عواتي 1943ـ1951

بقلم الأستاذ: منصور - صحفي سوداني المصدر: ناود للكتاب

عندما تمرد حامد إدريس عواتي مفجر الطلقة الأولى للكفاح المسلح، على الإنجليز،

طيلة الفترة الممتدة من 1943 وحتى 1951م لم يكن دافعه خلافا في أمر شخصي معهم، لقد لاحظنا أن ذلك قد حدث نتيجة اعتبار الإنجليز نجدته لسكان قرية مجاورة عندما تعرضت مواشيهم للنهب، عمل غير قانوني، فاعتقلوه، فكبر عليه قبول هذا الحكم، وآثر الخروج على سلطانهم وقانونهم، ولم يتمرد عواتي طمعا في جمع المال عن طريق قطع طرق الشعب المسالم، ونهب وسلب أموالهم، كما حاولت الإدارة البريطانية دمغه وجماعته بذلك.

والحق أن عواتي والإنجليز يعلمون ذلك جيدا، كانوا يتعرضون للسلب والنهب من قبل قطاع الطرق الذين كانت تزخر بهم المنطقة.

وعلى الرغم من أن حامدا لم يستطع أن يعطي مقاومته بعدا سياسيا، أو أن الأحزاب الوطنية الواعية للاستقلال لم تفكر في احتواء مقاومة حامد لعدم جنوحها إلى الكفاح المسلح، إلا أن المحاولات الإنجليزية المستميتة للقضاء على مقاومته، أنما تدل على مدى خشية الإدارة البريطانية من استحالة حركته إلى حركة سياسية، قد تبقيهم ولاتزر سياساتهم بشأن إرتريا، خاصة وأن المد الوطني المتصاعد في الأربعينيات كان ينذرهم بتطور قد لايستطيعون السيطرة عليه.

حياً كان أم ميتا:

عندما فشلت محاولات ألإنجليز الأولى للقضاء على حامد وجماعته في مهدهم، وصار حامد، مع الأيام بطلا ذا طابع قومي، ألتفت حوله جماهير ” بركة ” على سعتها ورحابتها، فصار قدوة للكبير والصغير، ونسجت حوله الألسن من الحكايات مافعل ومالم يفعل وتغنت به حناجر النساء في أعز مناسباتها... بل وعندما انتشرت أخبار حامد لتملأ آفاق الساحل وسمهر والمرتفعات الإرترية لتمتدح هناك أيضا بطولاته، ورفعة مكانته، جد الإنجليز في طلب حامد بكافة السبل والوسائل فمن وسائلهم أنهم حاولوا استنهاض ضباط البوليس من الإرتريين والأجانب، ووعدهم بالأموال والمناصب أن هم أتو بحامد حيا أو ميتا، ومن حيث المكافآت بالأموال أعلنوا أثمان رؤوس زمرة ” قطاع الطرق ” كما يلي:

حامد إدريس عواتي 500 جنيه

عثمان لونقي 350 جنيه

إدريس عواتي 330 جنيه

آدم فايد 300 جنيه

التسابق:

لقد هب نفر من ضباط البوليس في طلب حامد، وتوعد جميعهم كل بجانبه، وحيث أتيحت له الفرصة في الخروج على رأس وحدات في طلب ” قطاع الطرق ” توعدوا بإنزال الهزيمة والقضاء على المارقين والإتيان بهم منكسي الرؤوس، غير أن كل تلك الحملات قد باءت بالفشل، ومعظمها بالاندحار . فبعض هؤلاء عادوا مخذولين، فيما عاد آخرون مهزومين ليحكوا عن حامد وشجاعته ودقة تسديده حكايات أقرب إلى الخيال ليثبطوا همم رجال الإنجليز وليقللوا من حماسهم في اقتفاء اثر “قطاع الطرق“.

وكل نصر كان حامد يحققه كان يزيد من غيظ الإنجليز ومن حنقهم عليه وكان يحثهم على الإلحاح في القضاء عليه وعلى مقاومته. وهكذا كان الصراع، من حيث لايدري الإنجليز يأخذ في نظر الشعب شكل مقاومة ذات طابع قومي.

محمد علي سنجكة والمطاردة:

ومن التجارب الفاشلة التي مرت بحامد وجماعته، تلك المحاولة الشرسة التي قام بها الضابط محمد علي سنجكة للقضاء عليهم وإذلالهم. ومحمد علي سنجكة ضابط في البوليس، وهو سوداني من قبيلة الشايقية. لقد تطرف هذا الضابط في معادة تلك الفئة، فأقسم أن يقضي عليهم، ويأتي ببقيتهم إلى مدينة بارنتو ـ مقر عمله ـ مرتدين ”ملابس النسوة على غرار أمهاتهم“ وكان يصف عواتي وجماعته بأنهم ”كلاب لاقيمة لهم“.

في أحد أيام بركة الحارة من عام 1948م تحرك سنجكة على رأس فصيلة قوية التسلح من مدينة أم حجر التي جاء إليها من بارنتو أثر سماعه بنبأ تواجد ” قطاع الطرق في أطراف سيتيت شرقي مدينة أم حجر. لما بلغ أسماع حامد وجماعته خبر تحرك سنجكة نصحوهم، أخلوا المنطقة منسحبين إلى أعماق القاش فأخذ سنجكة يتبعهم بعزم مضاعف عندما علم بتراجعهم أمام زحفه.

ولقد ألح في مطاردتهم إلى حد أنه كان يأتي إلى موقع معين بعد سويعات من مغادرتهم له . كانت المطاردة شاقة، وكان محمد علي سنجكة يزداد غلوا في مفاخرته، وجدا في طلبه كلما شعر أن حامد يفر من وجهة فرار الجبان الذي لايلوي على مقاومته.

أن وقفة لمعرفة خط سير المطاردة تكفي للتقويم، فمن ضفاف سيتيت تقفي أثرهم إلى ”ماي شقلي“ و ”شلعيت“ ثم إلى ”أمنايت“ و ”هدمومي“ و ”أنجوكر“ بين هيكوتة ولبانياي، ثم إلى ”أرنغيب“ بأعالي مقراييب“ ثم إلى ”قيري دا“ و”بمبوني“ و ”همبوك“ و ”كوفا شوقار“ في قلب مقراييب ومن هناك إلى ”عد طحاي“ حيث الطرف الغربي لمقراييب، ثم إلى ”قوفاتي“ في ألقدين لتحدث أخيرا المواجهة في ”كنتاي اون“ في ذات منطقة ألقدين.

يمكن للإنسان أن يتخيل صعوبة هذه المطاردة أن أدرك ضيق رقعة الأرض التي جرت فيها، وعدم صلاحية بعضها لمواجهة قوة ضعيفة لقوة متفوقة، وإذا أدرك أن عددا من عناصر حامد الأساسية لم تكن معه.

كان بإمكان حامد أن ينسحب بعيدا إلى أعماق بركة النائية أن كان هدفه الإفلات فقط من مطاردة سنجكة . لكن يبدو أن حامدا وجماعته كانوا يتوقعون تفادي المواجهة مع سنجكة عن طريق حثه على الكف عن طلبهم. لقد أرسل عواتي مرتين على الأقل، إلى سنجكة طالبا الكف عن مطاردتهم على أساس أنهم لايكنون له عداء، وأنه كسوداني لا شأن له فيما يجري في هذا البلد ولكن دون أن يتلقى إلا ردود فظة تطاله بالكف عن الفرار وإثبات رجولته في ساحة القتال، ويمكن تغليب الظن بأن عدم جنوح عواتي وجماعته إلى الفرار من المنطقة راجع إلى شعورهم بأن سنجكة قد قطع عليهم طريق الفرار بتعذيبه المواطنين الذين كان يلتقيهم في قراهم، وحتى الرعاة في الخلاء، والحقيقة أن سنجكة قد أستخدم ضرب المواطنين بالسياط للضغط على ”قطاع الطرق“ وإكراههم على خوض القتال معه.

في آخر محطة قبل المواجهة أبلغ عواتي سكان قرية منطقة ”قوفاتي“ قضى فيها ليلة أن يبلغوا سنجكة أن جاءهم بأنه قد سلك طريق ”كتاي اون“ المؤدي إلى ”كلشيباي“.

المواجهة:

لم يتردد سنجكة من سلك ”كتاي اون“ الجبلي الضيق، رغم عدم جهله بخطورته لنصب كمين ناجح، وذلك ربما لاعتقاده أن ذلك خدعة من حامد، أو لتقليله من شأن حامد وجماعته.

لقد كان عواتي قد قرر المواجهة وهكذا نصب كمينا محكما حدد لنفسه فيه موقعا في قلب الطريق بعد أن نشر جماعته على الجانبين واضعا في كل جانب قطعتين، اخذ حامد موقعه خلف صخرة تطول على المتر بقليل، فوضع على رأسها حجرين وضع عليهما ثالثا على نحو يمكنه من تصويب فوهة بندقيته عبر الفتحة التي بينها وكانت من تعليمات حامد أن لا يطلق النار أحد قبله.

جاء سنجكة يتقدم وحدته ممتطيا حصانا، فتجاهله حامد حتى دنا منه نحو خمسين مترا ثم أطلق عليه النار ليصيبه بالإطلاقة الأولى، وأمام وابل الرصاص الذي أنصب على وحدة سنجكة من جانبي الكمين انهزمت الوحدة وتبعثر أفرادها متكبدين بعض الإصابات.

هكذا تخلص عواتي في ذلك اليوم أيضا من أحد ألد أعدائه وطارديه ليتنفس هو ورفاقه الصعداء لحين من الوقت ولتملأ الأفاق أخبار انتصار عواتي على الضابط العتيد الذي كثيرا ما أرغى وأزبد وتوعد، ولتنطلق الألسن المحبوسة بحبك الحكايات والروايات عن نهاية تلك المطاردة التي تابعها وتسقط أخبارها ساعة بساعة، سكان مناطق القاش ومقراييب وألقدين. فمن قائل: أن حامدا قد شق بطن سنجكة بخنجره فألتهم كبده، ومن قائل: انه وقف في وجه سنجكة فألقى إلى سمعه كلمات قبل أن يعاجله بإطلاق الرصاص ...الخ ...وألخ.

الخاتمة:

ولكن هل هذه المطاردة والواقعة أخطر ما واجه حامد عواتي ورفاقه على يد الإنجليز ؟ كلا فثمة واقعة سبقت هذه بأشهر تمكن فيها بوليس الإنجليز، في هجوم صاعق من إلقاء القبض على حامد ومن طعنه بخنجر في يده... ورغم ذلك نجا حامد وتلك قصة أخرى.

هؤلاء قالوا عن عواتي:

الطلقة الأولى أطلقها المجاهد الشهيد حامد إدريس عواتي الذي قاد فتية لايتجاوز عددهم 15 شابا آمنوا بربهم وبعدالة قضية وطنهم ولم يكن سلاحهم إلا الأيمان إذ لم يكن لديهم سلاح يذكر سوى بندقية واحدة انجليزية الصنع أبو عشرة وتسعة بنادق ايطالية الصنع عتيقة تنقصها الذخائر التي كانوا يحشون الظروف الفارغة التي يعثرون عليها بالبارود بأنفسهم، وما أكثر ماكنت تستعصي الرصاصة داخل الماسورة بينما الشيخ العجوز كبوب حجاج الذي فقد أحدى عينيه في الحروب ضد عصابات أثيوبيا في عام 1948م يحاول بمهارة معالجة وتصليح مايستعصى من البنادق العتيقة. حيثما وجد هؤلاء المقاتلون الشجعان المتنقلون من جبل إلى جبل ومن غابة إلى أخرى أذاقوا الاحتلال مر العذاب، بينما العدو الذي أرتعب من أسم عواتي الشجاع المعروف في المنطقة وقد حمل راية إرتريا تحت قيادة جبهة تحرير إرتريا يحاول مطاردتهم بعد أن جند قوة خاصة قوامها 700 جندي أطلق عليهم أسم ”قوات الميدان لمقاومة الخارجين عن القانون“ بعد أن دربها خبراء إسرائيليون في ”كلية دقي أمحري“ تدريبا خاصا.

الشهيد عثمان صالح سبي:

بمناسبة الذكرى السابعة والأربعون لانطلاقة الثورة أزف التهاني لأبناء الشعب الإرتري وكل سبتمبر ونحن نبني أمجادنا وعزتنا في ربوع الوطن الحبيب الذي افتداه أبنائه بالغالي والنفيس.

الشهيد عواتي هو رمز للإرتريين جميعا، وعلى مدى سنوات طوال من عمر الثورة اختلفنا في كل شيء وكانت لكل منا توجهاته وأفكاره، ولكن الأمر الوحيد الذي ظل يجمعنا ويقربنا هو اتفاقنا على أن الشهيد عواتي يستحق منا كل التقدير لأنه هو الذي نهض وتحمل عبء أخطر قرار وهو إعلانه للكفاح المسلح في وقت كانت فيه مثل تلك الانتفاضة أمرا في غاية الصعوبة، وأقولها وبصدق لم يكن هناك شيء متاح لاوضع دولي مؤازر ولا صف وطني ملتئم وأكثر من عامل كان ضد تلك ألانطلاقة، ولكن أن يكون للرجل ذلك الوعي وتلك الجرأة فوالله يستحق منا الانحناء والتقدير، وأقل مانفعله في هذه المناسبة أن تذكر مأثرته الخالدة حتى تكون عبرة ودرس للأجيال.

محمد سعيد ناود:

لقد كان الشهيد عواتي يتحلى بميزتين حددتا مسار حياته وأهدافه، هما:

كرهه للمستعمرين ونزوعه إلى مقاومتهم.

امتلاكه وعيا بأن عليه حماية شعب المنطقة التي ينتمي إليها من اعتداءات المارقين، تصادف مع قدراته الشخصية مثل الجسارة والمبادرة.

وعلى الرغم من أنه من العسير التثبت من خلفيات الميزتين المذكورتين، ألا أن أمرا أساسيا فيه يشهد عليه معاصروه دون أن يكون بينهم من يشذ عن الإجماع.

ذلك أن الرجل منذ صباه وشبابه كان شجاعا وذا روح متمردة وكان ميالا إلى المقاومة، وهي الصفات التي ـ حسب مايقول معاصروه ـ كانت تؤدي إلى بعض الخلافات بينه وبين والده الشيخ إدريس عواتي الذي كان هو الآخر من العناصر البارزة في منطقة القاش ومن شجعانها.

مجلة ساقم - لسان حال الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا:

نعم الثائر حامد عواتي ورفاقه السبعة الذين أعلنوا رصاصة البدء في الفاتح من سبتمبر عام 1961م تلك الرصاصة الوطنية التي كانت إستراتيجيتها وتكتيكها أجلاء آخر جندي أثيوبي محتل.

تلك الرصاصة التي كانت بوصلة المسير والرؤيا الثاقبة لجبة التحرير الإرترية، تلك الجبهة التي تعتبر الوليدة الشرعية والمدافعة ألأمينة للشعب الارتري.

Top
X

Right Click

No Right Click