الأستاذة الفنانة/ عرفه حماد صوت بروعة (الأبنقلا) وإرادة باسلة

بقلم الإعلامي الأستاذ: محجوب حامد آدم - صحافي وكاتب ارتري

بارنتو... حاضرة إقليم القاش بركة، المدينة الوادعة والواعدة، الرابضة فوق الجبل والممتدة في السهل تنوع وتناغم،

بسكانها وزوارها وتضاريسها، بشوارعها وإزقتها... بمجمل حياتها، جذورها وظلالها، كانت منابع الوحى للكثيرين من أبنائها، وهى التى تمنح الحرف واللون الإنساني لمبدعيها، وظلت البراري والجبال والهضاب التى تكبر وتصغر - على مد البصر - في إخضرارها الأبدي منبع آخر لوحي إنساني مستدام.

يشعر الداخل إلى بارنتو بتلك الأريحية التى تفوح من جنباتها والتشكيل الرائع لنسيجها الإجتماعى، والإيقاع الجميل لحركة الناس اليومية، والألسن التى تتباين وتتقاطع أصواتها في حوار مموسق (كوناما / نارا / تقرآيت / تقرينيه /عربي)، ثم ذلك التمازج السلس ما بين مظاهر الريف والحضر، يتكاثف أحيانا ويخبو أحيانا، كلما توغلت في وجدانها وتمعنت أطرافها المطرزة بأسباب الروعة. لذا كان من الطبيعي أن تظهر أنماط إبداعية مختلفة، تقوم على إعتمال كل ذلك المعطى الجمالي، وإنعكاساته على أخيلة الناس، ومنتوجهم الإبدأعي.

الفنانه/ عرفه حماد بلي...

واحدة من كثيرين أنتجهم هذا الزخم الجميل، لهذه الشابة تجربة تستحق الإشادة والتقدير وجديرة بأن تحكى، مرت فيها بإنكسارات وإنتصارات، ضمن رحلة حياتية طويلة بمقياس المكابدة و الثبات، حيث تعاملت فيها مع اليأس كطاقة محفزة على طريقة (جان جينيه) الذي لم تسمع عنه !.. عموما تجربتها تلك هي ما جعلتني إنحاز إليها.

عرفه حماد، من مواليد مدينة بارنتو عام 1983 عاشت حياة كريمة وهادئة ومستقرة مليئة بالمسرات تحت كنف والدها الذى كان يعمل فى التجارة.. وشاءت الاقدارأن تنقلب تلك المعيشة الميسرة رأساًعلى عقب بعد أن دب خلاف بين والديها أدى إلى إنفصالهما، لتصبح عرفه واخوتها ضحية لذلك الواقع الجديد!.

لم يمض وقت طويل على صدمتها الأولى، حتى فُجعت بوفاة والدها، وأضحت الأسرة بلا معين، ما جعل عرفه مضطرة الى مقاطعة دراستها وهى لا تزال على العتبات الأولى من المرحلة الثانوية لتنخرط في الحياة العملية وأن تتحمل جزء من أعباء أسرتها.

إشتغلت عاملة في إحدى بساتين بارنتو، تعمل طيلة النهار في تسوية الجداول وسقى الإشجار وحفر الاحواض وغيرها من الأعمال التى تفرضها ظروف البستان، لتعود في المساء الى أسرتها بحفنة من النقود تنفقها الأسرة بتدبير شديد على مطلبات الحياة القاسية.

في الحقل تعلمت عرفة الصبر والجلد وتحمل المسؤولية، وفي البيت تعلمت الحرص الشديد على إخوتها الصغار وهى بعد صغيرة.. ترعاهم بكل يسر وحب، يخرجون جميعا في الصباح حاملين حقائبهم متوجهين الى المدرسة وهى تتجه صوب البستان متحملة وعورة الطريق من أجل أن تنير طريقهم بالعلم وهى مزدانة بكل معاني الوفاء والتفاني ونكران الذات.

لم تمنعها قسوة الحياة وعثراتها الشائكة من إشباع هوايتها وميولها نحو الغناء، بل حاولت تقسيم وقتها بين العمل في البستان والبيت والإنخراط مع رفيقاتها في البروفات التى تقيمها فرقة (الإتحاد الوطني لشباب وطلبة إرتريا) في بارنتو، ومنها بدأ يشرئب صوتها.. ولأنها تجيد أكثر من لغة كان حظها أوفر، وقد ساعدتها ملكات صوتها في إنجاز نجاحات، ولفتت انتباه كل من استمع إليها.

و لـ (كوناما) لغة مميزة، بل هى لغة طروبة تجعلك لا تشبع من الجرس الموسيقي المسكوب عليها والذى يوحى إليك بنكهة إنسانية خاصة تشِع من حروفها وفواصلها عندما يتحدثها أهلها، حتى لو كنت لا تفهم معنى ما يقال، فما بالك إذا سمعتهم يغنون بها..؟؟..

ومجتمع الـ (كوناما) ذلك العالم النقي الملون بأحبار غابات القاش وظلالها، فنان بطبعه، أصيل ومنحاز لموروثه الفلكلوري، لأنه يتكىء على قاعدة تأريخية راسخة، موغلة في القدم وضاجة بالاغنيات والأساطير والأحاجى والحكايات، عالم يشبه - الى حد ما - في دهشته عوالم أمريكا اللاتينية بكل طقوسها الغرائبية.

يستخدم الـ (كوناما) آلة وترية تسمى (أبنقلا) وهى آلة مدوزنه على وتر ً واحد، مما يستدعي قدرات عالية للعازف بحيث ينتج جُمل لحنية متكاملة، ويُلاحظ أن الرقص والتعبير الحركي مصاحب لصيق بأغنية الـ (كوناما)، التي تفرد في جملها الموسيقية حيز متسق للحركات التعبيرية المصاحبة لها.. تعلوا وتهبط حسب درجات إيقاع الطبول الأفريقية الحارة. وهنا يكمن سر جمال الأغنيات عند (الكوناما) وهو مبنى على شكل يشبه التناقض وراسخ في ذات الوقت، تماما كالقدرة على تناول مشروب ساخن وبارد في آن واحد.

فآلة (أبنقلا) الهادئة تعزف بمصاحبة إيقاعات ساخنة، تزيدها حرارة حركة أرجل الراقصين المزودة ببعض علب الصفيح الصغيرة المحشوة بحصى الحجارة لتصدر صوتا عند حركة الأرجل، وهو صوت مساعد في ضبط الإيقاع، تماما كما يفعل راقصي (الكمبلا) سكان جبال النوبة فى كردفان بغرب السودان.

وهى إيقاعات مستوحاة من الطبيعة، تحاكي حركة سير البقر، الماشية التي يعتز مجتمع (كوناما) باغتنائها، ويتفاخرون بإمتلاك أكبر قدر منها، وتدخل في الكثير من أعرافهم كمهور الزواج ودفع الديات وغيرها من المعاملات الاجتماعية، بل يذهب هذا الحب الى أبعد من ذلك حيث يضعون قرون البقر مربوطة على رؤوسهم أثناء الرقص، كدلالة على الفحولة المرموز لها بقرون الثيران.

من هذا العالم الرائع خرجت الفنانة/ عرفه حماد محبة للغناء، وقد حباها الله صوتا جميلا وذاكرة نبت عليها ذلك الغناء ذو المذاق الخاص والطعم الحريف من أغنيات تراث (كوناما) وقاماتهم الفنية أمثال الرواد : (ألاوا أنداقلا) و (شكري دندن) و (أبجي ناتي) و (فانا جاجي).

وقد إستطاعت الإستعانة بكل هذه الثروة الغنائية وإستدعائها بذكاء في عالمها الغنائي، كما حفظت عدد كبير من أغنيات كبار الفنانين المجددين والمعاصرين أمثال (كيما كوري) و (أقبا إبراهيم) و(فدريكو أمبيرتو) و (أرودي تولي) و (دنقى عواد) و (محمد زميل) و (دهب فايد تنقا).

لم تكتفي عرفة بإنتشارها الواسع كفنانة في بارنتو وغيرها من مدن القاش والمشاركة في الكثير من المناسبات، بل دلها طموحها الكبير الى المشاركة في مسابقة (شينقروا)، وهى مسابقة وطنية يشرف عليها مكتب الشؤون الثقافية بالجبهة الشعبية ووزارة الإعلام، و تعنى بإكتشاف المواهب الغنائية الشابة بهدف تفريخ أكبر قدر ممكن من الأصوات الغنائية الجيدة، ورفد الساحة بنوع جديد من الفنانين الموهوبين بعد تأهيلهم وتدريبهم بما ينبغى من علوم الموسيقى ودورها الوظيفى في الحياة، مثلها مثل الكثير من المسابقات التى تقيمها بعض الدول.. إجتازت عرفة إمتحان الصوت وتم إختيارها ضمن المجموعة المؤهلة للمرحلة الثانية.. إثناء تواجدها طيلت فترة المسابقة أظهرت جهد وإهتمام شديدين، لافتة بصوتها الرخيم وأغنيات أهلها الجميلة أنظار الجميع، كما وجدت فرصة للتدريب على تمارين الصوت والتعامل مع اللحن والغناء بالنوتة الموسيقية، وغيره. كل ذلك تم تحت إشراف خبراء بعلوم الموسيقي والصوت، أشرفوا على تدريب وتأهيل المشاركين، قبل وضعهم عند نقطة البداية لمنافسة كانت مشهودة ومشاهدة على اوسع نطاق.

من بين عشرات المتنافسين إستطاعت عرفة حماد أن تجتاز كل المراحل بهمة عالية وتنتزع المركز الأول بجدارة في المسابقة لتتوج نجمة للنسخة الثالثة لمسابقة (شينقروا) على مستوى الوطن للعام 2012 لتدخل عالم الشهرة من أوسع أبوابها. كما أن لهذه المسابقة دور هام في تحقيق الشهرة والإنتشار، بحكم نقل كل مراحلها على الهواء مباشرة عبر الفضائية الإرترية.

نقطة تحول:

عندما سُأُلت عرفه حماد، ذات مرة في إطار التصفيات من بعض البيانات الشخصية، إستوقفها سؤال (المستوى التعليمي..؟؟)

أجابت على هذا السؤال بمرارة مؤلمة، لكنه ترك أثرا غائرا في دواخلها، غير طعم الإنتصار الى خيبة، فقد كان معظم المتسابقين قد أكملوا تعليمهم الجامعي، ما جعلها تقف لأول مرة منكسرة، وتحس بالنقص الذى يشكل كل ذلك الفراغ الذى أقسمت أن تملأ حيزه مهما كلفها الأمر.

عندما عادت الى بارنتو حكت لأهلها وأصدقائها ما عزمت على تنفيذه في أقرب وقت ممكن وهو العودة الى حجرات الدراسة ومواصلة تعليمها، لم تروق الفكرة لمعظم من شاركتهم همها، بل سعوا ساخرين لجعل الفكرة تموت في مهدها، لكنها لم تكترس للسخرية المقعده، بل توجهت لوزارة التعليم لتعرض فكرتها على الأستاذة/ نجاة إبراهيم، مسؤولة التعليم الإبتدائي والمتوسط - آنذاك - بوزارة التعليم / فرع إقليم القاش بركة، ورحبت الاستاذة بالفكرة وقدمت لعرفه الدعم والإهتمام والتشجيع، لتعود عرفة حماد بعد غياب طويل دام عشرة سنوات لمدرسة بارنتو الثانوية، متجاهلة لما يمكن أن يدور حولها من أحاديث، ومتناسيه للشهرة المنقوصة، فقد جعلت جل إهتمامها بتحصيلها الأكاديمي وما يمكن تسخيره من أجله.

سنة تلو الاخرى كانت عرفه تنتقل من فصل الى آخر بنجاح وإهتمام الى أن جلست لإمتحان الشهادة الثانوية عام 2014، وأحرزت نتائج جيدة أهلتها لدخول كلية (عدى قيح للعلوم الإجتماعية - قسم التربية).

ظهرت الفنانة المشهورة في الحرم الجامعي كطالبة مجتهدة ومثابرة، وأبدت نشاطا كثيفا ومؤثرا ورائعا في عدد من مناشط الجامعة المتعددة، وأصبح للغناء طعم آخر معجون بماء النجاح.

حقاً ليس في الحياة ما يسمى بالمستحيل، فالإرادة تصنع المعجزات وتحقق أعلى درجات التفوق.. وها هى عرفه تودع الأيام التى حرمتها الكثير، وتعدّل من وقفتها المنكسرة على خشبة مسرح سينما (روما) حين تلعثمت ذات يوم وهى تجيب على السؤال. اليوم تتمنى لو يتكرر نفس السؤال، لتجيب بكل كبرياء.. (عرفة حماد، دبلوم علم التربية).

تهنئة واجبة، لشخص يستحق:

ألف مبروك الفنانة المحترمة جدا/ عرفه حماد، ونحن نقتسم معك جزء من الإحتفال بهذا النجاح، فالفن ليس مجرد أن نقف على خشبة المسرح ونغني.. بل هو رسالة ومسؤولية وأمانة، ولا يمكن أن ندرك معنى كل هذه القيم ما لم نتسلح بالعلم والمعرفة، قطعا ستضاف حكايتك لذلك الإرث التالد من حكايات الجبل والسهل.

إشارةنشر هذا المقال بملحق الآداب والفنون في صحيفة ارتريا الحديثة الصادرة اليوم الثلاثاء 2 مايو 2017

 

• الإ سم: محجوب حامد آدم

• اعلامي وكاتب ارتري،

• رئيس اتحاد الكتاب الاريتريين بالمهجر،

• المسئول الإعلامي لجائزة محمد سعيد ناود للقصة القصيرة،

• عضو اللجنة الاستشارية للاتحاد العربي الافريقي للتكامل الاقتصادي والتعاون المشترك،

• منتج ومقدم برامج سابق بالتلفزيون الاريتري،

• محرر سابق بالملحق الثقافي لصحيفة ارتريا الحديثة،

• شاعر وقاص ومهتم بثقافات منطقة القرن الأفريقي،

• صدر له ديوان شعر باسم "أندلسية العينين" عن دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع عام ٢٠٢٠،

• يعمل كصحفي مستقل.

Top
X

Right Click

No Right Click