المُغني الراحل يماني باريا.. في البَدْءِ كانت عقيرته

بقلم الأستاذ: عادل القصّاصْ - ملبورن المصدر: الإفريقية

كَتَبْتُ هذا النص خلال بضعة أيامٍ من ديسمبر 1997، في أسمرا، في أعقاب وفاة الشاعر،

المُلَحِّن والمطرب الإِرتري يَمَانِي قَبْرَمِكَائيل، الشهير بيَمَانِي بَاريَا. لا يُعْتَبَرُ يَمَانِي بَاريَا أحد أبرز أساطين الغناء الإرتري فحسبُ، وإِنَّمَا يُنْسَبُ إِليه القدح المُعَلَّى في مضمار تطوير الأغنية الإِرترية الناطقة بلغة التِقْرِنْجَة. كما كان يماني كادراً سياسياً ومقاتلاً في صفوف قوات جبهة التحريرالإِرترية خلال سبعينيات القرن الفائت. أقام في السودان لعدة سنوات، تواصل خلالها مع عملاق الغناء السوداني محمد وردي، قبل أن ينتقل الأوَّل إِلى العمل والإِقامة في المملكة العربية السعودية. وقد كان الإثنان يكنَّان حبَّاً جمَّاً وتقديراً عالياً لبعضيهما البعض. وقد تَرْجَم يماني بعض هذا الحب والتقدير لوردي بأن قام، إِبَّان زيارة الأخير لإرتريا في النصف الثاني من تسعينيات القران المنصرم، علاوة على طقوس الترحيب السخية به في أسمرا ومدن إِرترية أخرى، برفده بأغلب أعضاء فرقته (فرقة يماني باريا) الموسيقية الخاصة، بل وقام بمرافقة وردي - والغناء إِلى جانبه - خلال جولة الأخير في معسكرات المقاتلين السودانيين في غرب إِرتريا، المتاخمة للحدود السودانية الشرقية، في الربع الأوَّل من عام 1997. أُشْتُهِرَ يماني أيضاً بإنحيازه لقضايا العدالة الاجتماعية حيث كانت له مواقف مشهودة في مساعدة المعوزين من الإِرتريين سواء طوال أعوام إِقامته في الشتات أو أثناء سنوات حياته في إِرتريا عقب تحرير الأخيرة في مطلع تسعينيات القرن الماضي.

في البَدْءِ كانت عقيرته

وإِذْ يحاولُ الواقع أنْ يُسَيِّجَ روحي ببراثنه - وقَلَّمَا لا يفعل - حتى أجدني وقد إِلتجأت إِلى مِشْرَب هُوِّيْتْ الصغير، محدود المناضد، الطاعن في زقاقٍ ناءٍ وفي هدوء عتيق وفي عبق الأغنيات البعيدة. أُنْشِبُ جسدي المُتْعَب في مقعد قَصَيٍّ. أُمَتْرِسُ قلبي بخواطر اليمامة. أحاولُ أنْ أقْتَصَّ لي - هَيْهَاتَ - من براثن الواقع بالإِنهماك في وسامة الماضي وألق الخيال.

- إِنْتَايْ تَسَتِّي؟
أفْتَعِلُ الفكاهةَ:
- حَنْتِيْ دَبُلْ جِنْ، حَنْتِيْ يَمَانِي.

فإِذا بوجه هُوِّيْتْ، المُتَمَسِّكِ بجمال يقاوم وطأة منتصف الأربعين، تتقافز فيه-منه أزمنةٌ، أمواجٌ، أضواءٌ، ظلالٌ وحديقة. تتأمَّلُ وجهي - هُنَيْهَةً - بنظرةٍ مُحْتَفِيَةٍ وبإبتسامةٍ وَرِيْفة، ومِن ثَمَّ تَنْبَجِس - من فمها الداخلي - ضحكة طليقة.

وما أنْ يسري في عروقيَ صوته، حتى أتَشَبَّث بعقيرته:

"أَلَا فَلْتَقُلْنِيَ بَعْدُ؟! أَلَا فَلْتَقُلْنِيَ بَعْدُ؟!"

* مَرَّةً وَلِجَ المكان، حيث كنت أجلِسُ. كان وحده. وقَلَّمَا يكون وحده. وأَنَّى له أنْ يكون وحده - أَإِلَّا في القبر؟! كان يمشي هادئاً مثل قصيدة نثر. وهل كان - ما زال - إِلَّا قصيدةً؟! جَلَسَ. تَوَغَّلَ في الصمت. قلتُ لي، بصوت داخلي، "لعله زغب لحن جديد". تمنيت ألَّا يُهَشِّمَ حضور أحدٍ ما إِيقاعه الداخلي. أختلِسُ إِليه نظراتٍ طفيفة، متباعدة. ف"حضور الأحدٍ ما" له تَبَدِّيَاتٍ شَتَّى. الوجهُ المستطيلُ، كَأَنَّمَا تتنازعُهُ - عن حُبٍّ - السماء والأرض. القُبُّعَةُ المُرْتَدَاةُ بهيئةٍ تناسبُ وضع عَالَمِنَا. النَظَّارةُ السوداءُ التي تحاول، مُكَابِرَةً، تمويه غشاء الدمع السرِّيِّ.

كان، كلما تَوَغَّلَ، أكثر، في الصمت، كلما إِزداد فوحانه إِليَّ... أميرة! ألم أقل لك: "إِنَّني أعرف هذا النوع منَّا! سيماهم في وجوههم من أثر الصمت الخصيب"؟!

أصيخُ إِلى صمته.
"لُبَّيْ مِسَاخَا".
قلبه في عقيرته.
ما أكثر ما أجلِسُ إِلى صوته!

* بعد أن إِختتمت آمال حوارها الصحفي معه، وكنت قد صاحبتها بالكاميرا، صافحني مودِّعاً. حينذاك شعرت بأنه يَدُسُّ أغنية في كَفِّي.

* لا يكمن العطاء في صوته فحسبُ، وإنَّمَا في يده أيضاً.

كان - إِسألوا الفقراء - يمارسُ أغنيته.
بصوته - مثلاً - يَفْعَلُ.
ثَمَّةُ صهيل يفوح من حنجرته.
ولعقيرته شَبَقُ الأجنحة.
صوته هو: بَيَانُ الأُفُق.
إنَّمَا بصوته يقترحُ الغَمَامَ.
ثَمَّةُ، إِذَنْ، إشتهاءاتٍ عريقة تَنِثُّ.

* حنجرته غَزِيرَةٌ.

وهذا بعضٌ مِمَا يهطل إليَّ منها:

أشرعةٌ، نوارسٌ، فراشاتٌ، بيارقٌ، باحاتٌ، إمرأةٌ، أطفالٌ وحدائق.
لَشُدَّمَا أنا مُنْخَرِطٌ في صوته!
أَيُّ شُهُبٍ، أَيُّ فضاءاتٍ تتناسلُ في صوته!
لعقيرته مشيئةُ الرحابة.
المُرُوجُ، المُرُوجُ تراودني.
صوته - تعريفاً - هو الحَضْرَةُ.
أُقْسِمُ بأَنَّني قد رأيتُ صوته.
مَنْ يماحكني فليرى إلى قَوْسِ قُزَح.
إِبراهيم الكاشف، شارل أزنافور، ديميس روسوس، يَمَانِي بَاريَا، رُدْ إِسْتِوَارْتْ، سَالِف كِيْتَا، فيروز، كِنِي رُوجَرز، أَفْرِيْمْ، خوليو إِقليسياس، تِريسِي شَابمَان، ماريَام مَكِبِّا..
هؤلاء..
وآخرون قليلون غيرهم..
وأخريات قليلات غيرهنَّ..
يسندون الكرة الأرضية بحبالهم الصوتية.
---------------------------------------------------------------------

إِشارات:

- هذا تعريب للعبارات الواردة بلغة التِقْرِنْجَة (التي تُعْتَبَرُ اللغة الأمّ لمجموعتين إِثنيتين كبيرتين في مرتفعات إِرتريا وإِثيوبيا، حيث تُعْرَف المجموعة الإِرترية بالتِقْرِنْجَة والإِثيوبية بالتِقْرايْ ( دون أن يعني هذا أنّ تِقْرايْ إِثيوبيا أو تِقْرِنْجَة إِرتريا هم المتحدثون الحصريون بهذه اللغة). ويجمع الباحثون اللغويون على أنَّ لغة التِقْرِنْجَة تنتمي إلى أصول لغوية أفريقية-آسيوية (سامية):

"إِنْتَايْ تَسَتِّي"؟ تعادل: "ماذا تشرب"؟

"حَنْتِيْ دَبُلْ جِنْ، حَنْتِيْ يَمَانِي" تعادل - بحساسية لغوية تحاول أن تؤالف، بنزوعٍ شِعْرِيٍّ، بين دلالاتٍ من اللغة التِقْرِينِيَّة (من تِقْرِنْجَة)، واللغة العربية العامية للوسط المديني السوداني واللغة العربية الفصحى - "واحد كاس جِنْ مُزْدَوَج. واحد يَمَانِي" (في إِشارةٍ فَكِهَةٍ إِلى "أنني أريدك - أيضاً - أن تُسْمِعِيني تسجيلاً لبعض أغاني يَمَانِي بَاريَا").

"لُبَّيْ مِسَاخَا" تعادل: "قلبي - أو لُبِّي - معك".

• "أميرة"، هي صديقة سودانية كانت على علاقة حُبٍّ بفنانٍ تشكيليٍّ سودانيٍّ صديقٍ لي. وقد حال تكالُب خاص بالوضع العرقي-الطبقي لتلك الصديقة دون نمو تلك العلاقة وإِرتيادها منعطفات حاضرة ومستقبلية أخصب. صديقي التشكيلي هذا كان معروفاً عنه قلَّة الكلام. العبارة الواردة بين مزدوجتين في النص مستعارة من رسالة شخصية لي كنت قد بعثت بها للصديقة أميرة، حيث كنت أتحدث عن - وأُثَمِّن غالياً - صمت حبيبها - في ذلك الوقت - وصديقي - إِلى الأبد - ذلك-هذا الفنان التشكيلي.

• "آمال"، هي الصديقة الإِرترية - السودانية آمال علي، التي كانت تعمل وقتها صحفية، مُعِدَّة ومُقَدِّمة برامج متنوعة بالقسم العربي للتلفزيون القومي الإِرتري. أما الحوار الصحفي، المشار إِليه هنا، والذي كانت آمال قد أجرته في أسمرا مع ذلك - هذا الفنان العملاق في منزله خلال إِحدى أعوام منتصف تسعينيات الألفية المدبرة، فقد تَمَّ بحضور الصديق الشاعر محمد مدني وشخصي، كفريق عمل غير رسمي وصديقين حميمين، لآمال. فمن جهة، وبالإضافة إلى مواقف سياسية، ثقافية وإِبداعية ماضية وماثلة متشابهة بين يماني ومدني، كان الأخير - وما يزال طبعاً - يتمتَّع بمعرفة عميقة باللغة التقرينية، وهي اللغة الأم ليَمَانِي بَاريَا، وبطاقتها التعبيرية، الشعرية سيَّما. ومن جهة أخرى، أرادتني آمال - وهي العليمة بحبي ليَمَانِي - أن أُوَثِّقَ لها ذلك اللقاء الصحفي بالتصوير الفوتوغرافي. كان ذلك الحوار قد نُشِرَ - عبر الصديق فتحي الضو - في صحيفة "الوطن" الكويتية، التي كان فتحي مراسلاً رئيساً لها ومديراً لمكتبها في أسمرا.

Top
X

Right Click

No Right Click