ذكريات وتجارب - الحلقة الثانية عشرة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

بالنظر الى سعيها الدؤوب لطمس الهوية الوطنية الارترية وإنهاك الشعب اقتصاديا وتفكيكه اجتماعيا وتفسخه اخلاقيا، لم تفاجئ

الحكومة احدا بمنعها اقامة احتفالات المولد النبوي الشريف الا من حيث التوقيت. فقد كان هناك من يعتقد انه، ادراكا منها بمدى حساسية المسلمين ازاء ما يعتبرونه شعائر دينية، سيستغرق انحدارها الى هذا المستوى من التغول بعض الوقت، الا ان رؤيتها وحساباتها الاستباقية دفعتها نحو تجاوز كل هذه الاعتبارات بهدف تقطيع الوشائج التي تجمع وتعزز الروابط والمشاعر المشتركة بينهم.

كانت الاحتفالات بمناسبة المولد النبوي الشريف في حرقيقو تقام اعتبارا من اليوم التالي لاحتفالات مصوع، كما ذكر في الحلقة السابقة، ويتم الاستعداد لها منذ العشية بحملة نظافة شاملة في الدور والمنازل وتجهيز اطعمة خاصة مع تبادل التهاني والزيارات، وفي العصرية يرتدي الرجال والاطفال احسن ما عندهم ثم يتوجهون الى مسجد حجي احمد حيث تقرأ السيرة النبوية الشريفة وبعض المدائح والاذكار توزع خلالها بعض الحلويات ومشروبات ساخنة ومثلجة تساهم بها العوائل القريبة فضلا عما تقدمه الجهة المنظمة (عد سبي). وفي الليل، يقام احتفال مماثل في مسجد ميرغني حيث يتناول الجميع وجبة العشاء تساهم فيها العوائل بجانب الجهة المنظمة (عد خليفة) تليها بعض الاذكار ثم ’الحضرة‘ وهي عبارة عن حلقة مديح كبيرة تحت اشراف ورعاية خليفة الخلفاء او من ينوب عنه يتنافس فيها محبي الطرق الصوفية في اداء بعض المدائح والقصائد الدينية. وتتكرر نفس العملية طوال ايام الاسبوع في عدة مساجد مع اختلاف مستوياتها.

هذا ما كان متبعا تقليديا قبل احداث قرار المنع نوعا من حالة الغليان بين الاهالي ادى الى اجراء اتصالات بين ادارة الاوقاف في مصوع والاهالي في حرقيقو - مصوع - حطملو - امبيرمي - عداقة باعتبارها الجهات المنوطة بالتنسيق في كل ما يتعلق باحتفالات دينية او استقبالات رسمية وحتى مقابلة الحكومة او مخاطبتها في الشأن العام وفق عرف متعارف عليه يحدد دور كل جهة كأعضاء سواسية متكاملين، ولأنهم كانوا يوقرون ويحترمون بعضهم البعض كانت كلمتهم مسموعة ومواقفهم تؤخذ في الاعتبار.

بطبيعة الحال، لم يكن بوسعنا معرفة ما تمخضت عنه تلك الاجتماعات والقرار الذي اتخذ فيها، ولكننا، بحكم قرب الزميلين علي سيد عبد الله وحسن حمد امير من طريقة الختمية برئاسة العم هاشم سيد رمضان وعلاقتي والزميل محمد سعيد برحتو بطريقة الاحمدية برئاسة العم عبد القادر قولاي، عرفنا ان الطريقتين اتفقتا على اقامة كل منهما حفلا كبيرا في مسجده يليق بالمناسبة وبالتحدي اسوة بما سيجري في كافة مدن المنطقة، على ان يكون الحفل الاول في مسجد شيخ زرهاوي والثاني في مسجد سيد طاهر.

كنا في هذا الوقت قد عقدنا فيما بيننا عدة اجتماعات ناقشنا فيها تجاوز اجترار الاخبار والاحداث حتى بدون ربط بعضها ببعض الى ما ينبغي علينا عمله، وخرجنا بقناعة محددة وثابتة ان كل ما نعاني منه كأفراد وكشعب بأثره ناتج عن استعمار مهيمن على مجمل مرافق الحياة ولا بديل عن النضال من اجل اخراجه بالقوة ’..اما نحن اما هو‘ وبمعني اخر ’يا قاتل يا مقتول!‘ قرار لا رجعة عنه. وان هذا لا يمكن تحقيقه الا من خلال الالتحاق بجبهة التحرير الارترية في الميدان.

ولهذا انحصر النقاش في الكيفية والمفاضلة بين جدوى الانسلال سرا وبين التحرك داخل الشباب اولا لعلنا نجد من ينضم الينا، وماهية الاساليب التي نتبعها. وبينما نحن مستغرقون في هذه النقاط، علمنا ان طريقة الختمية سمحت للأخ المهندس ادريس حسين سعدو المشاركة في الاحتفال بقصيدة ’ولد الهدى والكائنات ضياء‘ للشاعر الامير خالد الفيصل. رأينا في هذه الخطوة اقصر الطرق فتقدمنا الى العم محمد احمد عاقة رئيس اللجنة المشرفة على احتفال طريقة الاحمدية ان يسمح لنا، انا ومحمد سعيد برحتو، بإلقاء كلمتين دينيتين اسوة بما فعلت طريقة الختمية مع شبابها. وافق العم محمد على طلبنا شريطة اطلاعه عليها مسبقا.

وفي ساعة الجد وجدنا انفسنا عاجزين عن صياغة افكارنا واخراجها بالشكل الذي نريده، فقررنا الاستعانة بالأستاذ محمود صالح سبى، مدرس لغة عربية، وفعلا كتب لنا كلمتين بليغتين ولكن اقل بكثير مما يجول في خاطرنا سياسيا، ولهذا لجأنا الى مدرس اخر هو الاستاذ ادريس ابراهيم بشير، مدرس لغة عربية خريج مصر، وكثيرا ما كان يتحفنا في حصته بالشعر والشعراء الوطنيين امثال حافظ ابراهيم وابو القاسم الشابي وغيرهما. ادرك من كلامنا طبيعة ومضمون الكلمتين المطلوبتين منه، فاخرج لنا بعض منشورات سياسية صادرة عن حركة التحرير الارترية وشرح لنا اهداف الحركة وبرنامجها السياسي المستقبلي ابتداء من اهمية توعية وتعبئة واعداد الشعب للاستيلاء على السلطة بالقوة. احتراما له كنا اذانا صاغية بلا سؤال او اعتراض وفي الحقيقة لم نحاول حتى فهم ما كان يقوله لأنه، في نظرنا، دعوة لإهدار المزيد من الزمن بينما نريد نحن عملا عسكريا فوريا. ودعنا وهو معتقد انه استطاع اقناعنا بل تجنيدنا ولهذا اورد الاستاذ محمد سعيد ناود رئيس الحركة في كتابه "حركة التحرير الارترية" اسماءنا على اساس اننا كنا من طلاب الحركة النشيطين في مصوع.

واخيرا، وعندما لم نجد من نستعين به ونأمن جانبه، قررنا الاعتماد على انفسنا فجمعنا اعدادا كبيرة من جرائد ومجلات مصرية مثل الاهرام والاخبار ومجلة منبر الاسلام ولواء الاسلام اللتين تضاهيان شهرة جريدة الاهرام الذائعة الصيت. وبعد جهد مضني توصلنا الى كلمتين حسبناهما شاملتين تشفيان الغليل، الاولى بما معناه "كان الرسول واعظا ومجاهدا" والثانية "بالفعل لا بالأقوال تتبدل الاحوال". ثم اكتشفنا صعوبة الالقاء وبناء الثقة لم تكن بالأمر السهل ايضا ولاسيما انه لم تكن لنا اية تجربة في الخطابة او الالقاء حتى امام فصل ناهيك امام جمهور، ولهذا استغرقت عملية التدرب خارج البلدة في منطقة السد نخاطب فيها كل مساء جبالاها الصماء !

فعلا كنا نتوقع حضورا كبيرا ولكن ليس بهذه الكثافة بعد ان شاركت في الاحتفال عدة وفود واعيان فرادى وجماعات من ابناء المنطقة المحيطة بما يوحي انه تم الاتفاق على احياء المناسبة في كل مدينة وبنفس القدر ولكن في تواريخ مختلفة. اذكر من الشخصيات رأيتها العم الخليفة عبد مهري والعم حسين احمد هندي والعم الخليفة ابوبكر صايغ والعم احمد هريشاي واخرون لا اعرف اسماءهم.

أعاد الينا العم محمد عاقة الكلمتين بعد ان اطلع ووافق عليهما وهما الكلمتان اللتين كتبهما لنا الاستاذ محمود سبي. وعندما حان دورنا دعينا الواحد تلو الاخر. وبينما انا واقف امام الحضور واخرج الكلمة التي كتبناها ارتبكت بعض الشيء عندما رأيت والدى جالسا أمامي مباشرة فحولت نظري الى غيره، وكلما وقع بصري على احد من كبار البلدة ووجهائها احوله الى جهة اخرى حتى تمنيت لو لم اورط نفسي في هذا الموقف، لان مخاطبة وتوجيه ابائك الى امور هم ادرى بها منك بل وخبروها لعقود لم يكن بالأمر السهل كما تصورنا، ومجرد ان قلت ’السلام عليكم ورحمة الله‘. خف عني التهيب والخشية التي ظلت تضغط على اعصابي فبدأت بالقراءة مع بعض التسرع في البداية الا انني تداركت نفسي في الفقرة الثانية، حيث بدأت استفيد مما حفظته وبالتالي اوجه كلامي الى كل الجهات حتى انتابني شعور بالرضى رأيت يستمعون الي باهتمام لم اتوقعه وحتى نهاية الكلمة.

وكما كان متوقعا، سمعنا من العم محمد احمد عاقا عتابا ابويا شديد اللهجة على تحايلنا ولفت نظرنا الى توخي الحذر من ردة فعل الحكومة. الامر الذى لم نفطن له او بالأحرى لم نكترث له في حينه بالدرجة المطلوبة، عواقب ما تجرأنا على قوله مما لا يقوله سياسي واع تلميحا ناهيك تصريحا. علمنا فيما ان الشهيد الامين عثمان نائب اخبر الاستاذ صالح عبد القادر بشير انه والشاويش على قاضى كانا حاضرين في الاحتفال كمخبرين وسمعا ما ورد على لساننا وان الحكومة استنتجت ان محتوى ومستوى الكلمتين اكبر بكثير من سننا وفهمنا وان هناك عقولا كبيرة قامت باستغلالنا لإيصال رسالتها ومنذئذ وضعتنا، الاربعة، تحت المراقبة.

تحديد الهدف بمبادرة ذاتية والاستعداد للاستشهاد دونه لم يكن بالأمر السهل في ذلك الوقت وفي ذلك السن ايضا، ولابد ان يكون مبنيا على وعي بما ينطوي عليه من خطر لا يقتصر مداه علينا وحدنا بل سيمتد الى أهلنا والبلدة بصفة عامة. وكان عزاؤنا الوحيد ان يسعى من امد الله في عمره منا الى اعادة اعمار ما دمر بسببنا، ومن قضى فعليه الرحمة. وهذا كان الدافع وراء مبادرتي لتخطيط واعادة بناء حرقيقو التي تقدمت بها اللجنة الى الحكومة في اليوم الثالث بعد عيد الاستقلال عام 1994م وذلك قبل ان يشتد عودها ولكل حكومة مهما كانت وطنية لها اولوياتها وحساباتها، سيذكر بإسهاب في موضوعه. وشاءت ارادة الله، مع انني كنت الضحية من بين المجموعة، ان ابقى بعدهم واكون حكواتي زمانه فأقول ’كان يا ما كان في سالف العصر والاوان صبيان !‘ وهذا ما تعهدت به شفويا وكتابيا في التأبين الذي اقامته السفارة الارترية في استراليا لوفاة الصديق على سيد عبد الله، رحمة الله عليه.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click