ذكريات وتجارب - الحلقة الحادية عشرة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

اعادة افتتاح الصف الثامن في مدرسة حرقيقو، كما تقدم في الحلقة السابقة، وتعيين مدرس ثم توفير بعض الكتب والادوات للقسمين

بنين وبنات كان، في نظرنا، نوعا من النجاح، على امل ان تستكمل بقية المطالب ولو بشكل تدريجي. وبناء على هذا الفهم، لم نوافق على عرض قدمه لنا الشيخ ادريس عمر كيكيا للتنازل عن الصف التاسع مقابل تحمل المدرسة مواصلات الطلبة الى مصوع مع وجبة غداء وتوفير استراحة مناسبة. الا اننا، وبعد فوات الاوان، ادركنا ان ما نطمح اليه غير واقعي ولن يتحقق بالمطلق، على الاقل، في المستقبل المنظور، ليس بسبب نكوص الشيخ ادريس بل، وفي المقام الاول، لعدم توافر عدد كاف لشغل الفصل بحيث يبرر تكلفته المالية. فعلى سبيل المثال، فصلنا الذي بدأ بحوالي اثنين وثلاثين طالبا لم يبلغ منه الى الصف الثامن الا نحو خمسة عشر بعضهم ممن اعادوا سنة مع وجود احتمال كبير بان يكتفي البعض بشهادة الفصل الثامن.

لهذا، اقتنعنا ان مهمتنا الاولى في الوقت الراهن بذل اقصى مجهود لتعويض الزمن الضائع بسبب عدم انتظامنا في الدراسة بالسرعة والمستوى المطلوب لما له من تأثير كبير على مدى نجاحنا في نهاية السنة. وحتى هذه الغاية كانت بعيدة المنال لولا المتابعة المباشرة والمستمرة من قبل الاخ الاستاذ محمد سعيد عبد القادر بشير الذي زودنا بكتب ومواد ساعدتنا كثيرا في تدارك ما فاتنا والاستعداد لما هو قادم. كان الاخ محمد سعيد مدير ادارة المناهج في ادارة التعليم في اسمرا (لست متأكدا من المسمى الوظيفي).

وبالرغم من تركيزنا على الدراسة لحين الانتهاء من العام الدراسي والحد، بقدر الامكان، من النقاشات الجانبية كنا قد تعودنا عليها، لم نحجم عن الاهتمام بما يدور حولنا من الشأن العام واحيانا بشكل تجاوز اعمارنا، ولهذا، قرار الحكومة بمنع اقامة الاحتفالات بعيد المولد النبوي الشريف مركزيا في مصوع كما كان متبعا عبر التاريخ بحجة حزن الدولة على وفاة احد افراد العائلة المالكة منذ عدة شهور قلب اولوياتنا رأسا على عقب. اعتبرنا القرار استخفافا بالشعائر الاسلامية ان لم يكن بالإسلام ذاته، وان لا يجب احتماله او السكوت عليه بل ينبغي التعامل معه بشكل فوري بعيدا عن المصوغات التي حاول بها البعض تبريره وتمرير بهدوء.

لا انكر اننا بالغنا في هذا الموقف وحملنا انفسنا ما لا تطيق وكأننا مسئولون عما يجري في البلد، وقد يصح اعتباره نوعا من طيش الشباب وغلوائهم، ولكن حتى لو كان موقفنا صائبا مصيبا ماذا كان بوسع مجموعة نكرة لا يتجاوز عددها خمسة في قرية نائية ان تعمل امام فيل ظلت تلاعبه فظهر امامها بلحمه وشحمه عيانا بيانا. وليس اليوم كالأمس عندما كان يتعلق الأمر بفتح فصل وتحريض زملاء، فالخيار هنا وحيدا اما القفز من فوق الحلبة طلبا للنجاة، ان امكن، وهذا له ثمن، او منازلة الفيل والا انتظار تقدمه والنتيجة واحدة ومحسومة سلفا، اما التعايش معه فكان من احلام اليقظة والتاريخ خير شاهد. وبصرف النظر عن قدرتنا على القيام بعمل، لابد من التساؤل عما اذا كان من الموضوعية بمكان ان نتعصب الى هذه الدرجة لمجرد منع شعيرة دينية وربما لسنة واحدة، وهل كان الغرض من المنع حقيقة الحزن على فقيد ام لإذلال الشعب اكثر فأكثر وانه مقدمة لما بعده من اجراءات. اترك التقدير في هذا الخصوص للقارئ وفطنته، وقد كشفت الايام خفاياه وابعاده.

على كل حال، وقبل الحديث عن خيارنا وتحديد مصيرنا، اود العودة بالقارئ الى فعاليات اول احتفال مولد النبي حضرته في مصوع وبشكل لم يكن في الحسبان لعلنا ندرك مكانتها الدينية واهميتها الوطنية. ذهبت في ذلك اليوم مع بعض الاقارب لتوديع طلبة المدرسة المشاركين في الاحتفالات. كانت الساعة حوالي الثالثة عصرا، عندما بدأ الطلبة في التوافد وكل منهم يرتدي زيا يرمز الى دوره يرافقهم اولياء امورهم او افراد من عوائلهم واقاربهم صغارا وكبارا. كان الطلبة ينضمون الى زملائهم بينما يصطف المودعون والمشاهدون في الساحة امام الفصول الى ان ضاقت بهم بما رحبت. وبعد ان تكامل العدد واخذ الجميع مواقعهم في طابور واحد، قام الطابور، وسط تصفيق حاد من الحضور، بعدة دورات حول مكتب الباشا الذي يتوسط ساحة المدرسة بهدف التسخين والتأكد من وحدة الحركة في المشي وحسن الاداء في النشيد.

في المقدمة فرقة الكشافة المكونة من اربعة فرق (الاسد – الثعلب – الذئب والنصر) بكامل معداتها وادواتها وفق المعايير العالمية: زي موحد (كاكي داكن) وقبعات كبيرة على النمط البريطاني القديم، لا يميزها عن بعضا سوى العلم الخاص، اختلاف لون المنديل المربوط حول رقبة كل فريق، الشارة على الكتف والصدر. وجميعهم يحمل صفارة في جيب الصدر، حبل مطوي بشكل معين في الجنب، سكين في الجنب الاخر، كوب للشاهي والماء، زمزمية ماء وعصا بمواصفات خاصة.. الخ. في الامام حامل لواء الفرقة تتبعه الفرقة الموسيقية بمختلف ادواتها الموسيقية والطبول ثم بقية افراد الفرقة. ويسير على يمينها قائد الفرقة الاستاذ ابراهيم جابر حسب الله في زي وشارات مميزة.

ثم اربعة فرق للجمباز والالعاب الرياضية في زي موحد ابيض مكون من قميص قصير الكم وسروال قصير فوق الركبة يميزها عن بعضها لون شريط بعرض اصبوعين تقريبا على جانبي القميص والسروال، ثم مجموعة الاناشيد ثم بقية الطلبة في زي موحد كاكي فاتح.

وحوالي الثالثة والنصف توالت الباصات في الوصول، فما ان تصعد مجموعة حتى تبرز اعلامها ترفرف من الشبابيك الامامية، وبالكاد تنطلق ابواق الباصات حتى تصدح الحناجر (لا اله الا الله ... لا اله الا الله .. لا اله الا الله .. محمد رسول الله) وسط تصفيق حاد والضرب على جانبي الباص تستقبلها وتودها الامهات في كل حي بالزغاريد والمارة من الرجال والاطفال بالتلويح، انها لفرحة عارمة بالمناسبة وبمن اسعده الحظ للاحتفاء بها. وهكذا كلما غادرنا باص تزايد شعورنا بالاسى حتى لم يتبق من نودعه. كان المنظر والموقف مؤثرا ومحزنا جدا. وتدريجيا اخذ عددنا في التناقص الا من ابناء الاحياء القريبة جدا. مع اننا لم نتوقع ان نكون ضمن اولئك المحظوظين كان الشعور بالحرمان واضحا على الجميع. فعندما استمعت للمرة الاولى الى الشيخ السمان احمد وهو يؤدي قصيدة البردى للإمام البوصيري رحمه الله انتقلت وجدانيا الى تلك اللحظات التي كان تعبيرنا الوحيد فيها دمعات متحجرة وحشرجة في الحلق.

وسرعان ما تقبل الله دعواتنا، فبينما كل منا يخفف عن زملائه، فاذا بالبوابة تفتح على مصراعيها مرة اخرى ويخرج منها العم سليمان احمد رئيس الفراشين ويطلب منا افساح الطريق امام سيارة الباشا. تنحينا جانبا في تثاقل بدون ابداء أي اهتمام الا عندما توقفت. لا اذكر عما اذا سأل الباشا احدنا عن مدى رغبتنا في اللحاق بزملائنا ام انه وجه سؤاله الى العم سليمان. فما كان منا الا ان صرخنا معا وبصوت واحد ’ايوا .. ايوا‘ عندئذ امر الباشا العم سليمان ان يصرف غيار ملابس على ان يرسل لنا هو باصا. تداعينا الى كل جانب حتى عاد من كان قد غادر، وبين مصدق ومكذب اقتفينا خطى العم سليمان الى ان انتهى بنا امام المستودع الملاصق لمدرسة البنات، وناول كل منا قطعتين عبارة عن قميص وسروال من الكاكي مع التوجيه باستبدالها في منازلنا والعودة بسرعة، وفعلا عدنا بأسرع مما توقع. لا اذكر لا عدد الزملاء ولا اسماءهم سوى الزميل ابراهيم احمد سبي الذي اكتشف عند وصوله منزله ان سرواله غير مناسب فعاد لاستبداله. واذكر اننا تحاملنا عليه بشدة لعدم تأكده منه عند الاستلام مع اننا لم نحاول ان نتأكد من الحجم وحتى لا قطعتين متشابهتين، انه الخوف من ضياع فرصة لم نحلم بها. ولحسن الحظ، عاد ابراهيم فبدأت اعناقنا في التطاول واقفين على اصابع اقدامنا لرؤية او سماع صوت الباص. وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما عرفنا ان السائق مهندس ايطالي كان معروفا بسرعته الجنونية وان كنا بحاجة الى سائق يطير!

توقف بنا الباص في مصوع امام مستودعات الباشا، على ما اعتقد، قريبا من سينما (كورسو) حيث وجدنا الطلبة على وشك التحرك فانتظمنا خلفهم، وشق الطابور طريقه من اول باب ابو عشرة (امام مكتب البريد) والفرقة الموسيقية تنتقل من لحن الى اخر بمساعدة فرقة الاناشيد، جماهير غفيرة ترتدي ملابس ناصعة البياض حولت المنطقة الى ما نشاهده من ملابس المعتمرين وتدافعهم، بعضها بسرع الى موقع الاحتفال لحجز مكان وبعضها يسايرنا متفاعلا مع الاناشيد والموسيقى. كانت الشوارع مزدانة بأعلام وشعارات كثيرة ومختلفة الالوان والاحجام، ومركبات كبيرة مزينة بأعلام ورايات ومخطوطات او مجسمات تجوب الشوارع ومكبرات الصوت عليها تردد اناشيد حماسية مع قيام سيارات البلدية طوال الوقت برش الشوارع بالماء وبالذات المنطقة المؤدية والمحيطة بموقع الاحتفال من اجل خفض الحرارة ومنع الغبار والاتربة. سمعت فيما بعد ان الباشا كان في انتظارنا في مكتبه في نفس الشارع ثم سار بسيارته امامنا الى ان وصلنا الى الموقع حيث اخذ الجميع مواقعهم وبالأحرى مواقفهم اذ لم تكن للطلبة، حسب ما رأيت، مقاعد.

اما الزحام في المدرجات كان شديدا حتى كادت المنصة تلاصق صفوف الكراسي الطويلة، هذا ما شاهدته عند وصولنا فتصور كيف اصبح الوضع فيما بعد. كان هذا اكبر تجمع بشري رأيته في حياتي. ظلت المكبرات الصوتية تلعلع بخطب حماسية لم نفهمها ولم نهتم بها. منظر الموقع بألوانه الزاهية وانواره المختلفة كان كافيا ليلهينا عما يجري حولنا حيث كنا في المؤخرة لا نرى شيئا الا ما تلتقطه الاذن. وكلما طلب منا احد التصفيق بشدة صفقنا دون ان ندري لمن كان هذا ولماذا، وكلما سمعنا اصوات الجماهير تعلو وتصفيقها يرتفع ايضا صفقنا لانهم كان يشاهدون المسابقات والالعاب الرياضة بالنيابة عنا. كانت الاحتفالات عبارة عن مهرجان ضخم تستعد وتعد له جماهير الاقليم بصفة عامة وتتخلله انشطة مختلفة من مسابقات رياضية استعراضية تشارك فيها خيول وجمال ومنافسات خطابية فضلا عن كلمات دينية ووطنية ومدائح نبوية.

كانت هذه المرة الاولى التي اشاهد فيها مصوع ليلا وربما حتى نهارا لان كل سفرياتي مع العائلة الى قندع كانت تبدأ من محطة سكة الحديد في طوالوت وتنتهي فيها. واكثر ما بهرني كان اختلاف الوان الانوار واحجامها المتنوعة. ومن اللفتات الطيبة والكريمة من الباشا انه امر بتحرك الباصات في العودة في وقت واحد وان تجول بالطلبة في شوارع المدينة وهي تسير بأقل سرعة ممكنة. كانت المطاعم والبقالات والمحلات التجارية مفتوحة تتلألأ انوارها الزاهية والشوارع مزدحمة بالمارة بعضهم يلوح بكلتا يديه والبعض يتفرج حتى خيل الي اننا نسير في غير الشوارع التي مررنا بها.

وكان المنظر الثاني الذي اسعد الطلبة مشاهدة الباصات وهي تسير متتابعة في منطقة مفتوحة ابتداء من اخر محطة في منطقة عداقة الى شركة عجيب. كان عدد المستقبلين في كل محطة نتوقف فيها في حرقيقو كبيرا بعضهم بداعي الاستقبال وبعضهم لاصطحاب ابنائهم والزغاريد تنطلق من هنا وهناك ما يدل على ان البلدة ما زالت تنتظر عودة ابنائها. ساعات تاريخية تحمل الكثير من المشاعر الانسانية، وفي المنزل قضينا ليلتنا نشرح تفاصيل الغرائب والعجائب التي رأيناها والمعروضات التي شاهدناها في بعض المحلات الايطالية وخصوصا الدمى التي اعتقدنا انها انسان.

حسب ما علمت فيما بعد ومن خلال السؤال والاستفسار ان هذا الاحتفال الذي حضرته كان بالتقريب عام 1957 - نفس السنة التي توفي فيها الوالد الباشا صالح احمد كيكيا، وان رئيس بلدية مصوع الذي ابدع في اخراج تلك الاحتفالات بتلك الصورة المشرفة كان المهندس صالح عبد القادر كبيري احد الشباب الوطنيين البارزين، وان الهدف من حرص الجماهيري بمختلف مشاربها في تلك الاحتفالات، بالإضافة الى احياء المناسبة، كان التأكيد على قدرتها وفعاليتها للحفاظ على ثوابتها الوطنية وان الكلمات التي كانت تلاقي ذلك التصفيق الحاد كانت تعبيرا عنها.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click