الاجازيان من أين والى أين ؟ الحلقة الثالثة

بقلم الأستاذ: جهراي أدال - كاتب إرتري

الراس الولا والهجرة الكثيفة للتجراي الى إرتريا:

مواصلة لما جاء في المقال السابق وفي محاولة لمعرفة كيف تشكلت القوى الاجتماعية والسياسية

التي جعلت الشعب الارتري يدور في حلقة مفرغة منذ أربعينيات القرن الماضي، وحتى اليوم، سنتناول في المقالين التاليين اهم هجرتين للتجراي الى ارتريا غيرتا التركيبة السكانية للمرتفعات الارترية، وعقدتا المشهد السياسي الارتري.

عند سيطر يوهنس على تجراي سنة 1867م كانت إرتريا تخضع للحكم المصري الذي كان قائما جنبا الى جنب مع ما يعرف بالإدارات الأهلية والقبلية، فكانت عائلتين تتنازعان الحكم في حماسين إحداها في هزجا بقيادة الراس ولدي ميكائيل سلمون، وعائلة هيلو تولدي مدهن في صعذجا. وكانت كل عائلة تستعين بقوة خارجية للتغلب على الاخر، فتحالف ولدي ميكائيل سلمون مع المصريين في مصوع وكرن، فقدموا له الدعم للتغلب على خصمه، بينما كان هيلو حليفا لحكام تجراي ويتلقى الدعم منهم، وشكلت المنطقة منذ ذلك الحين قاعدة لهم.

بينما كان دور عائلة النائب في مصوع وحرقيقو قد تراجع حتى قبل انتقال إدارة البلاد للحكم المصري المباشر في عهد الخديوي اسماعيل، فاستعاد زعماء القبائل المحليين في سمهر واكلي جوزاي دورهم فأصبحوا يلعبون أدوار في الحرب والسلم في منطقتهم.

أما دنكاليا فكان السلاطين يتقاسمون الحكم فيها تحت نفوذ الإدارة المصرية.

وكانت الخديوية المصرية قد تسلمت حكم سنحيت بعد الاتفاق مع شيوخ حلل وزعماء البلين، والماريا والبيت جوك والمنسع وغيرهم من زعماء القبائل، والساحل من قبائل الحباب وبيت اسجدي ومناطق بركة من زعماء البني عامر (الدقلل) وفي القاش الباريا (عائلة الشيخ اري)، وكذا زعماء الكسر والسبدرات والبازين والايليت وغيرها من القبائل التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها.

وعندما قرر يوهنس القضاء على حكم عائلة ولدي سلمون التي سيطرت على حماسين، بدأ يوهنس باتهامه بالعمالة لمصر وجه ضده حملات عسكرية لم تنجح، فأرسل حملة كبيرة بقيادة الراس الولا الذي تمكن من السيطرة على حماسين، بعد ان تم القبض على ولدي ميكائيل غدرا فأودع السجن في عدوا.

وعين يوهنس، الرأس الولا حاكما على حماسين في أكتوبر 1876م، وكانت هذه المرة الأولى التي يخضع فيها جزء من ارتريا الى حكم مباشر من قبل التجراي، ولكنه لم يستغرق أكثر من عشر سنوات، حيث سيطرت ايطاليا على البلاد وأعلنتها مستعمرة إيطالية عام 1890م.

الرأس الولا، هو أحد أشهر قادة الامبراطور يوهنس الرابع، وهو من تبمبين في تجراي، وهي نفس المنطقة التي ينتمي إليها الامبراطور يوهنس، وربما اسياس افورقي وشخصيات أخرى مثل يماني مانكي وغيرهم.

وكأن الله سبحانه وتعالى جعل من قدر الأمهات الطيبات في تمبين ولادة قادة أفذاذ يتكبدوا عبء حكم الشعب الارتري وقيادته الى بر الأمان كلما واجه محنة وتحديات تفوق طاقته.

ومع هذا لم تتعدى سيطرة الراس الولا إقليمي حماسين وسراي، وأطراف من اكلي جوزاي التي لم يتمكن من إخضاعها بسبب المقاومة الشديدة للقبائل في المنحدرات الشرقية لإرتريا ومناطق سمهر، واتباع الكنيسة الكاثوليكية في اكلي جوزاي.

وكانت القبائل في هذه المناطق من القوة بحيث كانت تتمكن من استضافة الزعماء والقادة المتمردين على يوهنس في تجراي، واشهرهم جزماتش دبب الذي كان يحارب الولا بالتحالف مع الأساورتة وغيرهم من القبائل في المنطقة.

ومصدر قوة هذه القبائل حينها لم تكن بسبب وحدتها كقبائل مسلمة فحسب، بل بسبب وحدة المسلمين والمسيحيين في هذه المنطقة ضد يوهنس وسياساته وفي وقدرتهم على اقامة تحالف قوي، وخاصة مع الكاثوليك في اكلي جوزاي وسنحيت.

وربما هذا ما يفسر حقد يوهنس والولا على هذه القبائل، حيث اشترط الأخير عند التفاوض مع الإيطاليين لإطلاق سراح جنودهم الذين أسروا في معركة دوقلي يناير 1887م، ان يسلموا عشرة من زعماء الاساورتة بالأسماء مقابل إطلاق سراح أسراهم من الايطاليين فكان لهم ما ارادوا.

حيث غدر الايطاليون بهؤلاء الزعماء بعد دعوتهم إلى اجتماع للتشاور، وسلموهم للرأس الولا مقابل اسراهم، فما كان منه أي الراس الولا الا التشفي والانتقام بإعدامهم جماعيا في اسمرة، لمقاومتهم له واستضافتهم اعداءه لقرابة العشرين عاما، (للمزيد راجع Ras Alula, Erlich). وشكلت هذه الحادثة ضربة قوية للاساورتا أسفرت عن تراجع دورهم في المنطقة، وسهل على الإيطاليين السيطرة عليهم، فتقدموا في احتلالهم للبلاد دون مقاومة تذكر بخلاف المواجهات التي خاضوها في بركة وأشهرها معركة اغردات ضد أنصار المهدية.

ولعب زعماء القبائل في ارتريا إجمالا أدوار محورية في مقاومة الراس الولا وإفشال سياسة سيده الامبراطور يوهنس الرابع، الرامية الى التنصير الاجباري أو الطرد من البلاد، الا ان ارتريا حينها لم تكن تعاني من الضعف والتخلف الذي كان يعاني منه سكان المرتفعات الارترية. فكانت هنالك الإدارة المصرية الى جانب قبائل تتمتع بقيادات وطنية وعلاقات عابرة للحدود، فكانوا قادرين على توحيد مختلف العشائر للتصدي للغزاة، والمشاركة في إدارة شؤون البلاد.

وخلال فترة حكمه لحماسين كان الرأس الولا قد اعتاد على ممارسة النهب والسلب، بقيادة حملة عسكرية او حملتين كل عام تتزامن مع موسمي الحصاد (الأمطار الصيفية والشتوية) بغرض الاستيلاء على المحاصيل الزراعية ونهب الثروات الحيوانية قبل أن يتحرك أهلها من مناطق إقامتهم الموسمية. فكانت هذه الحملات تستهدف بشكل أساسي مناطق عنسبا وسنحيت وتصل أحيانا حتى حلل وشعب ومناطق عايلت وجمهوت في سمهر.

أما في القاش في حملاته العسكرية كانت أشبه بحرب إبادة جماعية استهدفت الباريا والبازين بشكل أساسي، ولم يكن هنالك سبب واضح لهذا الاستهداف غير التطهير العرقي تلك المناطق من سكانها الأصليين، وسبب آخر اقتصادي تمثل في الاستيلاء على ثروات أهلها.

مجاعة سنة 6 وهجرة الجياع الى ارتريا:

فبينما كان الإيطاليون يتوسعون في احتلال اريتريا ووصلت قواتهم حدود تجراي واصبحت على بعد اقل من مئة كيلو متر من مقلي، كان يوهنس يحضر لخوض اخر حروبه ضد المهدية، وخلال نفس الفترة كانت المجاعة تحصد عشرات الالاف من مواطنيه في تجراي. حيث شهدت السنوات الأخيرة من فترة حكم يوهنس الرابع، وحكم المهدية في السودان واحدة من أسوأ موجات الجفاف التي الحقت اضرار بالغة بالسكان في المنطقة وأودت بحياة مئات الآلاف من الناس والحيوانات في أجزاء من اثيوبيا، وخاصة تجراي ومناطق شاسعة من السودان.

ولشدة التأثير المدمر لهذه المجاعة في المنطقة، لا يزال السودانيين يضربون بها المثل فيقولون "مجاعة سنة ستة" وهي سنة 1306 هجرية الموافق 1888/1887م. "حيث لم تجد جيوش المهدية ما تأكله وتفرقت بحثا عن الطعام ومارست النهب والسلب في بعض المناطق (راجع محمد سعيد القدال - المهدية والحبشة".

وكانت ارتريا والى حد ما في مأمن من هذه المجاعة، مع انها شهدت ارتفاع في أسعار الحبوب والمواد الغذائية، الا أنها لم تشهد مجاعة كالتي حدثت في اثيوبيا والسودان، والسبب هو ان ارتريا وحتى تلك الفترة كانت مرتبطة بعلاقات تجارية عبر البحر الأحمر أكثر من ارتباطها بالتجارة الداخلية مع إثيوبيا والسودان، وهو ما فعلته الإدارة البريطانية الحاقدة بعد عام 1941م.

فكانت كل مناطق المنخفضات الارترية من دنكاليا الى القاش وبركة، تأتيها احتياجاتها عبر البحر، فكانت "الذرة الرفيعة التي تأتي من بومباي في الهند مكدسة في مستودعات مصوع" بينما كانت جثث الجياع القادمين من تجراي تملأ سهل حطملو. "الموتى كانوا ينتظرون الحيوانات البرية، والأحياء ينتظرون الموت". هكذا وصف فرديناندو مارتيني الموقف كشاهد عيان في مذكراته سنة 1896م، "إرتريا في أفريقيا الإيطالية".

ولكن هذه النعمة حولها زحف الجياع من تجراي الى نغمة. فقد زحفت جموع الجياع من تجراي نحو ارتريا وانتشروا في مختلف المناطق بحثا عن لقمة تنقذ حياتهم، وبلغت أعداد كبيرة منهم حتى مصوع وكانت جثثهم على الطرقات تقتات عليها الوحوش. وكانت المجاعة قد ترافقت مع انتشار أمراض وأوبئة جعلت الناس في ارتريا يتجنبون الاقتراب من الجثث لدفنها.

وذكر فرديناندو مارتيني بان "الحرب الاهلية تدمي الحبشة منذ خمسين سنة"، وهي الحروب بين أمراء الحرب التي أشرنا إليها في الحلقة السابقة. ويضيف و"منذ مدة وجميع أنواع اللعنات والأمراض تتوالى عليها، وكان الجوع آخرها وأشدها".

فبينما كان السكان المحليين في ارتريا غير قادرين على تقديم الدعم الكافي لهم بسبب غلاء أسعار المواد الغذائية التي كانت تهرب عبر الحدود إلى إثيوبيا والسودان، كانت إيطاليا القوة الاستعمارية الجديدة غير راغبة في تقديم الغذاء لهؤلاء الجياع خوفا من تدفق المزيد منهم الى ارتريا. وهذا ما يؤكده مارتيني في مذكراته بقوله: "المساعدة مستحيلة، وأية مساعدة لا تكفي، وان ساعدنا اليوم، لوجدنا غدا الحبشة كلها تنتقل إلينا" إذن دعهم يمتون، هكذا كان الموقف الإيطالي الرسمي.

وعمل الراس الولا على توطين من تبقى من هؤلاء على قيد الحياة في المناطق الخاضعة لسيطرته من حماسين وسري، ومناطق أخرى من المرتفعات الارترية، الى جانب عشرات الآلاف من جنوده الذين كانوا يتفرقون في موسم الأمطار للزراعة، وطاب لمعظمهم المقام فاستقروا في ارتريا ولم يعود منهم الى تجراي الا اعداد قليلة.

ومن الجدير بالذكر، ان جد الرئيس اسياس من جهة امه "والد جدته مدهن براد" كان واحد من هؤلاء الجنود الذين تركهم الراس الولا خلفه، واستقر في اسمرة وتمتع بطيب العيش فيها.

وبالرغم من هذه الأوضاع الاقتصادية المزرية، وإدراكه أي الامبراطور يوهنس بان الايطاليين كانوا يستعدون لغزو بلاده للانتقام لجنودهم في مذبحة دوقلي 1887م، التي يعتبرها الإيطاليون مذبحة وليس معركة بالمفهوم المتعارف عليه بين جيشين. حيث نصب الرأس الولا كمينا ل 400 جندي إيطالي في دوقلي بينما كانوا يسيرون في الطريق العام، وفي وضعية غير قتالية، فهجم عليهم بأكثر من عشرة ألف جندي فتحول المشهد من معركة الى مذبحة.

واي كان الحدث فما يهمنا هو التأكيد على ان يوهنس تصرف بشكل غير مسئول، لأن تعصبه الديني دفعه للتوجه الى المتمة لقتال المهدية تاركا الايطاليين يطرقون أبواب الحدود الشمالية لبلاده، فكانت نهايته فيها.

كما دخل يوهنس الحرب ضد المهدية بدل من تحمل مسئولياته تجاه شعبه الجائع ويبحث عن سبل لإطعامه، وهي ثقافة الهروب إلى الأمام المتأصلة في مجتمع التجراي، فلا يقر قادتهم السياسيين باي مشكلة تواجههم بل يحاولون التغطية عليها بافتعال مشاكل أخرى. وهذا ما يمكن ملاحظته في سياسات التجراي الارتريين اليوم بقيادة اسياس، وهذه مشكلة ثقافية معقدة تعيب على المرء مبدأ الإقرار بالخطأ.

ويحاول بعض المؤرخين خطأ، تصوير يوهنس كوطني وسياسي محنك يتمتع برؤية ثاقبة، ظنا منهم بأنه طلب من المهدية مواجهة العدو المشترك وهو الاستعمار الأوروبي، ولكن هذا غير صحيح. فهجمات المهدية وقتها كانت على الحدود الغربية لارتريا بقيادة عثمان دقنة ولم تكن مهددة لأمن بلاده وسيادتها، وما عداها كان موجها إلى مناطق الامهرة عبر قندار، وبعيدة عن حدود تجراي، فأين كان ينبغي ان تكون الأولويات؟ ان تترك إيطاليا على أبواب مدن تجراي ولا يفصلها عن عاصمته مقلي إلا بضع عشرات من الكيلومترات، أم التوجه الى المتمة لحماية مناطق يفترض ان يحميها منافسه منيليك الذي نال شرف الانتصار على الإيطاليين في عدوة سنة 1896م.

وهجرة الجياع حسب ما اعتقد هي أسوأ أنواع الهجرات البشرية، حيث يقلب الجائع الحجر ويقضي الأخضر واليابس بحثا عن لقمة عيش تنقذ حياته. وعندما يشبع يتحول الى وحش كاسر ويتصرف دون أدني قدر من الرحمة مع من استضافة بالأمس وأصبح شريك له في خيرات البلاد. وهكذا يتصرف الجياع دوما بدافع الخوف وهواجس القلق من تعرضه لتجربة المجاعة التي مر بها ويختزنها عقله الباطني.

في المقال القادم سنتعرف على الموجة الثانية لهجرة التجراي الى ارتريا وكيف سيطروا على قرى المرتفعات الارترية، فأرجو المتابعة.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

التعليقات  

سلطان البني عامر
#سلطان البني عامر2020-07-04 07:46

السلام عليكم
ذكرتم ان اعداد كبيرة هاجرت من قومية التقراي الى المرتفغات الاريترية في عام المجاعة
وهنا سوأل للفائدة هل الجبر من التقراي
رد
Top
X

Right Click

No Right Click