ذكريات وتجارب - الحلقة السادسة والاربعون

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

في الوقت الذي كانت تحتدم فيه الخلافات والاختلافات داخل الساحة الارترية وتأخذ اشكالا وابعادا متعددة وتتنقل فيه الوفود الحكومية

من دولة الى دولة ومن منطقة الى اخرى داخليا في سباق محموم مع الزمن، في هذا الوقت من عام 1967 سقطت احدى خلايا وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية وهي تلاحق الاحداث ان لم تكن تديرها من خلال شبكاتها الكامنة تحت كل حجرة وفوق كل شجرة عبر العالم.

تكونت هذه الخلية التي سقطت في اسمرا من خمسة اشخاص بشكل لا يمكن تصوره. الاول محارى تسفاي ارتري الجنسية، خريج فرنسا، رئيس الخلية ومنسق انشطة الشبكة في منطقة القرن الافريقي. الثاني المقدم قبرى يوهنس مندفرو، أثيوبي من قومية الامحرا، من قسم العمليات الداخلية في رئاسة الاستخبارات في اديس ابابا. الثالث المقدم تولدى اباى، من اب اثيوبي من قومية تقراى وام ارترية، من قسم العمليات الخارجية في رئاسة الاستخبارات في اديس ابا. الرابع محارى قرماى، أثيوبي من قومية تقراى، يعمل سكرتير لدى مدير شرطة ارتريا في اسمرا. الخامس طقاى (...)، ارترى الجنسية وصهر المقدم تولدي اباي، موظف في بنك في اسمرا.

كثيرة هي المهام التي كانت تقوم بها الخلية اهمها جمع معلومات عن النشاط السياسي والعسكرية الذي تقوم به الجبهة في الداخل والخارج. فكان كل من المقدم قبرى يوهنس مندفرو والمقدم تولدى اباى يزودان محاري تسفاي بصور التقارير اليومية التي تتجمع لدى رئاسة الاستخبارات بهذا الشأن، بينما يزود محارى قرماى طقاي بصورة من التقارير اليومية التي تتجمع لدى مدير شرطة ارتريا. اما طقاي فكانت مهمته استلام التقارير التي تقدمها كافة العناصر المسئول في الداخل وكذلك تقارير الواردة من السودان ومن الميدان عن طريق عنصرهم المقيم في كسلا وتسليمها لمحاري تسفاي.

وكما لكل جواد كبوة، كانت كبوتهم عندما شكا مراسلهم بين اسمرا وكسلا تحت ضغط الحاجة المادية وتأثير الشراب طقاي الى الشرطة زاعما انه رفض تسديد مبلغ كان قد اقترضه منه، نفي طقاي التهمة جملة وتفصيلا واقنع الشرطة انه ليس بحاجة للاقتراض وخصوصا من شاكلة المشتكي. اخذا دفاعه في الاعتبار، ضغطت الشرطة على المراسل بخصوص طبيعة عمله ومصدر دخله حتي يقرض مبلغا بهذا القدر حتى انهار وكشف حقيقة العلاقة التي تربط بينهما، انه كان يعمل لديه مراسلا بين اسمرا وكسلا مقابل اجر ومكافأة اضافية، وان طقاي رفض صرف مستحقه المكتسب بحجة ان المعلومات التي جلبها لم تكن ذات قيمة استخباراتية ما ادى الى تساقط افراد الخلية في لمح البصر. ولولا سرعة تدخل جهات نافذة ولملمتها القضية وحصرها في هذه المجموعة لطالت الاعتقالات رؤوسا كبيرة وكثيرة وصولا الى اديس ابابا. وفي غضون وقت قصير جدا حكم عليهم بمدد متهاودة، وفي اقل من ثلاثة اشهر ابرم الحكم واقفل ملفها.

بعد مرور بضعة اشهر من الحكم، اشعرت ادارة السجن المقدم قبرى يوهنس انه سيتم نقله صبيحة اليوم التالي الى سجن اديس ابابا. على عكس ما توقعه الكثيرون، اصيب الرجل بحالة اقرب الى انهيار عصبي بحيث لم يعد وهو يغادر تمييز من ودعوه . قضى اكثر من اسبوع في غرفة انفرادية في قلعة ’الم بقا‘ التي لا يدخلها الا ذوي الجرائم الخطيرة والاحكام الكبيرة لم يره او يسأله خلاله احد حتى تم اشعاره مجددا انه سيتم نقله في وقت مبكر من صباح اليوم التالي بدون توضيح الغرض او تحديد الجهة ولم يسألهم على اساس ان الغرض من احضاره لم يكن الا لتصفيته ودفن اسراره معه كما كانت تحدثه نفسه فقرر الا يمنح اعداءه هذه الفرصة.

بات قبري يوهنس ليلته وهو يحضر نفسه ويستحضر ذكرياته للانتقام من الجميع شر انتقام. وبمجرد ان فتح امامه باب الغرفة انطلق في الساحة وهو يصرخ ويكرر بصوت ايقظ به معظم النزلاء ’قداى – قداى – قداى‘، كلمة ’قداى‘ حرفيا تعنى ’قاتل‘ وتقال حسب التراث الأثيوبي في الحروب امام العدو او الشدائد للاستشعار بالشجاع والفروسية للايحاء ان القائل لا يخشى الموت وانه قادر على البطش بمن ينازله، وكثيرا ما كان يرددها الجنود الاثيوبيون عند احتدام المعارك مع الثورة. وكذلك يقولها بعض المحكوم عليهم بالإعدام لحظة التنفيذ امام الجمهور يسرد فيها بطولاته وكل الجرائم التي ارتكبها واسماء الاشخاص الذين قتلهم وخصوصا اذا لم تكن المعلومة معروفة. اذكر اننا سمعنا في الفترة التي قضيناها في سجن اديس ابابا ان شخصا محكوم عليه بالإعدام كان يتحدث قبيل وصولنا الى المكان من فوق سطح القلعة امام زملائه داخلها وخارجها. قد تبدو هذه الطريقة من الاعتراف غير مستساغة مع هذا فيها بعض الايجابيات. فعلى سبيل المثل، اذا وردت ضمن اعترافات احد المجرمين جرائم نسبت جهلا الى ابرياء فبإمكان هؤلاء طلب اعادة التحقيق في القضية، وقيل انه فعلا تم تبرئة ساحة الكثيرين ممن من حكم عليهم ظلما.

على كل حال، استمر قبرى يوهنس في ندائه ’قداى.. قداى.. قداى‘ مسلسلا كل الاحداث والمعلومات والعمليات التي قام بها او عرف عنها او سمع عمن نفذها ابتداء ممن قتل وزير الدفاع الأثيوبي الاسبق مرئد منجاشا في مكتبه الى اصغر جريمة تذكرها، وكان على ثقة تامة ان ركبا طويلا من المتآمرين عليه لن يتأخر كثيرا من اللحاق به اثر تداول الناس ما ورد على لسانه. في الطريق لاحظ قبرى يوهنس ان سيارة الاستخبارات التي تنقله تحت حراسة مشددة تسلك طريقا غير الطريق الذي كان يتوقعه بحكم خبرته الطويلة في عمل الاستخبارات ومعرفة اماكن اوكارها، فسأل احدا مرافقيه عن وجهتهم فاخبره انهم متجهون الى المطار لإعادته الى سمرا بعد ان تم تسوية القضية التي استدعت شهادته امام المحكمة. هنا ادرك قبرى يوهنس حيث لا يجدى الندم مدى فداحة الجريمة التي اقترفها بحق نفسه والتي حتما ستعجل من اعدامه قبل استفحال امره، فعاد الينا اسوأ حالا مما ذهب فيه.

لا شك كانت الصدمة قوية واثارها واضحة عليس عليه فحسب بل وعلى زميله المقدم تولدي اباي، فبعد التحفظ وتفادى الاحتكاك الذي اتبعاه، انطلق لسانهما اذ لم يعد هناك ما يخشياه اكثر مما قيل. سرعان ما بدآ يتعاملان مع الجميع بمن فيهم السياسيين ودخلا في نقاشات سياسية والتطرق الى الجرائم التي ترتكبها الحكومة ضد المواطنين الابرياء وبالطبع بدون الافساح عما يعرفانه . سأل قبري يوهنس ذات يوم احد الزملاء سمعه يتحدث في امور سياسية بعفوية قائلا ’هل تعرف، يا فلان، شخصا يدعى سيد حسين، من ابناء حرقيقو مات في اديس ابابا منذ عدة سنوات‘. فوجئ الزميل بسؤاله ورد عليه بالإيجاب وذكر انه يعرفه وانه مات في حادث سيارة. فرد عليه قبري يوهنس ’فعلا انه مات في حادث سيارة ولكن ليس في حادث سير، دهسته المخابرات وهو فوق الرصيف لحظة خروجه من سينما، لهذا عليك ان تعرف ان المخابرات لا تقفل ملفاتها ولا تنسى اهدافها وان طال الزمن، فاذا لم تستطع تصفيتك داخل السجن فبمقدورها ان تطلق سراحك وتقتلك امامه. انا اعرف كل شيء عنكم لان ملف حرقيقو كان ضمن مسئولية القسم الذي كنت ارأسه!‘ شخصيا اذكر وفاة الاخ سيد حسين لان الخبر الذي وصل البلدة في البداية كان مبهما فاستنفرت كل العوائل التي كان لها ابن في اديس، وفعلا كان شقيقي الاكبر كان مع المجموعة عندما استهدفت سيارة سيد حسين بعد ابتعاده عنهم لبضعة امتار لشراء سيجارة.

قبل انتقاله الى اديس ابابا، كان سيد حسين جندي في البوليس الارتري (Eritrean Field Force ). عبارة عن قوة خاصة لمكافحة قطاع الطرق والارهابيين. ويوم تمرد الجنرال تلا عقبيت على الحكومة، كان سيد حسين في شرطة سمبل في اسمرا وفور سماعه بالخبر، سارع هو وزميله ياسين بشير بتعليق العلم الارتري فوق سارية المركز، حتى بعد تأكد خبر قتل تلا عقبيت في مكتبه رفض الاوامر التي صدرت اليه لإنزال العلم. ونظرا الى الاوضاع والاجراءات التي تلت الحادثة، قدم استقالته وغادر الى اديس ابابا بينما ركب ياسين بشير، للأسف الشديد، الموجة حتى رقي الى رتبة كولونيل واصبح من الد اعداء الجبهة حتى قتل على يدها.

ذكر لي المناضل الكبير ياسين صالح عقدة الذي كان حينها مسئول حركة التحرير في اسمرا، ان الاخ سيد حسين سوءا اثناء وجوده في البوليس او بعد انتقاله الى اديس اباب كان من العناصر النشطة جدا في الحركة وعلى علاقة شخصية بالشهيد محمد سعيد شمسي، وكانت الاستخبارات تتبع خطواته الى ان تمكنت من تصفيته.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click