ذكريات وتجارب - الحلقة الرابعة والسبعون والأخيرة

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

الملاحظة الأولى: كانت رحلة الخرطوم اخر الاحتمالات، ومع هذا توجهت اليها على غير هدى او معرفة، فأول موقف طريف

عثمان بداوى عمريتتعرضت له كان بقائي في العربة وحيدا بعد نزول كل الركاب في العربة ظنا اننا لم نصل بعد حتى لاحظني احد الركاب وسألني لماذا لم انزل فأخبرته انني ذاهب الى الخرطوم، فقال لي متهكما ”ما هي دي الخرطوم“ في البداية لم اصدقه لان القاذورات التي كنت اشاهدها من الشباك كانت تماما عكس ما سمعته مرارا وتكرارا في السجن من الصحفي السوداني محمد عبد الرحمن عندما كان يقارن بين نظافة الخرطوم وأسمرا.

الملاحظة الثانية: خرجت من البوابة وكلما تقدمت ازدادت شكوكي وكان الفيصل وجود فندق كردفان الذي حدثني عنه الاخ سليم كردي في نفس الشارع وفعلا كان على بعد اقل من كيلو متر. حجزت سريرا وانتظرت فترة حتى يعطيني الموظف المفتاح، الا انه قال الغرفة مفتوحة، كانت عبارة عن عنبر يحتوى على ستة سرائر وكان فوق كل سرير شخصان او ثلاث من ذوي الاحجام الضخمة متربعين ويناقشون سعر البصل في السوق، انتظرت لعل احدهم يسألني وفي الاخر عدت الى الموظف اخبره ان السرائر كلها محجوزة، وبدلا من التحرك معي طلب مني ان اقول لهم انني اريد سريري، رجعت اليهم محرجا وقلت لهم بعد السلام ما قاله لي، كل ما قالوه ”جدا جدا“ واخلوا احد السرائر وتزاحموا في ما تبقى وواصلوا نقاشهم بنفس الصوت بلا ادني اعتبار انني احتاج الى راحة.

الملاحظة الثالثة: لقد هبت بالليل عاصفة رملية او ما يسمونه ”خمسين“ واستمرت الى ما بعد الغروب، عندئذ أخبرت الموظف انني اريد ان انام اعتقادا انهم سينظفون ويغيرون الملايات التي تراكمت فوقها طبقات من الاتربة، فقال لي الغرفة مفتوحة. اعتبرت كلامه نوعا من الاستخفاف وانتظرت حتى يجئ نزيل اخر لأرى ماذا سيفعل. ولكن خاب ظني، فكلما جاء نزيل نفض ملايته ونام. فترحمت على فنادق ارتريا وعمالها.

اولى المفاجآت السارة كانت زيارة الاخوة عبدالرحمن ومحمود عبد الله عوتا، محمد رمضان عوتا من قندع وعثمان محمد نجاش من مصوع، كم كانت سعادتي بهم، لأول مرة وجدت نفسي اتحدث خارج السياسة، فلهم كل شكر وتقدير. ومما عرفته منهم، وجود زملائي صالح عبد القادر بشير، محمود صالح سبي وصالح جابر وراك في فندق ”الوحدة“ في الشارع المقابل فانتقلت اليهم. اخبرني الاستاذ محمود سبي انه التقى بالدكتور شافنر وانه ترك لي معه رسالة ولكنه فقدها. حسب اعتقادي كانت الرسالة تتعلق بمنحة دراسية في سويسرا كان قد وعدني بها متى ما خرجت من السجن، وان الاستاذ محمود تعمد اخفاءها لأنه لم يكن طوال السنين راضيا عن علاقتي بالدكتور شافنر لئلا يؤثر في عقيدتي الدينية.

ايضا التقيت في فندق الوحدة بمجموعة ممن خرجوا من السجن اذكر منهم نور الدين محمد عبد الله وعثمان حسب ومحمد ابراهيم طمبار كانوا في طريقهم الى الخارج بعد ان عينتهم الجبهة في بعض الدول. وتعرفت معهم على الاخوة عبد العزيز ومحمد طاهر حسن مهري اللذين تربطني بهما صلة قرابة وكان هذا اول لقاء بيننا كما تعرفت على الاخ عبد العزيز ياقوت كلهم من ابناء كرن، وقضيت معهم وقتا ممتعا، لهم التحية.

واول شخص قابلته من ابناء حرقيقو كان ابن خالي احمد عمر حسب الله العائد من رحلة علاج في الكويت بعد اصابته في احدى المعارك مع العدو، ثم الاخ ابراهيم محمود منتاي والاخ محمد ادريس طلول وتطول القائمة وبهذا تجمعت لدي معلومات وافية عن اهلي والاحداث التي وقعت في حرقيقو وما ترتب عليها من قتل وتهجير.

كانت الخرطوم في هذا الوقت تعج بألاف من الشباب الارتري من كلا الجنسين معظمهم طلبة. وكانت مفوضية اللاجئين، حسب ما سمعت، تمنح لكل لاجئ بطاقة يحمل بطاقة وتصرف له بدل اعاشة، بدل سكن، بدل دراسة وبدل علاج بحساب الدولار، وتمنح كل من يحصل على تأشيرة سفر جواز سفر مع تذكرة ونفقات السفر بالدولار. ولكن مع تزايد الاعداد وكثرة المتعجلين بدأ البعض يكتفي بالجواز والتذكرة والنفقات، ثم الاكتفاء بالجواز والتذكرة، ثم الاكتفاء بالجواز، وتدريجيا تحولت المصاريف بحساب الجنيه وبالسعر الرسمي، وفي الاخر بلغ التنازل الى مرحلة دفع الرشوة للحصول على الجواز.

كانت بعض الدول تمنح التأِشيرات باقل الاجراءات واحيانا بدون توصية من مفوضية اللاجئين وخصوصا لدول الخليجية التي لا تؤمن بحقوق اللاجئين، ولهذا كانت طوابير طالبي التأشيرات تنتظم امام قنصلياتها من الخامسة صباحا قبل ان تتحول التأشيرات الى تجارة رابحة للسماسرة ولموظفي بعض القنصليات، فبدلا من انهاء معاملات المنتظرين في الخارج كان ينهي الموظفون المعاملات التي يقدمها السماسرة من تحت الطاولة ما اجبر الكثيرين على الخضوع لهذه الممارسات الابتزازية واساليب استغلالية اخرى.

في خضم الارهاصات السياسية التي كانت تشهدها الساحة في هذا الوقت، وصل الزعيم عثمان صالح سبي في طريقه الى الميدان، كنت ضمن المجموعة التي التقى بها في مقر اقامته وهم صالح عبد القادر بشير، صالح جابر وراك، محمود صالح من اجل التهنئة بالسلامة والاستماع الى تجربتنا والمعلومات التي توفرت لدينا منذ خروجنا حيث مر بعضنا عن طريق الجبهة والبعض الاخر عن طريق الشعبية، شرح لنا الوضع العام للقضية ورد على اسئلتنا، يمكن تلخيصها فيما يلي:-

الموقف الدولي: تعتبر دولة الصومال الحليف الاستراتيجي الوحيد للثورة الارترية لعدة اعتبارات.

منظمة الوحدة الافريقية: لم تتمكن الثورة من اختراق الدول الافريقية وبالتالي منظمة الوحدة الافريقية وذلك بسبب عدم وجود دولة افريقية مجاورة تتبنى القضية الارترية في اجتماعاتها سوى الصومال التي تعتبر معادية لإثيوبيا.

السودان: لا يملك لا رؤية ولا موقف محدد من القضية الارترية.

الدول العربية: الدولتان الوحيدتان التي تدعمان القضية الارترية سياسيا وعسكريا هما سوريا والعراق وكلاهما من منطلق قومي عربي، وطالما لا يوجد ارتباط جغرافي معهما سيظل التأييد رسميا وليس شعبيا، وللأسف كلاهما ساهما في مفاقمة الخلافات البينية الارترية على اسس حزبية، واقحما القضية الارترية في الخلافات السياسية الدائرة بينهما، وبالنظر الى علاقتهما الوطيدة بالاتحاد السوفياتي حليف اثيوبيا لا يمكن ضمان استمرار دعمهما وبالحجم الذي يتماشى مع احتياجات الثورة.

السعودية: كان بإمكانها ان تعلب دورا مؤثرا لصالح القضية الارترية الا ان ارتباطها بالسياسات الامريكية فانها تعلب دورا سلبيا وتحاول بمختلف الوسائل لاحتواء الثورة وفي نفس الوقت محاصرة تحركاتها في الجامعة العربية، وان كل ما قدمته حتى تاريخه لا يتجاوز ثلاثة ملايين دولار في عهد الملك فيصل.

مصر: تستغل القضية الارترية كورقة ضغط على اثيوبيا لضمان تدفق مياه النيل، وتنسق مع السعودية لإحباط أي جهد او محاولة تقوم بها الثورة سواء في الجامعة العربية او منظمة الوحدة الافريقية بحجة انهما معنيان بما يجري في منطقة البحر الاحمر اكثر من اية دولة اخرى.

دولة قطر والامارات: تقدمان دعما ماليا محدودا ومن منطلق انساني بحت وليس ايمانا بعدالة القضية والمصالح المستقبلية المشتركة.

الجامعة العربية: لا تختلف سياساتها ومواقفها عن سياسات ومواقف الدول التي تتحمل ميزانيتها الا في امور هامشية لا يمكن التعويل عليها.

اوروبا: كل الدول الاوروبية منحازة الى اثيوبيا، عدا ايطاليا التي تبدي نوعا من التفهم وتنصح بفتح قنوات اتصال مع دولة اسرائيل للوصول الى قلب اوروبا وامريكا.

الحرب الاهلية: لم نتوقع ان تصل الخلافات الغير موضوعية الى هذا الحد من الاقتتال، وما زالت تدمي الشعب وتستنفد مقدراته وتعيق العمل السياسي حيث تتخذ منها بعض الدول ذريعة للامتناع عن تقديم الدعم.

مجموعة اسياس: تعاونا معها منذ بدايات تأسيسها لأنه من مسئوليتنا تقديم ما نستطيع من سلاح لأي طرف يحارب العدو بصرف النظر عن دينه او قوميته، ثم انها كانت الهدف التالي للجبهة بعد القضاء على قوات التحرير الشعبية.

الخلافات بين مكونات قوات التحرير الشعبية: سببه الافتقار الى نظرة مستقبلية وقيادة قادرة على استيعاب الجميع في بوتقة تنظيمية واحدة، وخروج البعض من الميدان بحجة هيمنة المسيحيين لأمر سخيف لان مثل هذه التحولات، ان حصلت، لا تعالج الا بعملية تجنيد مماثلة ولاسيما ان الامكانيات كانت متاحة للجميع بلا أي تحفظ.

القمع والتصفيات داخل الشعبية: سمعنا بهذه التصفيات وخصوصا ضد مجموعة ”منكع“ انه لأمر محزن وكثيرا ما ناشدت اللجنة الادارية بعدم التورط في سفك الدماء لما له من عواقب مستقبلية وخيمة.

توجهات مجموعة اسياس: كنا على علم بوجود مسئولين واجهزة اقتصادية ومالية وحسابات بنكية في معظم الدول الاوربية مرتبطة باسياس بغرض الاعتماد على نفسها في حالة الاختلاف مع البعثة الخارجية، لم يزعجنا هذا التصرف طالما تستغل هذه الامكانيات في تطوير التنظيم وتخدم المصلحة العامة. للأسف، بينما المسلمون يتصارعون على قيادة الثورة، المسيحيون يعملون لحكم دولة ارتريا المستقلة، ولعل مشكلة المسلمين في معظمها تقع على عاتق ابناء بني عامر باعتبارهم اكبر مكون اسلامي فمن ناحية غير قادرين على القيادة وفي نفس الوقت غير قابلين للانقياد.

الوحدة الوطنية: اعتقد انه حان الوقت لوضع حد للانقسام والوحدة في مقدمة اهتماماتنا، فمن واقع مسئوليتي التاريخية، طرحت على اللجنة الادارية (القيادة العسكرية لقوات التحرير الشعبية) بينما البعثة الخارجية (القيادة السياسية لقوات التحرير الشعبية) مشروع يدعو الى الدخول في حوار وطني وتحقيق الوحدة، وان ذهابي الى الميدان انما هو لمناقشة بنود هذه المبادرة وتطبيقاتها، فاذا وافقت اللجنة الادارية على المشروع سننتظر مخرجات مؤتمر الجبهة. اما اذا اختلفنا مع اللجنة الادارية فسأعتزل السياسية واتفرغ لعمل الدراسات وكتابة مذكرات.

واخيرا اقترح على عثمان سبي ان ارافقه الى الميدان لعلي استطيع اقناع البعض من زملائي بوجهة نظره. ربطت اقتراحه برسالة شفوية نقلها الي الاخ سليم كردي من بعض الزملاء في الميدان يدعوني لزيارتهم ولو لبضعة ايام. فقلت له انني اعتقد انه حتى لو وافق اسياس على الحوار فلن يوافق زملائي عليها، ثم اعربت له عن رغبتي في مواصلة تعليمي وفي هذه اللحظة فقط قررت وجهتي المستقبلية.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click