الثورة الإريترية وحق تقرير المصير - الجزء الثاني

بقلم الأستاذ: حلمى شعراوى المصدر: السياسة الدولية

ظروف تكوين المجتمع الإريترى اجتماعيا ودوليا:

1. لا تختلف ظروف تكوين المجتمع الإرترى كثيرا عن تكوين معظم ـ الوحدات الوطنية ـ الأفريقية،

خاصة قبل أن تهاجم القوى الاستعمارية أفريقيا منذ القرن الخامس عشر فمنذ ذلك التاريخ، تعرضت كثيرا من الأبنية السياسية التقليدية فى أفريقيا للغزو الرأسمالى، الذى فتت بعض ممالكها، أو جمع بعض قبائلها وفقا لحركة التنافس الاستعمارى، وليس مرورا بتطورها القومى الطبيعى ولقد شهدت الأراضى الارتيرية تنوعا بشريا اجتماعيا هائلا، تكونت من خلاله الممالك والمجموعات القبلية، والتى بقيت آثارها حتى الآن، ففى مناطق ـ مدر بحرى ـ أى البلاد المطلة على البحر الأحمر، ووادى الجاش وبركة والمرتفعات وساحل الدناكل، حدثت العديد من التحركات والهجرات البشرية ذات الطبائع المختلفة من الفنج النيليين القادمين من أعالى النيل ومشرق أفريقيا (شرق إريتريا)، إلى البجة الحاميين القادمين من جنوب مصر وبطانة السودان، ومن السبئيين الساميين من جنوب الجزيرة العربية، إلى الرشايدة العرب فى شمال البلاد ومن الملفت أن هذا التركيب، تكونت من خلاله ممالك تاريخية، أقامت تحالفات دولية معروفة مع الإمبراطوريات التاريخية (الرومان ـ اليونان الفرس ـ العثمانيون) وكانت معظم هذه الممالك، تحاول فى مراحل التاريخ المختلفة، مد نفوذها على كل الساحة الإريترية تقريبا ولعل الموقع الاستراتيجى لإريتريا، منذ وقت متقدم فى التاريخ، على مداخل البحر الأحمر وفى مخارجه إلى المحيط الهندى، قد جعل لإريتريا هذا الواقع التاريخى والاجتماعى المتميز ويلفت النظر هنا، أن أثيوبيا نفسها، التى لم تحمل هذا الاسم إلا منذ بضعة قرون، لم تشهد هذا التنوع العريض، إذ بقيت حبيسة المرتفعات، وأسيرة الصراعات القبلية الضيقة وتغيير مكونات أثيوبيا البشرية والاجتماعية، هى الأكثر التصاقا بالأصول السامية العربية، حيث تنتمى فى معظمها الحبشات ـ والاجعازيان ـ المهاجرين إليها من جنوب الجزيرة العربية، مكونين جزءا أساسيا من مكونات مملكة اكسوم التى يعتبرها الأثيوبيون أساس مملكتهم التاريخية.

2. حددت الصراعات الدولية أيضا، لفترة طويلة، طبيعة تكوين ـ الإقليم الإريترى ـ حتى أعلن مستعمرة إيطالية بهذا الاسم سنة 1890 ولابد أن يكون مائلا فى الأذهان، أن هذه الصراعات التى شهدها التاريخ الطويل حول المنطقة، كانت مكثفة على مساحة تعرف الآن بإرتريا، بينما كانت الحبشة (أثيوبيا) تتمتع بوجودها المستقل طوال هذه الفترة، ففى العصور القديمة، أمن تحتمس الثالث الطريق لأسطوله فى البحر الأحمر، بإنشاء ـ اووليس ـ على الساحل الإرترى، متصارعا مع الفنيقيين على المنطقة، ثم صارع الاسكندر الأكبر الفرس، وواصل الرومان نفس الصراع، بالتحالف مع مملكة اكسوم مع الأثيوبيين ضد العثمانيين غزاة اليمن بهدف تطهير المحيط الهندى والبحر الأحمر من وجود الأتراك، وأدت هزيمة السلطان الغورى فى المحيط الهندى سنة 1509 إلى اقتسام الإمبراطوريتين للنفوذ، فانفرد البرتغاليون بالمحيط، والعثمانيون بالبحر الأحمر، حيث استقروا فى عصب سنة 1557 وعندما أصبحت تركيا بمثل الرجل المريض فى القرن التاسع عشر، استعانت بقوة شابة هى حكم آسرة محمد على فى مصر فأقام فى المنطقة حكما مصريا، بادئا من مصوع، ومقيما العلاقات مع المناطق الداخلية، إلا أن ضعف مصر بعد ذلك، لم يمكن لها الاستمرار وراحت بريطانيا تدير مصالحها فى مصر والبحر الأحمر والسودان وشرق أفريقيا على السواء، وفق خطة استعمارية واحدة، مستعملة نفوذها الاستشارى فى مصر، أن إدارة السواحل، كانت تعنى إدارة موحدة للأقاليم الداخلية التابعة لها، إلا أن قبائل الداخل كانت ترتبط بهذه العملية أيضا، بالتعامل أو المقاومة، كما أن هذه التصارعات الطويلة، تعنى أيضا أن إريتريا لم تكن فى يد الأثيوبيين طوال هذا الوقت.

3. اقتضت الخطة البريطانية، أن تتحالف مع إيطاليا فى مدخل البحر الأحمر، نظير تأمين السودان، وجزء من الصومال، والمشاركة فى خطط مواجهة النفوذ الفرنسى فى المنطقة، فأعلنت إيطاليا إرتريا مستعمرة بالحدود الراهنة، وبهذا الاسم سنة 1890 وأخضعت قبائلها وممالكها لسيطرتها العسكرية، إذ لم ينجح فى ذلك ملوك أثيوبيا، وأدخلت الإدارة الحديثة والبوليس، كما نقلت إليها جالية إيطاليا كبيرة من الحرفيين والتجاريين، وعندما سيطر النظام الفاشستى فى إيطاليا، اخذ فى تطوير إرتريا، ليكون منها قاعدة انطلاق لمناقشاته الاستعمارية فى المنطقة، فنشأت صناعات وشبكة طرق وأعدت الموانى والسكك الحديدية، ارتبطت بها استثمارات أوروبية متنوعة، ونشأت حولها فئات اجتماعية إريترية وسيطة وعاملة، أصبحت ذات ثقل فى المجتمع الإريترى، وتجاوزت فى نفس الوقت، الواقع القبلى والطائفى نسبيا لذلك فان بريطانيا عندما احتلت إريتريا سنة 1941 لضرب قوة المحور فى المحور الأحمر وشرق أفريقيا، واجهت فى إريتريا قوى اجتماعية متطورة (البرجوازية التجارية ـ الحركة العمالية ـ الفنيون والإداريون) وقد اقتضى ذلك سياسات خاصة لمواجهتها، وقامت هذه السياسات على أساس العودة للتقسيم الطائفى والقبلى للبلاد، متعاونة فى ذلك مع النظام الإمبراطورى الإقطاعى المتخلف فى أثيوبيا من جهة، وخضوعها لتوجيهات الولايات المتحدة ومصالحها مع هذا النظام من جهة أخرى وتشكل هذه النقطة الأخيرة نقطة الانطلاق فى المشكلة الإريترية بعد ذلك.

لأنه بينما أصبح على الحلفاء التعامل مع مجتمع متعدد القوى السياسية فى إريتريا، وبالتالى فهو متعدد المطامح والاتجاهات، كانوا يواجهون مجتمعا اوتوقراطيا مركزى السلطة فى أثيوبيا ومن هن كان طرح فكرة ضم إريتريا لأثيوبيا عسيرا منذ البداية وكانت المنشورات البريطانية للشعب الإريترى فترة الحرب، تداعب فكرة الاستقلال للإريتريين منذ عام 1940، كما يروى زعماء هذه الفترة أنفسهم ـ لم تكن الحرب العالمية الثانية قد انتهت سنة 1943، بينما الحركة السياسية فى إريتريا تتبلون فى تكتل سياسى هدفه الاستقلال، هو ـ محبر فقرى هجر ـ أى ـ جمعية ـ حب الوطن ـ ثم تنشطر بسبب سياسة التفرقة البريطانية إلى ـ الرابطة الإسلامية ـ (ذات صلة بالإنجليز ثم الإيطاليين) ، والحزب الاتحادى (ذو صلة بالأثيوبيين) وبينهما تجمعات فرعية عديدة، مثل الحزب التقدمى الحر، وإريتريا الجديدة، والمحاربين القدامى، وحزب المثقفين، والحزب الوطنى، وإريتريا المستقلة وهى التى تجمعت فى الكتلة الاستقلالية، ثم الجبهة الديمقراطية فى مواجهة الكتلة الاتحادية ـ وعندما عالجت الأمم المتحدة وضع المستعمرات الإيطالية ليبيا والصومال وإريتريا ـ كان من رأى الولايات المتحدة، ضمها لأثيوبيا، بينما أيد الإنجليز فكرة تقسيمها بين أثيوبيا والسودان، ليمكنها السيطرة على الجزء الشرقى وأجزاء من ساحل البحر الأحمر وأيد السوفييت وعدد من دول العالم الثالث فكرة استقلالها وفى هذه الظروف، اشتدت الحركة السياسية فى إريتريا، وكانت الشخصية الإريترية تتبلور بشكل بارز، صعدت من صراعات الدول الغربية نحوها ولم تكن البرجوازية الإريترية التى تكونت دائما عن طريق القطاعات الوسيطة، تقدر القوة الحقيقية للحركة الشعبية أو تتبنى مطالبها الجذرية، ولذا رأت أن بلورة ـ الكيان الإريترى ـ يمكن تحقيقها، بالتعاون مع أى من هذه القوى الكبرى التى تتحرك من حولها لكن هذه المحاولات جميعا.

نواصل... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click