وثيقة لندن مدخل الحوار الغائب - الحلقة الأولى

بقلم الأستاذ: محمود عمر - بورتسودان المصدر: النهضة

نالت وثيقة نخبة لندن حظاً كبيراً من النقاش بين مادح وقادح ومتردد، وقد أردت أن أبحث عن مكنونات

هذه الوثيقة وما إذا كانت تحمل في طياتها من مخاطر علي حسب ما تناولت بعض الأقلام التي لا يشق لها غبار من كتاب وسياسيين مخضرمين وشباب ناشئين، وكلما اطلعت علي مقال من المنتقدين أعدت قراءة الميثاق أملاً أن أحصل علي المواد المتفجرة بداخلها، حيث لم يتجاوز حاصل جمع الانتقادات ما أسمته بخطورة الفرز الاجتماعي وتجزئة دماء الشهداء وتقسيم الوطن.

لم أخط بقلمي للإتيان بأكثر مما تناولته الأقلام المعتقة التي تضامنت مع الوثيقة، ولكن لإثراء الحوار وتحليل المرحلة التاريخية عالمياً واقليمياً وتجانس رؤية الوثيقة مع المرحلة.

كما تقول الحكمة الايطالية (كذبة تتكرر خيرٌ من حقيقة تقال مرة واحدة)، فإن كان ما طرحته الوثيقة رؤية حول قضايا الوطن الشائكة وإثرائها بالحوار، فإن الكذبة الزائفة وتكرارها يكاد يشوش علي من علقوا آمالهم علي هذه الوثيقة، وحتى نطمئن الإخوان الحراس الغلاظ الشداد علي الوطن أن ارتريا دولة بحكم النضال والقانون. بحكم النضال منذ تشكيل الرابطة الاسلامية في حقبة الأربعينيات - مرحلة تكوُّن الدولة القطرية - بقيادة الشيخ/ ابراهيم سلطان ثم الكتلة الاستقلالية التي تواثقت فيها القوى الوطنية في حركة تحرير ارتريا بقيادة المناضل/ محمد سعيد ناود، ثم سجال حرب شعبية طويلة الأمد أطلق شرارتها المناضل البطل الشهيد/ حامد ادريس عواتي تحت راية جبهة التحرير الارترية وقدم الشعب الارتري عامة تضحيات جسيمة ودفع الثمن الغالي لسياسة الأرض المحروقة في قرى المنخفضات، حيث رفع (هيلي سلاسي) شعار (جفف البحر ليموت السمك) وكانت مجازر يندى لها الجبين في عونا وعد ابرهيم وشعب وعايلت وقمهوت وحرقيقو، إلا أن تلك التضحيات لم تثن ذلك الشعب عن النضال حتى طرد آخر جندي اثيوبي في 24 مايو 1991م تحت ضربات الجيش الشعبي ثم خاض شعبنا معركته القانونية في عملية الاستفتاء تحت رعاية دولية ومنظمات اقليمية وقال نعم للحرية والسيادة الوطنية وبهذا أصبحت ارتريا دولة ذات سيادة وعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة بشهادة المجتمع الدولي والاقليمي بما فيها اثيوبيا المستعمر السابق.

إن الوثيقة لم تأت بشيء يدعو الي هذا التهديد والوعيد الذي يستدعي التبرؤ منها بل تخاطب آثار مرحلة تاريخية سابقة وهي الدولة الحديثة في العالم وأثرها علي السلم الاجتماعي وهي أن الدولة القطرية في افريقيا لم تأت كتطور طبيعي للشعوب بل ورثت نخب المركز الاستعمار ووضعت أمام امتحان صعب وهو مسئوليتها عن البلاد والعباد بحدودها السياسية القسرية التي وضعتها دول اوربا إثر حروبها علي المصالح الاقتصادية والممرات الحيوية التي لها أهميتها في السلم والحرب وكانت مسئولية النخب في المركز بناء الدولة القومية ولكن النخب تقمصت دور الدولة وفصلت البلاد علي نفسها وأدارتها لصالح استغلال خيرات البلاد ونهبها لصالح المركز واعتماد الثقافة الخاصة بقبيلة المركز وأعدت آلة بطش قهرية اختارت لها أفراداً بدقة وأهلتهم في كل صنوف التعذيب للمواطن وحفزت الجلادين وفق تفننهم في إذلال المواطن وإضفاء الهالة القدسية علي سلطة النخب الفاسدة. استمرار هذا النمط من الحكم خلال عقود الدولة القطرية أدى الي تمزيق عقد الدولة، وظهر أثر هذا الغبن بصورته الخطيرة في الزلازل السياسية التي اكتسحت المنطقة العربية والتي عرفت سياسياً بالربيع العربي والتي تحولت الي حروب داخلية دامية بين آلة الدولة المسلحة وشعوبها العزلاء ولم يستثن الأطفال والمسنون، يحدث هذا في بلاد الحضارت التاريخية، في العراق، أرض سومر وآشور وبابل وحدائقها المعلقة ودولة الخلافة الاسلامية العباسية، ومصر أرض الفراعنة والبطالمة وعمرو بن العاص، وفي دمشق بني مروان، واليمن السعيد أرض سبأ وسد مأرب.

أما فشل النخب في افريقيا جنوب الصحراء أصبح معه الاقتتال يأخذ منحىً خطيراً، ألا وهو القتل علي الهوية لحداثة الكيانات الافريقية، كانت منها حروب قبائل الهوتو والتوتسي في منطقة البحيرات والتي شملت خمس دول بل تفاقم عدم الرضا والإقصاء الي احتدام الصراع في المنطقة بدءاً بالحرائق إثر انتخابات الرئاسة في كينيا واستمرار محرقة الصومال والصراع في مالي والقتل البشع في افريقيا الوسطى والانهيار المفاجئ في جنوب السودان الذي يقضي علي الأخضر واليابس ويلقي هذا الصراع بظلاله وتأثيراته علي كل من السودان ويوغندا وكينيا واثيوبيا. هذه البراكين التي أسالت لعاب الدول الاستعمارية التي تدخلت أو تتدخل تحت حجة حماية أرواح المواطنين أو تثبيت الأنظمة التي تخدم مصالحها، هذا بالإضافة لمشروع سيمفونية مكافحة الارهاب التي لا تعرف السيادة القطرية بل تقضي علي أبسط خلية في أي مكان في العالم تحت مبرر حماية الأمن القومي لتلك الدولة العظمى.

هذه هي منصة المرحلة السياسية عالمياً واقليمياً التي تقف عليها أو تنطلق منها وثيقة لندن التاريخية وهي محاولة جريئة لمواكبة التطورات، وشعارها بالنسبة للتاريخ ينطلق من فهم التاريخ بأن أي انسان يقرأ التاريخ يفهم بعدم الطاعة والعصيان للحاضر مع التمرد تتم صناعة التقدم، وكذلك فهم الواقع المحلي هو أنجع وسيلة لتجاوزه أو تغييره، وسوف أتناول في المقال القادم (وطنية الوثيقة ومواكبتها للمرحلة والواقع الارتري لانقاذ الوطن).

Top
X

Right Click

No Right Click