إريتريون حالمون من دفاتر العشق والخيانة والمعارك

بقلم الأستاذ: محمود أبوبكر - كاتب أريتري مهتم بالشأن الثقافي والسياسي  المصدر: ذات مصر

مكابدات عظمى، يخوضها العشاق الكبار بصمتٍ، في ساحات المعارك. ففي حين يسعون بكل حزمٍ ودقة،

من أجل أن تكلل معاركهم الحربية بالنصر، إلا أنهم يبدون أكثر تسامحًا، أمام نداءات القلب والروح التي يدركون مسبقًا أنها قد تفضي بهم نحو هزائم نكراء.

فـحِيلُ العقل المُـدبرة بدقة ودهاء، قد تضعف أمام انكسارات القلب، وحصاره غير المتوقع، وثمة أحداث تجري خفية، بالتوازي مع الأحداث الكبرى، وحينها لا يعرف المقاتل أين تبدأ الهزيمة وأين ينتهي النصر، وأي المعارك أكثر ضراوة من غيرها.. بين مكابدات القلب، وحيل الأعداء.

عن العاشق "السيئ الحظ":

في التاريخ الإريتري انتصارات وهزائم، يحفظها المقاتلون في صدورهم، ويروونها خفية، كتاريخ موازٍ لذلك الذي ينشر في ”مذكرات الحروب“ والمناهج الدراسية، فتلك الكتب لا تحتفي بدوافع القلب وأغاني الحب، لا تلتفت إلى الضعف الإنساني، ولا تعرف للمناضل خفقة قلب يرق أو ينتبه لـ ”إنسانيته“!

فمن المؤكد أن الكثير من قصص الحب، يموت صمتًا وكمدًا، ويبقى البعض الآخر منها، راسخًا في الذاكرة، لجهة ارتباطه بعشاق مبدعين بثوا تجاربهم وانكساراتهم في أعمال إبداعية خالدة.

ففي العهد الاستعماري الإيطالي، حكايات لا تزال تروى، وتتوارثها الأجيال، فذاك شاعرٌ تغنى بحبيبته (ابنة الضابط الكولونيالي الايطالي) بعد أزمنة من الصمت، ومكابدات العشق من طرف واحد، إذ انبرى وهو يشهد لحظة رحيلها - حين تقرر نقل الوحدة التي يشرف عليها والدها، من إريتريا نحو المستعمرة الإيطالية حينها، ليبيا - ما دفعه للتغني جهرًا هذه المرة منشدًا في حزن: ”لآلي ولالينا بابورا تروبلي سافرا“، ولآلي هذه موال يوازي (يا ليل يا عين عند العرب)، وبعد استهلاله بهذا الموال، يعرج مباشرة نحو ”الخبر“ الموجع، ”آه لقد أبحر مركبها نحو تروبللي“ (طرابلس)!

ويبث وجعه أكثر في عقده لمفارقة غرائبية: ”أهلي غاضبون، زادُهم النار الحمراء، وأهلك منتشون يرتوون بدماء أهلي، فليرحل جيش الاحتلال عن أرضنا.. ولتبقي أنت ها هنا.. حيث لا شيء يستحق الحياة بعدك“!

فبينما يخضع الشاعر طواعية، لذلك الاحتلال الذي يزرع مساحات القلب خضرة وبهاء، يقف - في ذات الوقت - بالمرصاد أمام اغتصاب الأرض، وإذلال مالكيها.

هو الحب في حالته الفطرية الأولى، حيث لا يُحاسب المعشوق بجريرة أهله، ولا يرتهن القلب لمحددات الجغرافيا، والعرق، والطبقة الاجتماعية، كأن الحب ”حالة هدنة“ مع كل معارك الوجود.

حكاية فياميتا:

ثمة حادثة أخرى، تُروى سرًّا، عن حسناء عشرينية تدعى ”فياميتا“، جنّدها الثوّار الإريتريون كفدائية، للإيقاع بضابط كبير من جيش الاحتلال الإثيوبي، وتلك حيلة طالما نجحوا في تنفيذها بجدٍّ واقتدار، إلا أن قلب العشرينية الحسناء لم يكن - كما يبدو - قد تحصن بما يكفي من القلاع الشاهقة.

في البدء بدت المغامرة محض لعبة، تنتهي في ساعة الصفر، التي يحددها قائد ما، يتابع الغواية من كثب، لكن مياهًا كثيرة وهادرة ظلت تجري، على غفلة من أزمنة الثورة، وتبني جسورًا وخرائط، تمتد من القلب إلى القلب، وفي كل لحظة تنهار جسور وقلاع أخرى، حتى أتت لحظة الصفر، وقد تحولت قواعد اللعبة تمامًا إلى النقيض!

وضعت فياميتا كل عناصر اللعبة أمام الضحية المفترض، ليقررا معًا الفرار من ساحة الصراع بأسرها، ويهاجرا إلى حيث خارطة تضمن لطفل الحب بالنماء داخلهما، بعيدًا عما يُبدد صفو التفاصيل الصغيرة، التي تبدو ”خيانات كبرى“ لدى المتحاربين.

لعلها هزيمة ثقيلة، وفقًا لكل القيم التي شبت عليها ”فياميتا“ في لحظات ما قبل ”اللعبة الكبيرة“ لكنها لسبب ما عدته ”نصرًا“ مباغتًا بتوقيت القلب الذي دق دون حسبةٍ مستحقة.

فالأحداث الصغيرة والجانبية، قد تقضي في لحظة ما على الحدث الأكبر، ولا تبقِي منه شيئًا، وغوايات الهوى في تعريف العشاق، تبدو كالنقطة المركزية في ورقة التوت، منها تبدأ كل الخطوط وإليها تنتهي.

من يفضّ عناق الغيم؟

7 سنوات (1991-1998) كانت فترة مسروقة من عمر الاحتراب، أو ”حالة هدنة“ مقتطعة للغزل، قبل أن تعود الساحة لسابق عهدها من المواجهة المستعرة بين الجارين اللدودين إثيوبيا وإريتريا، وتبدأ مسيرة أخرى من التشظي، وشكل جديد من الممارسات البشعة، المتمثلة في استهداف الرعايا المقيمين في البلدين، بعد اتخاذ قرارات تعسفية تتعلق بإجبارهم على العودة إلى موطنهم الأصلي، دون أدنى مراعاة للخلفيات الشخصية والأسرية، وكان من الطبيعي أن يبدو كسب كيلومتر أو اثنين على أرض المعركة، أهم بكثير من خسائر الأرواح وتشظي القلوب، في الخط الفاصل بين هنا وهناك.

كأن ”مرب“ نهر لا يجيد عزف موسيقى الجداول، وإن أجاد تبدو مقطوعاته كسيمفونيات نحيبٍ، لرثاء باذخ الألم.

هنا تمد الأغنية أجنحة من غيم، حيث لا أحد يمكنه أن يرسم خطا للمسافة الفاصلة، ويفض عناق الغيم، أو يبدد حميميته، وحدهم من يمشون على الأرض يملكون قدرة توفير الأعداء بالأعداد المطلوبة واللازمة، ولا يهم كثيرًا أو قليلاً، حجم الخسائر العامة والفردية، فثمة خسارات مربحة، وثمة ”علاقات حب“ تعطل مسيرة الوطن (في عرف بعض الأنظمة) وحيث تنتهي سياسات تلك الأنظمة يبدأ وجع الأغنيات!

”دهلك“ كان عنوان أغنية للفنان الإثيوبي ”تيدي أفرو“ انتشرت كالغيم في السماء الممتدة من ”أديس أبابا“ إلى ”أسمرا“، والتي تروي حكاية عاشقين، كانا أول ضحايا الاحتراب، بعد تهجير الحبيبة إلى موطنها إريتريا، كانت الميديا في الطرفين ترش ما توافر من الملح على الجرح، والأغنية بالكاد ترتق بعضه:

تحضرين في منامي،

وأنت هناك في جزيرة دهلك

على مركب واهن،

وقد حاصرتك الأمواج والوحشة والقلق

تحملين طفل حبنا وليدًا يخشى الغرق

تتوصلين الرب بلقاء ما،

فإذا بالموج يصمت فجأة ليبتهل لله معك!

حالة هدنة مستحقة:

الحالة الإريترية ليست استثناءً، بل ليس في التجارب الإنسانية استثناء، خصوصًا في حالات الحروب، حين تتضاعف آلام العشاق، المحاصرين بين واقع المعارك، ومخيال القلب الذي يدوزن نبضه على إيقاع الرصاص.

يُعرّف أنبل المشاعر بـ”الخيانة“، وتوصف أقسى التجارب وأبشعها، بـ”الوفاء“ للوطن! هل الوطن أصغر من احتمال حالة حب صادقة؟! وهل خديعة ”محبٍّ مخلصٍ“، تُعد نصرًا للوطن؟!

أسئلة تحيلنا إلى واقعة تعرض لها الروائي الثوري الكبير، جابرييل جارسيا ماركيث، الذي أجاب عن سؤال المعترضين على كتابته لقصة حب في زمن الثورة، بالقول ”كتابة قصة حب جميلة، لا يمكن أن تعطل مسيرة ثورة“! وحتمًا إن كان تدوينها لا يعطل، فمن باب أولى أن وجودها لن يعيق أية مسيرة.

Top
X

Right Click

No Right Click