الزين ياسين... العبقرية الضائعة - الجزء الرابع

بقلم الأستاذ: أحمد داير - كاتب وناشط سياسي إرتري

فى الفترة التى كان الزين يتولى فيها مهام الأعلام بعد المؤتمر الوطنى الأول كان قد أختار أفادة للقراء

عبدالقادر رمضان و ازين ياسين شيخ الدين و احمد علي عيسي و محمود محمد صالح و محمد نور احمد

أن يكون فى كل عدد من مجلة (النضال الأرترى) مصطلحا يتم التعريف به.. مثال... طوباوية.. ليبرالية... بورجوازية صغيرة ...الخ.

ماكنت أسمعه من بعض المناضلين هو الرفض لهذا الأسلوب ووصفه على أنه دليل على توجه للجبهة مرفوض من قبلهم.

أصلا كان كما أتضح فيما بعد أنه كان قد تم تكوين حزب العمل قبلها بسنوات ورغم أنه كان سريا ألا أن أحد الأعضاء سرب الخبر ولم يعد كذلك.

ومع مضى أكثر من أربعة عقود على تكوينه فأن التحفظ يسود كثيرا من المناضلين المؤسسين له أو الذين كانوا أعضاء فيه برغم الهجمات الشرسة عليه ومحاولة تحميله فشل الجبهة.

بعض المناضلين كتب عن التجربة وأحد هؤلاء المناضل أبراهيم محمد على القائد المعروف فى قيادة الجبهة والذى يتميز بالشفافية والوضوح؛ ومع أننى لم أطلع على كتابه (مسيرة جبهة التحرير الأرترية... بداية ونهاية) ألا أننى استطعت أن أحصل على فقرتين منه تتحدثان عن تكوين الحزب وأتوقع أن الكثيرين لم يحصلوا على الكتاب ولهذا فسيكون مفيدا تزويدهم بالفقرتين.

جاء فى الفقرة الأولى:

وبذلك يمكن القول أن حزب العمل وبحكم برنامجه للثورة الوطنية الديموقراطية وممارساته العملية والتوجهات الفكرية والسياسية لقاعدته كان حزبا وطنيا يساريا أكثر من كونه حزبا أيديولوجيا ماركسيا حسب المعايير المتعارف عليها للأحزاب الماركسية التقليدية.

وجاء فى الفقرة الثانية:

ما أؤكد عليه هنا فى هذا الصدد أن الدافع الحقيقى وراء تأسيس حزب العمل لدى مؤسسيه كان بالدرجة الأولى محاولة طرح فكر سياسى حديث فى الساحة الوطنية، أملا فى الأرتقاء بالصراع داخل جبهة التحرير الأرترية من صراع العصبيات الضيقة ألى صراع فكرى سياسى عقلانى، وصولا ألى أخراج جبهة التحرير الأرترية والثورة من مستنقع الصراعات القبلية والأقليمية والشخصية الذى غرقت فيه والذى كان يدور بين مكونات المجتمع المسلم حصرا، أذ لم يكن للمسيحيين وجود مؤثر فى ذلك الوقت.

ولم يكن تأسيسه من أجل نشر الماركسية فى مجتمع يعانى من التخلف أقتصاديا واجتماعيا تسود فيه الأمية وواقع تحت احتلال أثيوبى ويخوض حربا ضد عدو شرس.

مازالت المسألة تحتاج إلى وقفة.

الحديث عن حزب العمل الأرترى لا يمكن أن يكون منصفا دون الألمام بتفاصيل كثيرة عنه وتأتى غالب الأنتقادات بتقدير أن بعض من أخطأ من قيادة الجبهة السياسية والعسكرية أنما كان ذلك بقرار من الحزب وهذا يحتم على الموجودين حاليا من عناصر الحزب كتابة شهاداتهم حول تلك الفترة من تاريخ الجبهة خاصة أننا نقترب من الذكرى الأربعين للهجوم الغادر على الجبهة فى ٢٨ اغسطس ١٩٨٠.

كثير من الأخوة الذين ينتقدون الحزب بشكل متكرر ويحملونه فشل الجبهة يفترضون على ما يبدو أنه كان يضم سياسيين فقط ويستبعدون القيادات العسكرية.. ولهذا كان ملفتا أشارة المناضل أبراهيم محمد على وهو يترحم على القائد الشهيد عبد الله أدريس محمد (ناضلنا معا فى الجبهة والحزب). ومع ذلك كان كثير من كوادر الجبهة غير حزبيين ومن الواضح أن ذلك لم يمنع التعامل معهم بتقدير.

ذكر لى الأخ محمد عثمان داير أنه حين كان موجها فى سكرتارية اللجنة التنفيذية أن الزين مر عليه - وكان عضوا فى المجلس الثورى - وتحدث فى موضوع أدارى وأختلفا حوله وغادر الزين بعدها.. كان هناك أحد المناضلين المتواجدين وانتظر مغادرة الزين ليقول لمحمد عثمان ما معناه.. هل جننت؟ أنك تخاطب الأمين العام.. فرد عليه أنا أخاطب الزين عضو المجلس الثورى ولست حزبيا لأتلقى توجيهات مباشرة.

من المؤكد أن الحزب كان متأثرا بالحزب الشيوعى السودانى خاصة أنه تكون فى فترة الديموقراطية الثانية فى السودان حيث كان للحزب الشيوعى السودانى تأثيره فى الحياة السياسية قبل مؤامرة طرده من البرلمان. من الأشياء المشتركة هى البعد عن الألحاد ففى حين كان الحزب الشيوعى السودانى يرفع جلسات الأجتماعات للصلاة وأختلف أمينه العام الأسبق مع السفير السوفييتى الذى زار مقر الحزب ولاحظ سجادات الصلاة فيه، أوصى أمينه العام السابق بالأمام الذى يصلى عليه صلاة الجنازة.

أتمنى أن تكون الخلافات سياسية وليس هناك فرد أو حزب فوق المساءلة وتجنب الحديث عن أمور تؤثر فى الأسر خاصة أنها جميعها ملتزمة بأحترام العقيدة.

بالنسبة للراحل الزين يس فقد درس الأبناء.. هشام وأخوته فى جدة المنهج السعودى الذى يشتمل كما هو معلوم وبتركيز منذ المرحلة الأبتدائية.. الفقه والتوحيد ...الخ. وكان تعليق الزين وشكواه كما سمعته مرة من ثقل المواد وكثرتها وربما كان يقارن بالمنهج فى السودان ولكنه لم يتحدث عن المحتوى بينما كان فى أمكانه أذا شاء أن يلحقهم بمدارس خاصة تتجنب تدريس التربية الأسلامية وبالتالى فلم يكن لديه تحفظ.

المناضل أبراهيم محمد على بلغت ديموقراطيته أن بعض أبنائه أقرب للسلفيين أن لم يكونوا كذلك ومن طرائف ما سمعت أنه حين كانت هناك أجتماعات للتحالف فى الخرطوم كان بعض أعضاء الحركات الجهادية يداعبونه بالقول (الحمدلله الذى أخرج من صلبك هؤلاء الأبناء). فى العام ٢٠٠٥ قمت بزيارة ألى دمشق وصادف ذلك شهر رمضان المبارك.

دعانا قنصل السودان وهو من أبناء كسلا ألى افطار رمضانى.. المعارضة الأرترية وضمنها المناضل أبراهيم محمد على والأخ حمد كلو الذى كان سفيرا لأرتريا حينها... أدى الجميع صلاة المغرب كما أذكر.. أضافة ألى ما أذكره وكنت أقيم مع الأخ حمد كلو أنه كان يوميا بعد صلاة المغرب وبعد أن يدعو للأهل يدعو بالرحمة لأسمين تحديدا... حسن دبساى قرزا وصالح أحمد أياى رحمهما الله... صالح كان قد رحل فى العام الذى سبق وفى رمضان... حين أتصلت بأم أياى معزيا أخبرتنى أنه قبل ساعات من رحيله كان قد دعا مجموعة من المناضلين - كعادته - ألى أفطار رمضانى... وهكذا غادر إبو أياى دنيانا الفانية بعد أن قام بآخر أعماله... أفطار صائم... يرحمه الله.

كانت هذه نماذج من بعض أقطاب حزب العمل ولهذا تجب مناقشة سياسة الحزب وتأثيرها على الجبهة وخلافات كثير من القوى الوطنية وخروجها من الجبهة والبعد عن خلط السياسة بالدين.

التبس الوصف والتعبير أعلاه للزين على البعض ومع أن بعض من يعرفه جيدا أكد على هذه الصفة فيه هاتفيا ألا أن من المؤكد أن البعض ينتظر تفسيرا لذلك كنت أدخره لنهاية الحلقات ووجدت أن من الأفضل توضيح ما قصدته بضياع عبقريته.

يلاحظ المهتمون أن هناك غيابا لكلمة بحوث أو أبحاث فى تاريخ جبهة التحرير الأرترية وحتى حين أقيم مركز فى بيروت كان للأعلام الخارجى وصار من بعض نتائج ذلك أننا صرنا نعتمد على ذاكرة بعض المناضلين لأحداث جرت قبل نصف قرن أو أكثر. حتى بالنسبة لقوات التحرير الشعبية التى حاولت ترجمة بعض الوثائق لم تكن دقيقة (قرأت قبل أيام أن الصحفى السودانى الساخر أبو الجعافر كتب قبل فترة أن الزعيم سبى كان قد طلب منه ترجمة كتاب). فى أديس أببا حين ألتقيت بالراحل صالح حنيت طلب منى وأنا فى طريق عودتى ألى جدة أن أبحث له عن كتاب صديقه ترافاسكس عن أرتريا... النسخة الأصلية بالأنجليزية كما ذكر.

فى دمشق كنت أتابع نشاط مركز الأبحاث الفلسطينية فى بيروت خاصة مجلة شؤون فلسطينية. على سبيل المثال كان المركز يتابع ما تنشره ٨٠ صحيفة ودورية بمختلف اللغات ويصنف موادها.. لكل مهتم أن يبحث عن دور هذا المركز فى جوجل ليعرف أهميته ويكفى أن مديره د. أنيس صايغ ٦٦-٧٧ (خلفه الشاعر محمود درويش) تلقى طردا مفخخا من اسرائيل أصيب من جرائه بضعف نظر وبتر بعض أصابعه.

كان هذا الدور الذى كان من المفروض أن يلعبه الزين يس بدلا من مواقع كان من الممكن أن يشغلها كثير من المناضلين... تصور أن يكون فى مركز أبحاث فى بيروت أو دمشق أو القاهرة مع الراحلين محمد صالح حمد وأدريس عوض الكريم على سبيل المثال مع أضافة مناضلين آخرين مؤهلين للقيام بذلك. ولأن لا كرامة لنبى فى وطنه وصعوبة شرح كلمة عبقرية فقد أغنانى الراحل رضا محمد لارى الذى كان رئيسا لتحرير جريدة عكاظ وسعودى غازيت وهو يؤبنه عن هذه المهمة وأدناه ماكتبه دون تعديل: الى اللقاء فى دار البقاء.

جمعنى العمل الصحفى فى جريدة سعودى جازيت بالزميل الصديق زين العابدين يس الذى ظل يعمل معى مترجما فى هذه الجريدة لسنوات استمرت أحدى عشرة سنة.

فى الحقيقة أن العمل مع الصديق زين العابدين يس كان متعة لأنه كان مثقفا حقيقيا يدرك تماما كل ما يدور من حوله ويتخذ من ذلك موقفا ثابتا لا يحيد عنه مهما كانت الظروف المحيطة به؛ مما جعله بالفعل يتضرر فى مشوار حياته بانتقاله ألى مواقع عمل مختلفة فى داخل وطنه ارتيريا أو فى خارج وطنه بدول مختلفة، حتى استقر به المطاف للعمل بجريدة سعودى جازيت فى جدة.

مساهماته لم تقف عند حدود نقل الكلام العربى ألى كلام أنجليزى، وأنما كان يشارك معنا جميعا بالرأى فى اجتماعات التحرير اليومية؛ بعد أن تم اختياره عضوا دائما فى هذه الأجتماعات، لأدراكنا لقدراته المتميزة فى العمل الصحفى، وكانت آراؤه سببا فى النشر المتميز للخبر أو التحليل أو التعليق.

لا نعطى يس كما كنا نناديه فى سعودى جازيت حقه لو قصرنا دوره على العمل الصحفى، لأنه كان صاحب ثقافة شمولية، أن حدثك عن الدين الأسلامى، ذهبت بك الظنون ألى أنه خريج الأزهر، وأن حدثك عن المسيحية، لظننت أنه راهب فى أحدى كنائسها، وأن حدثك عن اليهودية، فأنت أمام حاخام يهودى متمكن من عقيدته.
قضايا الساعة والأحداث العالمية كان فيها على مستوى الأستاذ الجامعى بكبرى جامعات العالم، متابعته الدقيقة مع خلفيته الثقافية تضفى على الأحداث أبعادا جديدة لا يدركها ألا الخبير فى الشؤون الدولية.

فى المذاهب الفكرية المختلفة كان كأحد ابنائها، فى الشيوعية هو كارل ماركس وفى الرأسمالية هو آدم سميث، لا يخلط فى حديثه بين هذا وذاك، وأن كان يربط بينهما بعطاء فكرى يبهر كل من يستمع له.

قوته الحقيقية تكمن فى أنه لا يؤمن ألا بالأسلام عقيدة ومسلكا، فهو يؤدى كل الفروض فى أوقاتها، ومسلكه مسلك المسلم الحقيقى، مما جعلنا جميعا نحبه ونحترمه، لأنه بهذا المفهوم والمسلك للعقيدة الأسلامية لا يتعامل مع الناس ألا بالحسنى وبالآداب التى قررها الأسلام فى التعامل بين الناس.

أصاب صديقنا يس مرض الفشل الكلوى الذى ظل يعانى منه سنتين كاملتين دون أن يتوقف عن العمل، وأصبح يحمل فى جنبه جهازا لغسيل الكلى، وواصل حياته دون أن يشكو أو يتذمر من أرادة الله، فكان دائما حامدا وشاكرا لله بما قسمه له.

زاد عليه المرض فى الشهرين الأخيرين واضطر ألى النوم بأحدى المستشفيات الكبرى فى جدة متنقلا بين غرفها وعنايتها المركزة، لأن المستشفى الحكومى لا تقبل دخول الأجنبى ألا بالتوصية ولم نستطع الحصول عليها ألا فى الأيام الأخيرة من حياته، بعد أن استنزفت تلك المستشفى الخاصة الكبرى كل مدخراته لسنوات طويلة ومات بالمستشفى الحكومى على سرير المرض وهو يردد على زائريه بأننى تركت أبنائى فى عناية الله، وهو خير من يتكفل بهم فى حياتى ومن بعد مماتى.
أنا وكل زملائى فى سعودى جازيت فقدنا بموت يس ركنا من أركانها، ووفاء لذكراه نتقبل العزاء فيه، خصوصا وأن كثيرا من الزملاء وكنت واحدا منهم واقفا فى صف العزاء مع أسرته.

كانت هذه شهادة الأستاذ رضا لارى الذى لم يكن عضوا فى حزب العمل ولا جبهة التحرير وليس من أبناء على قدر أو من قبيلة البيت جوك... هل هناك شهادة تفوقها؟.

نواصل... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click