ذكريات وتجارب - الحلقة الثالثة والسبعون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

ذكرت في الحلقة السابقة انفضاض كافة الزملاء عني ماعدا ادريس محمد سعيد، ويعود من ناحية الى العلاقة القوية التي كانت بيننا

وانني من جنده وارسله الى الميدان عام 1965، ومن ناحية اخرى الى مصارحتي له عندما كنت اودعه عن خشيتي من حدوث اندلاع نزاع او حرب اهلية على ضوء تآمر بعض القيادات من ابناء المنطقة الغربية ضد القوة التي كانت متجهة الى البحر الاحمر ابان مرحلة التقسيم وتسببهم في استشهاد العشرات من قيادات وكوادر هذه القوة وتشتت ما تبقى منها. استبعد ادريس في حينه ما ذهبت اليه بشدة لاعتبارات وطنية ودينية الا انه تذكرها عندما التقينا بعد عشرة اعوام وبعد ان اكتوى بنارها.

ذكر لي انه اصيب في احدى المعارك مع الجبهة برصاصة اخترقت مزقت احشاؤه حتى خرجت امعاؤه كلها وبقى في ارض المعركة حتى عثر عليه جنود الجبهة فاراد احدهم الاجهاز عليه الا ان زميلا له منعه اعتقادا انه لا محالة ميت فتركوه وبقى في مكانه الى ان صادف مرور رعاة فحملوه الى موقع تواجد قوته.

وفي اخر الحديث قال ادريس بكل اسى ما معناه انه يوافقني الراي ان العداء مرير ولكن الدماء التي سالت امر منه بكثير وللزملاء كل العذر في موقفهم مني. ما زال الاخ ادريس حيا يرزق في مصوع.

ومن الاحداث التي آلمتني اكثر مع ان كل ما سمعته منهم كان مؤلما، ذكر لي احدهم انه كان اصغر مقاتل في فصيلة يقودها عمر حيدرا بدهو في بداية الحرب الاهلية. وبينما كانوا في احد الايام يستريحون شاهد الحارس قوة من الجبهة تتقدم نحوهم في حالة انتشار أي في حالة هجوم، فطلب عمر من مقاتليه عدم القيام بأية حركة على اساس ان الخلاف بين الطرفين سياسي ولن يصل الى حد الاقتتال، وانهم عندما يجدوننا لا نبادلهم الاستعداد للقتال سوف يجدون انفسهم مضطرين للجلوس والحوار، وبينما تحاول بعض الكوادر اقناعه، أخذ الحيطة، على الاقل، وصلت القوة الى مسافة الصفر وطالبتهم بالاستسلام، وعندما حاول عمر الوقوف للحديث معهم فتحوا النار وفي دقائق قضوا على الفصيلة بكاملها بدون ان يطلق احد منهم طلقة واحدة، ولم ينجو الا مقاتل واحد كان خارج المكان وتمكن من الفرار واخذ هو اسيرا.

تمكن الجندي الناجي من الاتصال بقوة يقودها علي سيد عبد الله، فأخذت هذه القوة في تعقب قوة الجبهة الى ان وجدتها في احدى القرى في منطقة بركا امنة مطمئنة تحتفل بالنصر والاسلحة الحديثة التي غنمتها، فقامت بمحاصرتها والقضاء عليها عدا قائدها عثمان ابو شنب الذي حيث كان في احد البيوت البيوت يحتسى فنجان قهوة. فحاصروا القرية وطلبوا منها اخراجه الا انه استطاع مع حلول الظلام التسلل وسط مجموعة من النساء تظاهرن الخروج لقضاء حاجتهن. وبهذا استطاع مقاتلو الشعبية من تحرير المتحدث والثأر لشهدائهم واستعادوا اسلحتهم فضلا عن اسلحة جديدة ثم احتفلوا على طريقتهم.

مآسي يندي لها الجبين وان اعتبرها القائمون بها نضالات من اجل حرية الشعب، فمن الثابت ان عداء ذوى القربى، لعوامل ذاتية وموضوعية، يظل اشد ضراوة ومرارة من أي عداء اخر.

كل ما اريد ان اقوله في هذا الموضوع الذي سمعت بعضه في السجن، ما كان عمر حيدرا المعروف بشجاعته وخبرته العسكرية ليرتكب هذا الخطأ الفادح الا اذا كان يقصد إحداث صدمة نفسية لدى الجانب الاخر وكسر حاجز العداء بين الطرفين حتى لو كانت المغامرة على حساب امن وسلامة القوة المؤتمن عليها. وفي اعتقادي، وبعيدا عن الانتماءات السخيفة، لو قابله عثمان ابو شنب، بحكم تاريخه النضالي ووزنه القبلي، بنفس الروح والرؤية لما كان هناك من يستطيع اتهامه بالجبن والخيانة ولربما لكانت سببا في توقف هذه الحرب القذرة، ولكن عداء ذوى القربى يظل اشد ضراوة ومرارة من أي عداء اخر.

التقيت في احد الايام في السوق بسليم حسن كردي - ممثل قوات التحرير الشعبية في مصر - في طريق عودته من الميدان، وبحكم علاقة سابقة بيننا، اطلعني على الاوضاع السائدة في التنظيم ليس اكثر. مع هذا تم تصويره في الاجتماع اليومي الذي عقد مع المقاتلين في المقر وكأن امرا كبيرا قد حدث، وفي اليوم التالي تم تكليفي التوجه الى منطقة طوكر لعقد ندوات اقول فيها كلاما محددا مسيئا الى الشعبية. وافقت على المهمة ولكن مع التأكيد على الا اقول ما لا علم لي به ولا علاقة.

شعرت في قرارة نفسي ان الغرض من هذه المهمة توريطي في عداء مع الشعبية ولربما تعريضي لانتقامها فيكونون قد تخلصوا مني بيدها. وبالتالي لم اكن متأكدا اذا كنت سأذهب حتى لو وافقوا على شرطي، وكنت قد سمعت عن اختفاء العديد من المناضلين في هذه المنطقة بدون ان يعرف احد عن مصيرهم عدا تبادل التنظيمين الاتهامات، ولربما لم في حسبان الادارة ما خطر ببالي ولكنه سوء الظن.

وبينما انتظر الرد، طلب مني التوجه الى الخرطوم بغرض العلاج وعقد ندوات، مع انهم صرفوا لي تذكر السفر بالقطار لم يعطوني لا رسالة ولا عنوان المكتب ما يمكن اعتباره ”هذا فراق بيننا وبينك“. وكان الدكتور حمد قد ذكر لي قبل هذا ان ممثل الجبهة حسين خليفة قال عندما سمع ردي ”اصلا لا يمكن ان يكون شخص من حرقيقو عضوا في الجبهة“ ونصحني بالابتعاد. وكانت مفاجأة للمقاتلين عندما عرفتهم عن نفسي وانا اودعهم. وهكذا وجدت نفسي خارج السجن وخارج الجبهة.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click