من الناحية العملية تم تقنين دورهم وحرمانهم من الفرص المتاحة لأقرانهم في مختلف مجالات الحياة في داخل الدولة الارترية، لأن اللغة المستخدمة في تسيير شؤون البلد، بسياسة الأمر الواقع هي التجرنية، ولا توجد انظمة فيدرالية لهذه القوميات حتى نتفهم امكانية استخدامها في مناطقها لتسيير شؤونها، هذا لو أخذنا مثالا الكانتونات السويسرية وفق توزيعها الاثني واللساني.

و لم يكون إقرار هذه اللغات وفق تصويت انتخابي ولا تمثيل برلماني، وعندما اعترضت الكثير من الكوادر المثقفة، من الذين رأوا عدم جدوى التدريس باللغات الكثيرة تحت مسمى اللغة الأم ولم يكونوا من صفوف المعارضة التي لا يقبل منها شئ، بل ممن افنوا أعمارهم في صفوف الشعبية، ولا يرقى الشك في ولائهم ومع ذلك تمت محاربتهم بقسوة والقضاء على ارائهم بل وعلى أرواحهم وفي مقدمتهم الاستاذ المناضل إدريس أبعري الذي الذي نبه مبكرا للهوة التي يمكن أن يسببها هذا من اعاقة في توزيع الفرص والثروة، بل واعاقة نفسية ستنعكس سلبا على شعور المواطنة السوية. ولهذا السبب تم خطفه وسجنه وربما قتله لا يوجد له خبر، ولا يعرف له مكان لليوم.

إذا كان إقرار لغتين للبلد أمرا معيقا من جيل الآباء ففي إقرار لغات الأم التسعة كان تدميرا بمعني الكلمة من جيل الأبناء بل كان مضيعة للوقت وهدر للمال وحرمان للأجيال من تحقيق نهضة تعليمية وتكوينا وطنيا يليق بمستوى التضحيات والمعاناة التي كابدها الشعب الارتري لثلاثة عقود عجاف اتت على الاخضر واليابس.

وكم هو من المحزن أن تعقبها ثلاثة عقود أخرى من التيه والحرمان دون أن يكون في الأفق بصيص من الأمل لحل هذا المشكل المحوري الذي من ثماره الشعور بالحاكم والمحكوم.

والامر المؤكد انه ان كان بحسن نية او لمآرب خبيثة من مجموعة خبيثة لا ترى في تقدم وازدهار المواطن الارتيري هدفا لها، بل ترى في حرمان قطاع عريض من المشاركة في أداء الدولة هدفا مركزيًا وهو ما يمكن أن نخلص إليه من المعطيات الماثلة أمامنا، وإذا لم يكن الأمر مقصودا قصدا فلم تم البطش بأولئك الذين حذروا من مآلات هذا المشروع وتمت محاربتهم لمجرد إبداء الرأي والنصح بطريقة علمية وحضارية فيها من الرقي ما لا ترتقي اليه اصحاب الهمم البليدة، ومالا يمكن غض الطرف عنه من أصحاب النيات الخبيثة.

نواصل... في الجزء القادم

التعليقات  

ادريس
#ادريس2020-07-18 08:25

جهود مقدرة لادارة الموقع فقط اتسائل لماذا لاتوجد خاصية النسخ للنص في الموقع لماذا يتم تعطيلها وهي
مفيدة للقارئ خاصة عندما يريد يقرئها فيما بعد،
ولماذا لا تنشرون عنوان بريدي للكاتب للتواصل معه
فاذا امكن تمدوني بايميل الكاتب اكون شاكر لكم للتواصل معه
رد
Top
X

Right Click

No Right Click