الأستاذ خلف المنشدي في حوار مع ناود للكتاب - الجزء الأول

حاوره الأستاذ: محي الدين علي المصدر: ناود للكتاب

كان يناديه الشهيد سبي بـ (الشحاذ الثاني) على اعتبار ان الشهيد (الشحاذ الأول) في الثورة الإرترية نظرا لأدواره المعروفة في محاولة

جلب بعض الدعم والمساندة من بعض حركات التحرير في ذلك الحين والتعريف بالقضية الإرترية، انه الكاتب والصحفي العراقي الدكتور خلف المنشدي، الذي أقترب من النضال الإرتري في سنوات مبكرة وتفرغ بشكل شبه كامل في جهاز أعلام الثورة وبتكليف شخصي من الشهيد عثمان سبي الذي جمعته به صداقة عميقة تجذرت في معمعة النضال اليومي للجبهة، بالإضافة إلى صداقة ورفاقية مع عدد من رموز النضال الإرتري ومن بينهم الكثيرين من قيادات الجبهة الشعبية، ولم يقتصر دور الدكتور خلف المنشدي في الشؤن الخارجية بل قام بعدة زيارات إلى أرض الثورة وفي ظروف كانت تعتبر جد صعبة، حيث نقل بالقلم والكاميرا معاناة الشعب الإرتري جراء عنجهية الاحتلال الأثيوبي التي كانت تهدف إلى أفراغ ارتريا من أهلها بإتباع سياسة الأرض المحروقة، ومن خلال مقالاته الراتبة في عدد من الصحف عن طبيعة الثورة الإرترية وخلفيتها وأفقها التقدمي،كما قام بعرض الكثير من الصور الفوتوغرافية من خلال المعارض في عدد من العواصم العربية وخاصة دمشق وطرابلس، حيث كانت تلك العروض توثق لهمجية جيش الاحتلال الإثيوبي وتبرز يوميات النضال في الميدان والصمود الأسطوري للثورة وتحاول استنهاض القوى التقدمية في العالم من أجل أن تتحمل مسئولياتها و الانتباه لمعاناة شعب سلبت حقوقه وتآمر عليه الشرق والغرب والعدو والصديق، وقد أنجز الدكتور المنشدي كتابين من أهم ماكتب عن الثورة الإرترية خاصة في ذلك الزمان، أولهما هو (50 يوما مع ثوار إرتريا) أما الثاني فهو (إرتريا من الاحتلال إلى الثورة) وكلا المؤلفين يوثقان لمرحلة هامة من مراحل النضال الإرتري ولا غنى عنهما لأي باحث أو كاتب يود التعرف على خلفية القضية الإرترية وطبيعة النضال التحرري الذي خاضته ولاسيما في بواكيره.

الأمر الأكثر إثارة حسب تقديري هو ماورد في سياق هذه المقابلة وهو أن الدكتور المنشدي هو من خط برنامج (حزب الشعب الثوري) بعد تكليفه، ذلك الحزب الذي اتهم بانه ماركسي الاتجاه والذي تكون في إطار قوات التحرير الشعبية في مطلع السبعينات، بل وكان منزل المنشدي في عدن هو مكان التشاور من أجل قيام ذلك الحزب وبحضور عدد من قيادات قوات التحرير الشعبية من أبرزهم المناضلين محمد علي عمرو والأمين محمد سعيد، ودون شك تعتبر هذه المعلومة جديدة، على الأقل بالنسبة لي.

وعلى الرغم من ابتعاد الدكتور خلف المنشدي عن مواكبة يوميات الثورة نظرا لظروف بلده الخاصة (العراق) ومنفاه ألقسري في عدد من الدول الأوربية، إلا أن الهم والاهتمام بالنضال الإرتري دفعه لنيل شهادة الماجستير عن القضية الإرترية في واحدة من الجامعات الفرنسية، كما نال دكتوراه الدولة في التاريخ من أسبانيا.

وكما يقولون رب صدفة خير من ألف ميعاد، أقول رب سوء فهم قاد إلى مناسبة جميلة، حيث سبق وأن أبدى الدكتور المنشدي تعليقا على واحدة من المواد المنشورة في موقع (ناود للكتاب)، وقد قمت بإزالته اعتقادا مني أن الاسم مستعار، وليس لأن التعليق غير ذي معنى ولم أتيقن من ذلك إلا بعد عدد من المراسلات بيننا بعدها تأكد لي أنه هو نفسه صديق إرتريا الوفي، وكانت النتيجة هذه المقابلة الهامة معه. بقي أن أقول أن الرجل حاليا إضافة لاهتماماته السياسية بشئون بلده (العراق الجريح) فهو يصدر صحيفة المنارة البغدادية www.almannarah.com وهو لازال يلهج بحب إرتريا وثورتها ويتذكر تلك الفترة التي قضاها في الميدان وسط المقاتلين بشوق  كبير.

كما لايفوتني أن أنوه أن الدكتور المنشدي بقدر موقفه المؤيد للنضال الإرتري عموما ووقوفه بشكل حازم من أجل استرداد الحق المغتصب، إلا انه لم يتخلى عن عواطفه المؤيدة لأحد طرفي الانقسام الذي مرت به الساحة الإرترية في العام 1970 وهو جانب (قوات التحرير الشعبية) لأنه كان يرى هذا ماينسجم مع معتقده ونظرته لإرتريا المستقبل، لذا قد تبدي بعض مفاصل هذا اللقاء تركيزا على أحد الأطراف وذلك وفق ماكان يقرأه من مواقف ومعايشة يومية لذلك الجانب، وبالطبع دون أن يذهب بعيدا في خلافه مع الطرف الأخر.

أخيرا إجراء الحوار عبر البريد الإلكتروني، وإرسال الأسئلة ثم الإجابة عليها ربما يفقد الكثير من الحميمية التي كانت يمكن أن تكون فيما كان الحوار مباشرا، لذا أستميح القراء عذرا لعدم الترتيب والضبط في الأسئلة، على أمل ان نجري معه لقاءا مطولا مباشرا وفي القريب ليفصح أكثر عن أهم مرحلة شهدها نضالنا وهي الممتدة من 1967 والعام 1970 حيث شهد أول انقسام في جبهة تحرير إرتريا.

لابد أن أشير أن الدكتور ألمنشدي قد أهدى موقع (ناود للكتاب) مجموعة هامة من الصور النادرة التي توثق لتلك السنوات العجاف من مسيرة ارتريا الوطن والثورة، وهي بكل تأكيد سوف تكون رصيدا توثيقيا لموقعنا ولمن أراد من الباحثين. أيضا نتظر وبلهفة لقراءة مؤلفه الهام عن الثورة الإرترية والذي سيصدر قريبا بعنوان (الأيام الإرترية).

من هو خلف ألمنشدي ؟

ولدت في البصرة جنوب العراق عام 1942 وأكملت دراستي في جامعات فرنسا واسبانيا حيث حصلت على درجة دكتوراه دولة في التاريخ المعاصر من جامعة بلنسية باسبانيا وكانت أطروحة الماجستير في جامعة باريس حول الثورة الارترية ونضال الشعب الارتري

كيف تعرفت على القضية الارترية ؟

تعرفت على القضية الارترية في السنوات الأولى من انفجار الثورة على يد الشهيد عواتي إذ التقيت الفقيد عثمان صالح سبي الذي كان يبحث عن الدعم بكل أشكاله وبالخصوص الدعم الإعلامي لان الثورة في تلك السنين لم تكن معروفة بين أوساط الناس في البلدان العربية وقد توثقت صداقتي بالفقيد بصورة سريعة بحيث أنني وبعد أيام من ذلك اللقاء بدأت اخصص نصف يومي على الأقل لمتابعة قضية الإعلام في الثورة وبدأت على الفور وبتكليف من الفقيد عثمان صالح بإصدار صحيفة الثورة الارترية أو مجلتها وقد توثقت علاقتي بجميع الأشخاص المحيطين في ذلك الوقت بالفقيد سبي وبالخصوص مسئول مكتب الجبهة في دمشق الفقيد محمد علي عمر (افعرورة) والصديق محمد عثمان صايغ والصديق طه محمد نور وكانا يترددان على دمشق ولا يقيمان فيها إلا لماما وكذلك بالصديق علي برحتو وكان يقيم في القاهرة وأعضاء المجلس الأعلى ومنهم السيد إدريس قلايدوس ورئيس الحكومة الارترية الأسبق أيام سقوطها بيد الاحتلال الأثيوبي تدلا بايرو كما تعرفت على الأصدقاء عثمان خيار ممثل الجبهة في الصومال وادم محمد احمد ممثل الجبهة في الإمارات والصديق محمد سعيد ناود الذي التقيته في الخرطوم على ما أتذكر وكذلك ممثل الجبهة في الكويت الصديق محمد علي الأمين والصديق احمد جاسر والصديق عمر البرج ممثل الجبهة في ليبيا والصديق نافع كردي ممثل الجبهة في فرنسا ومحمد عثمان ابو بكر وابراهيم منتاي وعدد كبير آخر من قادة الجبهة وجهازها السياسي في الخارج وقد استمرت هذه العلاقة سنوات عدة تجاوزت ألثمان حيث كلفني الفقيد سبي في سنوات التعارف الأولى بإنشاء مكتب الإعلام المركزي بعيدا عن مكتب ممثلية الجبهة الذي كان صغيرا لا يكفي الجميع حيث أقمنا هذا المكتب والتحق به عدد من العناصر الارترية من ضمنهم الصديق حميد ناصر.

مكتب الإعلام الذي كلفت بتكوينه، ما هي طبيعة عمله، وهل كنت تعد الدراسات التي كانت تصدر في تلك الفترة خاصة أنها كانت كثيرة ؟

لقد كان دور مكتب الإعلام الارتري هو تغطية أخبار معارك الداخل وتعميمها على جميع وسائل الإعلام في العالم، وكنت أتلقى عبر الهاتف أخبار المعارك عن طريق القائد عثمان سبي بالخصوص عندما يكون في السودان، وفي إحدى المرات كما أتذكر اتصل بي هاتفيا وكنت بالكاد اسمع كلماته بوضوح نتيجة رداءة الخط الهاتفي حيث روى لي تفاصيل المعارك التي جرت في منطقة (معشيات) وعندما كان من الصعب علي ان افهم منه اسم المنطقة بصورة دقيقة ردد على مسامعي سلسلة من الأسماء المرتبطة بأوقات الطعام: مفطرات - مغديات - معشيات ثم أشار إلى ان الأخيرة هي التي جرت بها المعارك وان مفطرات ومغديات لا وجود لهما، لقد كان رجلا رائعا، كما أن مكتب الإعلام المركزي كان يشرف على طباعة الكتيبات والكراسات التي تصدرها جبهة التحرير وأيضا يشرف على إصدار صحيفة أو مجلة الثورة الارترية، كما كان يتابع كل ما يكتب عن ارتريا في الصحافة العربية ويمارس الاتصال مع رجال الإعلام العرب والسياسيين لشرح القضية الارترية لهم ويقوم أيضا بترتيب لقاءات إذاعية أو تلفزيونية أو صحفية لبعض قادة الجبهة في وسائل الإعلام العربية.

وعلي القول أن مكتب الإعلام الارتري المركزي كان له دور مهم في الدفاع عن الثورة الارترية وكنا نقدم للعالم العربي والعالم الخارجي وجه الثورة الارترية المشرق وننشر أخبار انتصاراتها المتوالية وكان هذا المكتب همه الأول والأخير تعريف العالم بحقيقة النضال الارتري.

لقد كتبت بعض الكراسات التي صدرت باسم جبهة التحرير الارترية وهذا شرف لي لان تلك الكراسات أو تلك الكتب حملت اسم الجبهة وكان كاتبها مجهولا لاني عندما قررت ان أدافع عن حق الشعب الارتري في تقرير مصيره لم يكن في بالي ابدا ان تخلدني تلك الكراسات وتلك الكتيبات.

وماذا عن دور المرحوم محمد أبو القاسم حاج حمد في أطار إعلام الجبهة في ذلك الحين، خاصة انه تقلد إدارة مكتب دمشق لجبهة تحرير ارتريا في منتصف الستينات تقريبا ؟

فيما يتعلق بالسؤال عن الصديق محمد أبو القاسم حاج حمد فيمكنني القول بأنه كان من المناصرين الدائمين لكفاح الشعبي الارتري ساعد وساند الثورة الارترية بكل الطرق والوسائل وكان سندا لها في السودان وسندا لها في سوريا نتيجة علاقات أبو القاسم المتشعبة، ويكفي وأنا هنا اكشف سرا جديدا بان أبو القاسم كان له دور مهم في نقل المقاتلين من السودان إلى عدن لتكوين قوات التحرير الشعبية بعد مؤتمر أو انقلاب ادوبحا الخطير والشهير فقد كان أبو القاسم احد المسئولين الرئيسيين عن عملية نقل المقاتلين من السودان إلى عدن عبر الطائرات.

ويمكن الإشارة إلى أن محمد أبو القاسم لم تكن له علاقة بمكتب الإعلام لكنه كان صوتا من أصوات الثورة الارترية ومدافعا عنها وتربطني به أواصر صداقة كبيرة وقد ترك الثورة الارترية في آخر الأمر لكي يعمل مستشارا في وزارة الخارجية الإماراتية وانتقل للعمل في أماكن أخرى بعد أن يئس من إصلاح ذات البين لكنه قطعا لم يترك عملية دعم نضال الشعب الارتري.

من هي أبرز الأسماء التي تعرفت عليها عقب انعقاد مؤتمر سدوحاعيلا التاريخي وتكوين قوات التحرير الشعبية لجبهة التحرير الإرترية ؟

كما أشرت سابقا أن الاحتكاك مع القيادات الارترية كان واسعا وشمل في المراحل التالية القيادات العسكرية التي كان لها الدور الكبير في الداخل من أمثال الصديق رمضان محمد نور ومئات من القادة الميدانيين الذين لا تحضرني أسمائهم الآن ولذلك عندما زرت ارتريا مرتين في عز كفاحها المسلح وجدت في ميدان المعركة الكثير من الأصدقاء وفي السفرة الثانية التي كانت عن طريق البحر الأحمر التقينا بقادة تاريخيين أمثال رئيس ارتريا الحالي الصديق أسياس افورقي والصديق رمضان محمد نور الذي رافقنا عدة أيام في تلك السفرة التي استمرت لأكثر من 40 يوما مشيا على الأقدام والصديق الشهيد المهندس ابوبكر محمد الحسن عضو القيادة والصديق الشهيد علي عثمان عضو القيادة الذي استقبلنا في موقع على البحر جنوب مصوع ولي مع هذا الرجل الكبير قصة مؤثرة حيث كلفتني الجبهة الاتصال به بعد أن اعتزل في بيت أهله بقرية جنوب مدينة عدن وكانت توصية القيادة العسكرية بضرورة التحاق علي بالميدان فذهبت إليه وأقنعته بضرورة العودة إلى ارتريا وكان الرجل يكن لي احتراما كبيرا وقد وعدني خيرا، وبعد مرور أسبوع من ذلك اللقاء جاءني ليبلغني بأنه سوف يغادر إلى ارتريا حيث شارك في معظم المعارك التي دارت آنذاك وقيل لي بأنه كان نعم المقاوم لكن القوى الأخرى قتلته بدم بارد أيام محاولاتها تصفية قوات التحرير الشعبية الناشئة والشهيد علي كما أتذكر من أم ارترية وأب يمني أو بالعكس، لذلك فان معرفتي بالقادة العسكريين أو المدنيين السياسيين وكذلك المقاتلين الأفراد كانت كبيرة وواسعة.

(القائد علي هو علي عثمان محمد وهو من أم يمنية وأب ارتري وهو من مواليد اليمن وقد كان عضوا في الجبهة القومية قبل انضمامه إلى الثورة الإرترية ومن ثم انتخابه قياديا في مؤتمر الحزب ومن ثم مؤتمر سدوحاعيلا وقد أستشهد في الحرب الأهلية في مايو عام 1972 وكان إلى جانبه الشهيد البطل ابوبكر محمد حسن عضو قيادة الحزب والتنظيم).

كم عدد المرات التي زرت فيها ارتريا ؟

لقد زرت ارتريا مرتين الأولى عن طريق شرق السودان وبالذات عن طريق مدينة كسلا وقضيت 50 يوما داخل ارتريا والسفرة كانت مشيا على الأقدام وعدت إلى كسلا عن نفس الطريق حيث تعرضت للمضايقة من السلطات هناك آنذاك ومنعوني من مواصلة السفر إلى الخرطوم وحجز مدير الأمن جواز سفري لكني عن طريق البرقيات أخبرت السلطات المركزية في العاصمة الخرطوم بما جرى فأعيد جواز سفري ونقلت إلى المطار ومنها إلى العاصمة حيث استقبلني وزير الخارجية واعتذر عما جرى في كسلا ثم قابلني وزير الداخلية وكان ذلك أيام حكم الرئيس جعفر النميري، وفي كتابي 50 يوما مع ثوار ارتريا لم اذكر مطلقا من أين دخلت ارتريا طبقا لوعد قطعته لوزير الخارجية السوداني آنذاك الذي رجاني بان لا اذكر ذلك حتى لا يتسبب لهم بمشاكل مع الحكومة الأثيوبية وقد التزمت بهذا الوعد حتى هذه الساعة.

في المرة الثانية ركبت سفينة الجبهة مع وفد من رجال السياسة والإعلام كونته بنفسي وغادرنا عدن باتجاه جزيرة كمران أو قمران اليمنية ومن بعدها إلى منطقة تقع جنوب مدينة مصوع واستغرقت رحلتنا البحرية كما أتذكر قرابة 6 أيام نزلنا بعدها البر الارتري وكان في استقبالنا الشهيد علي عثمان عضو قيادة قوات التحرير الشعبية وقضينا ليلة كاملة حتى بزوغ الشمس في المشي المتواصل دون توقف لان الشهيد علي ابلغنا بان وحدة اثيوبية كانت تنتظرنا على الشاطئ منذ عدة أيام وانسحبت اليوم وربما كان ذلك بسبب وشاية وصلتهم من احد جواسيسهم في عدن ولذلك كان الشهيد علي متخوفا من الصدام مع هذه الوحدة ولم يسمح لنا بالتوقف حتى عبرنا السهل ووصلنا الجبال وقد قضيت في هذه الرحلة 40 يوما عدت بعدها بنفس السفينة التي كانت تنتظرنا في منطقة شمال مقاطعة نقفه الارترية بالقرب من حدود السودان البحرية القريبة من بورت سودان وعندما عدت من هذه الرحلة ممزق الثياب حيث فقدت 20 كيلوغراما من وزني أغلقت حارسة المنزل الباب في وجهي لاعتقادها باني طرقت الباب طلبا لحاجة.

في السفرة الأولى كان حظي عاثرا إذ وصلت وسط ارتريا لألتقي بالقيادة العامة العسكرية التي انبثقت من مؤتمر ادوبحا حيث دار جدل مرير مع قائدها محمد احمد عبده والذي كان يكفيه باني صديق لعثمان سبي لكي يناصبني العداء منذ الساعات الأولى.

كان الارتريون حيث تمر قافلتنا المكونة من قرابة 50 مقاتلا يقدمون لنا الطعام والحليب واللبن والذرة المطبوخة وكذلك الشاي والقهوة رغم وضعهم الاقتصادي الصعب وكانت تلك القرى الصغيرة تقدم للثوار الأخبار وتبلغهم بالمخاطر وكان تعامل الثوار مع سكان القرى طيبا ورائعا يدفعون لهم عندما يشترون منهم الحيوانات لإطعام المقاتلين، ويجب الإشارة هنا إلى أن تلك السفرات كانت شاقة وصعبة للغاية فقد كانت في معظمها سيرا على الأقدام وكنا نفتقر للمؤن والمياه ولا زلت أتذكر عين المياه في قرية تكروري بالمنطقة الغربية إذ كان من المستحيل فصل المياه عن بول الإبل وبقية الحيوانات فقد كانت المياه ذات رائحة نفاذة ولم أتناولها رغم العطش لكنها علقت بكفي عدة أيام، فقد كنا نعاني من العطش ودائما ما يقوم الثوار بملء قرب المياه المحمولة على ناقة كانت ترافقنا عند كل بئر نصل إليه في المنطقة لكن تلك القرب لم تكن كافية إطلاقا ودائما ما تنضب المياه فيها ونحن في منتصف الطريق نحو البئر الأخرى كما أن الطعام كان شحيحا لكن القائد الارتري والفصيلة التي كانت ترافقني رغم تلك الظروف القاهرة كانوا على مستوى رفيع من المسؤولية وكان غذائهم محدود بما يأتي به الرعاة في القرى من طعام الذرة المطبوخ والذي يطلقون عليه (البجبوج) وكنا عادة ما نبدأ المسير في الساعة الرابعة فجرا ونتوقف عند منتصف النهار لشدة الحرارة ونعاود السير مرة أخرى في الرابعة مساء حتى يحل الظلام، وكان المقاتلون لا يملكون إلا تلك الملابس التي تغطي أجسادهم وينامون فيها وكنت أنا قد اشتريت شرشفا بعرض متر واحد وبطول مترين لا يقي من شيء افرشه على الأرض وأنام عليه ولا احمل معي غير كامرتي والأفلام وكراسة لتدوين الملاحظات ولم تكن ملابسي تختلف عن ملابس المقاتلين فقد كانت لدي بدلة واحدة استخدمها كل يوم وأنام فيها وليس هناك إمكانية لا لغسلها او لاستبدالها فقد كنا على سفر دائم لكي نلتقي باكبر عدد ممكن من المقاتلين ولم يتغير الأمر في السفرة الثانية فقد كانت المعاناة هي نفسها : العطش وقلة الطعام وقلة النوم فقد كانت ظروف الثورة بالغة الصعوبة وكانت الاتصالات تجري بطريقة بدائية بواسطة المراسلين إذ لم يكن لدى الجبهة أجهزة اتصال لاسلكي لكن سفرتي الثانية كانت أكثر خطرا إذ يبدو أن السفرة كانت مكشوفة لأجهزة المخابرات الأثيوبية لأنهم كانوا ينتظرونا بالقرب من المكان الذي نزلنا به جنوب مصوع وكذلك لاحظنا فيما بعد حركة طيران مستمرة وقال لنا بعض الرعاة بأنهم تعرضوا للتحقيق على أيدي رجال الجيش الأثيوبي حول وجودي هناك وكان سؤالهم ينصب أن كان الناس قد شاهدوا شخصا (احمر اللون) مع جيش التحرير والمقصود بأحمر اللون بلغة المنطقة أولئك الأشخاص الذين لا يشبهون الارتريين كما أن صعوبة السفرة الثانية أنها بدأت بصحراء وانتهت بصحراء اذ انطلقنا من شمال صحراء دنكاليا واخترقنا صحراء نقفة حيث انتهت سفرتنا مجددا على البحر، وعلى الرغم من كون جيش التحرير لا يمتلك وسائل اتصالات فقد كانت المواعيد والبرامج منظمة اذ عندما انتهت رحلتنا في مديرية نقفة على البحر الأحمر كانت السفينة موجودة بانتظارنا وأتذكر اليوم بان توقفنا في السفرة الثانية لعدة أيام في جزيرة قمران اليمنية في وسط البحر الأحمر ربما أنقذ حياتنا إذ أن ذلك التوقف أصاب الجيش الإثيوبي بالملل مما دفعه للانسحاب من شواطئ شمال دنكاليا وهو المكان المقرر لنزولنا.

هل يمكن ان نقول بان جزيرة قمران او كمران كانت تمثل قاعدة خلفية لقوات التحرير الشعبية ؟

نعم كانت عدن القاعدة الأولى وكانت جزيرة قمران القاعدة الثانية وبحكم قربها من السواحل الارترية فقد كانت سفن الجبهة تتوقف فيها لأيام تنتظر أخبار الداخل قبل مواصلة السفر إلى ارتريا ولولا الموقف الوطني الشريف من حكومة جنوب اليمن لما كان هذا الأمر ميسورا لنا، فقد كانت حكومة جنوب اليمن تؤيد وتساند بلا تحفظ نضال الشعب الارتري ولولا كتّاب التقارير وحملات التشويه والأكاذيب لحصلنا على دعم اكبر من تلك الحكومة ولذلك يمكنني اليوم أن أسجل لهم مشاعر الشكر والعرفان على جميع ما قدموه لنا قيادة وقواعد فلولاهم لما كان عملنا ميسورا، وأتذكر هنا قياداتهم الوطنية الكبيرة كرئيس الدولة (سالمين) الذي استقبلني وقدم لي كل عون ممكن وعبد الفتاح إسماعيل الذي اعتبر القضية الارترية قضيته الشخصية وعلي عنتر الذي كان يوقع على طلباتنا دون حتى أن يتمعن فيها كثيرا رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته.

هل استفادت قوات التحرير الشعبية من علاقاتك مع الجبهة القومية في جنوب اليمن خاصة وإنها خارجة لتوها من انقسام راسي وقاعدي في جسم جبهة تحرير إرتريا، وبالتأكيد هي كانت أحوج للدعم والمساندة من قوى داخلية أو خارجية ؟

عندما وصلت جنوب اليمن وبتكليف من الفقيد سبي كانت الأوضاع بالنسبة للجبهة هناك مأساوية إذ أن حملات التشكيك بوجود الثورة كانت قد سرت في صفوف الطبقة السياسية سريان النار في الهشيم كما أن ما جرى في ادوبحا قد وصلت أخباره إلى الكثير من المسئولين مما زاد الطين بلة لكن العمل الدؤوب مع المسئولين السياسيين في البلد آنذاك ومواصلة النقاشات معهم وبالخصوص الرئيس الشهيد سالمين والشهيد عبد الفتاح إسماعيل الأمين العام للجبهة والشهيد علي عنتر وزير الدفاع آنذاك وعدد لا يحصى من القادة قد سهل أمامنا العمل هناك ووطد علاقة قوات التحرير الشعبية عند بدء نشوئها بدولة جنوب اليمن وسمح لنا بالتحرك على اعتبار أن عدن كانت القاعدة الخلفية لقوات التحرير الشعبية عند ميلادها في دنكاليا أول الأمر،إذ شكل جنوب اليمن في البداية الممر الآمن للمقاتلين والمعدات نحو ارتريا وكانت قاعدتنا الثانية في جنوب اليمن هي جزيرة كمران او قمران حيث تتواجد سفن الجبهة، وقد سهل لي جيش اليمن الجنوبي الاتصال بتلك السفن عن طريق قواتهم المعسكرة بالجزيرة وبواسطة رسائل مشفرة كنت باستمرار احصل على أجوبة عليها فقد كنا نستخدم الأجهزة اللاسلكية لجيش جنوب اليمن باتصالاتنا وأتذكر مواقف هؤلاء اليمنيين الأعزاء والتي لا تنسى، إذ أرسلت فريقا من الصحفيين الأوربيين وأتذكر اليوم بأنهم كانوا من البرتغال لزيارة قوات التحرير الشعبية ونقلتهم سفينة الجبهة التي توقفت في جزيرة كمران أو قمران بسبب عطل فني أصاب محركاتها ولم يجد البحارة قطع الغيار التي تمكنهم من مواصلة الرحلة فبقيت السفينة بحمولتها متوقفة في الجزيرة عدة أسابيع حتى وصلتني إخبار ذلك التوقف فاشتريت قطع الغيار المطلوبة وتم نقلي مع الصديق احمد جاسر بطائرة صغيرة تابعة لخطوط اليمدا حيث وصلنا الجزيرة عند الغروب ونزلنا في مهبط ترابي عندها وصلت قوات من الجيش إلى المهبط وعرفونا وعرفوا مهمتنا ونقلونا بسياراتهم للقاء مع الإخوة البحارة الارتريين في الجزيرة، وقد طلب منا الطيار أن لا نتأخر أكثر من ساعة لان هذا النوع من الطائرات الصغيرة غير مسموح لها الطيران الليلي، وعندما تأخرنا أكثر من ساعة نتيجة لبحثي عن الصحفيين الأجانب الذين كانوا يقضون الوقت معزولين عن العالم على شواطئ الجزيرة هم الطيار بالإقلاع دون انتظارنا فمنعه جنود جيش اليمن الديمقراطية وكادت تحصل مشكلة كبيرة لان الطيار اخبر مطار عدن بالتهديد الذي تعرض له من قبل أفراد الجيش وقد وصلت أخبار الحادثة للحكومة اليمنية في الجنوب، وكل ما قالوه لي في اليوم التالي بأنه كان علي إبلاغهم بسفري للجزيرة، فقد كان شعب جنوب اليمن مؤيد بلا حدود لثورة الشعب الارتري ولا يمكن لاحد من الناس أن ينسى تلك المواقف الكريمة لهذا الشعب وللمسئولين في تلك الدولة آنذاك.

إلى أي درجة كان تعاونك مع قيادة قوات التحرير الشعبية وخاصة الشهيد سبي في تقديمه للقيادة اليمنية خاصة وأن أفرادها كانوا يقودون حزبا طليعيا قد يتقاطع مع بعض مايحمل الشهيد سبي من فكر ووجهات نظر ؟

إن الفقيد عثمان لم يكن يحتاج لتزكية مني أمام قادة جنوب اليمن فهو معروف لديهم لكن شكوكهم كانت تحوم حول حقيقة المبادئ التي يؤمن بها الفقيد سبي إذ كانوا يرغبون بطبيعة الحال أن يكون الفقيد سبي يساري التوجه لكنني أقنعتهم بان عثمان صالح سبي رجل وطني يريد تحرير بلاده من الاستعمار الأجنبي وهذا يكفي في المرحلة الحالية، مرحلة التحرر الوطني، وكانت تقارير التشكيك تنهال عليهم من كل صوب والتي كانت تطعن بزعامة سبي للثورة آنذاك حيث استطعت تخفيف هذه الأمور وطلبت منهم أن يرسلوا وفدا للداخل لكي يتأكدوا من وجود الثورة لان بعضهم كان يبدي شكوكه بوجودها أصلا وهذا ما تم في آخر الأمر.

في فترة وجود سبي مطلع ونهاية الستينيات في دمشق كان يردد انه أول ارتري عرض عليه الانتساب لحزب البعث لكنه رفض غير انه يتردد أيضا انه ذهب بعيدا في علاقاته مع بعض أطراف الانقسام الحزبي في سوريا وكثيرا ماكان يجد نفسه طرفا في بعض التناقضات، وتأثير ذلك على مجمل الموقف السوري من قوته الناشئة في حينه أي (قوات التحرير الشعبية) ؟

لم اسمع قط من الفقيد عثمان أن أحدا عرض عليه الانتماء لحزب البعث رغم قربي الشديد منه لأنه من غير المعقول أن يعرض أحدا من الناس على عثمان سبي عضوية حزب البعث لمعرفة الجميع بأنه صاحب موقف وانه قبل أن ينتمي للحزب فان ذلك القبول سيكون نفاقا، لان عثمان البرغماتي الوطني الارتري لا يريد أن يجير القضية الارترية لأية دولة، وعندما كانت المملكة العربية السعودية أيام الملك فيصل تقدم المساعدات لسبي وتلومه على علاقته بسوريا كان يعتذر لهم بأدب بأنه لا يمكنه أن يرفض مساعدة أية دولة عربية للشعب الارتري وأتذكر بان المغفور له الملك فيصل قال لسبي بان الله أحيانا ينصر المؤمن بالكافر ويؤكد لي الفقيد عثمان بان الملك أنقذه من ورطة حقيقية حول علاقة الجبهة بسوريا على اعتبار أن ملك السعودية كان يعتبر النظام في سوريا نظاما ملحدا أو كافرا، لكني لا اجزم بان هذا الأمر لم يعرض على الفقيد عثمان وعدم معرفتي بهذه الواقعة لا ينفيها.

إن الفقيد سبي لم يذهب بعيدا في علاقاته بعد الانقسام الذي جرى في سوريا آنذاك لكنه استفاد من السلطة الجديدة في مواصلة دعم ارتريا وكان الصديق محمد أبو القاسم عراب بعض تلك العلاقات فقد كانت تربطه علاقات طيبة بصلاح جديد الذي سيطر على السلطة في البلاد آنذاك.

Top
X

Right Click

No Right Click