ذكريات وتجارب - الحلقة السابعة والاربعون

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

ذكرت في الحلقة ما قبل الاخيرة انني كنت احبذ مناقشة ”مبادرة الحل السلمي“ التي نقلها الينا الزعيم محمد عمر قاضي. لم يكن هذا

نتيجة انهيار روحي المعنوية بقدر ما كان استبعادا لتحقيق الانتصار بالنظر الى ما كان يجري داخل الجبهة واستنباطا من التجارب والاحداث السابقة. فلعله من نافلة القول ان نذكر انه في عام 1943 اسس اثنا عشرة مثقفا مسلمون ومسيحيون "جمعية حب الوطن" - محبر فقري هقر - باللغة التجرينية - متعاهدين على العمل على تعزيز الوحدة الوطنية بداية بالقضاء على الموروثات السلبية من العهد الاستعماري والمسائل المثيرة للخلاف والحساسيات الدينية والاجتماعية. واعتمادا على توسع قاعدتها الجماهيرية وفي مسعى منها لوضع رؤية وميثاق وطني، عقدت الجمعية عام 1946م اجتماعا عاما في بيت جرجس في اسمرا - الا انه انفض وقيل فض قبل استكمال فعالياته.

نقل الزعيم عثمان صالح سبي في كتابه ’تاريخ ارتريا‘ عن الزعيم ولدآب ولد ماريام احد مؤسسي الجمعية والمشاركين في الاجتماع قوله ’لو لم تتدخل اثيوبيا في اجتماع بيت جرجس لضمنّا وحدة شعب ارتريا واستقلاله وعلاقة حسن الجوار مع اثيوبيا‘. اما الزعيم ابراهيم سلطان، حسب ما ورد في كتاب "لا نفترق" للكاتب الم سجد، فقد ذكر انه وصل الى مقر الاجتماع متأخرا وبالتالي لم يشارك في وضع اجندة الاجتماع، وان الجلسة التي شارك فيها فقد ظل فيها مجرد مراقب حيث كان النقاش عبارة عن محاولة للتوفيق بين الموالين لحزب الوحدة والمجموعة المؤيدة للاستقلال، وانه عندما طال امد الجلسة جراء مشادات نشبت بين ولدآب ولد ما ريام وتدلا بايرو وهمّ بالانصراف تقدم اليه السيد دماس ود دقيات حقوص قائلا ’لقد اخطأنا فنحن لم نسأل اخواننا المسلمين عن رأيهم‘ وطلب منه الحديث وانه رد عليه بالقول ’ليس لدي ما اقوله ونحن وصلنا للتو من السفر ولا نمثل المسلمين. فالمسلمون لم يأتوا (...) ونحن لا نمثل هنا الا انفسنا. لهذا ارجو ان تنهوا هذا الاجتماع وحددوا موعدا لاجتماع اخر يحضره الجميع‘ فقام اليه شاب وقال: ’عجبا يا ابن سلطان.. نحن لسنا عاطلين حتى ندعو كل من هب ودب من المسلمين البدو، رعاة الابقار والجمال.. ان ما نقرره هنا سيتقبله المسلمون صاغرين، وما نقوله سيتبعونه، وما نفعله سيقبلونه على الرغم من انفهم‘. فأجابهم قائلا ’اني لا املك في الوقت الراهن القدرة على مجاراتكم في الاساءة، فنحن الموجودون هنا لا يزيد عددنا عن العشرة او العشرين بينما انتم بالمئات ويمكنكم كذلك ان تضعوا القمع في انوف المسلمين وتصبوا ما تشاءون فيه‘.

وفي هذا الشأن، ذكر الاستاذ محمد سعيد ناود في كتابه "ارتريا من (1941-1958)" ’وعندما اسفرت هذه الرموز من قياداتها (جمعية حب الوطن - محبر فقري هقر) عن نواياها المشار اليها فقد كانت تلك هي البداية لحدوث انشقاق طائفي في اطار الشعب الارتري والذي كانت تقف من ورائه اثيوبيا وكانت تلك هي البداية التي نتجت عنها كردة فعل ميلاد الرابطة الاسلامية وبعدئذ تكاثرت الاحزاب‘.

والسؤال الذي يفرض نفسه، هل فعلا كان هناك اتفاق على موعد الاجتماع ومكانه، واذا كان كذلك فلماذا لم يحضر ممثلو المسلمين في الموعد المحدد وبنفس الكثافة حتى يتسنى لهم المساهمة في وضع اجندة الاجتماع بدلا من تركها لغيرهم ليضعها وفق اولوياته ومصالحه الخاصة. اما اذا كان العكس فما الذي حدا بالشيخ ابراهيم سلطان ومن معه الى حضور اجتماع يكونون فيه مجرد مستمعين، وفي هذه الحالة، كيف يتسنى لنا القول ان انسحاب الشيخ ابراهيم سلطان وصحبه كان نتيجة خلافات سياسية.

وعلى ضوء ما تقدم، تم تأسيس حزب الرابطة بمبادرة شخصية من الشيخ ابراهيم سلطان وبمباركة من سماحة مفتي الديار الارترية ابراهيم المختار وعدد من الشخصيات الوطنية اخذا في الاعتبار ان حزب الوحدة يمثل المسيحيين. في نظري، لم يكن هذا التبرير موفقا، فمن ناحية لم يقتصر حزب الوحدة على المسيحيين بل كان يضم في عضويته نسبة لا بأس بها من المسلمين، وفي نفس الوقت قد يفسر الوطنيون من المسيحيين هذا التعميم تشكيكا في وطنيتهم. ولهذا كان الاحرى بهذه القيادات بذل المزيد من الجهود لرأب الصدع، وفي حالة الاستحالة، تأسيس حزب سياسي وطني - غير طائفي - يستوعب غير المسلمين تفاديا لشق الصف الوطني دينيا يكون مدعاة لردة فعل تضر بالمصلحة الوطنية.

اما وقد ابرم الاتفاق وتم الاعلان على هذا النحو المذكور، فكان من المحتم على هذه القيادات الاسلامية الارتقاء الى مستوى التحدي الذي فرضته على نفسها ومعالجة تبايناتها الداخلية بالحوار بدلا من الانقسام الى كيانات متنافسة (الرابطة الاسلامية الارترية، الرابطة الاسلامية للمنطقة الغربية والرابطة الاسلامية المستقلة) وتتماهى مع الخطط البريطاني الذي كان يسعى الى تمزيق الصف الوطني بصفة عام. وكثيرا ما كنت اتساءل وانا استرجع تلك الاحداث، هل تشرذم هذه القيادة الرائدة في العمل الوطني اثناء وبعد فترة تقرير المصير كان نابعا من عدم الوعي الكافي والحنكة السياسية ام بسبب النزعة الفردية، لان التضحيات أيا كان حجمها، بلا شك، تكون وبالا على اصحابها ما لم يحسن استخدامها واستغلالها.

السرعة التي تعاطف وتفاعل بها الشعب مع حركة التحرير الارترية التي اسستها نخبة من الوطنيين بقيادة الاستاذ محمد سعيد ناود عام 1958، تعكس تماما مدى خيبة الامل التي اصيبت بها الجماهير جراء ضياع فرصة سانحة للاستقلال. واكثر من هذا، ادراك وقناعة الجماهير بعدم جدوى برنامج الحركة الداعي الى الوصول الى السلطة من خلال نضال سلمي مع نظام فاشي واعلان الكفاح المسلح بقيادة جبهة التحرير الارترية عام 1961 تؤكد ان الشعب كان مستعدا ومهيأ لبذل اقصى ما يستطيع فيما لو توفرت له قيادة قادرة على توحيده وقيادته. ولهذا لم يكن مستغربا ان تفقد الحركة وتكاد تصبح اسم بلا مسمى بعد ذلك الدور الكبير الذي لعبته في التوعية السياسية والتنظيم، ولم يكن امام البقية الباقية منها سوى الالتحاق بالركب او الاضمحلال بشكل تلقائي. وتفاديا لهذين الخيارين، وفي محاولة يائسة لاستعادة ما فقدته، استبدلت شعارها بشعار "الكفاح المسلح" ارسلت مجموعة مسلحة من نحو ثلاثين مقاتلا الى الميدان لتكون نواة "لجيش حركة التحرير الارترية". وبذريعة ان الساحة لا تتحمل اكثر من تنظيم مسلح، صفت الجبهة المجموعة في مهدها مسجلة اول سابقة للحرب الاهلية.

صحيح انتهت الحركة والجبهة على السواء ولكن ما زالت حتى اليوم تساؤلات مشروعة تتعلق بالسبب الذي منع من تبقى من الحركة من الالتحاق بالجبهة طالما تقتضي المصلحة الوطنية ! وبماذا كان سيختلف او يتميز جيشها عن جيش التحرير الارتري، ولماذا قامت الجبهة بتصفية اولئك الشباب بهذه السرعة وهل كانت حتمية الى هذه الدرجة ثم لماذا لم يحسم الطرفان خلافهما بحوار وطني بدلا من حسمه بالسلاح طالما يناضلون من اجل الشعب !

من التناقضات العجيبة في هذا العملية بالذات، ان المجلس الاعلى - اعلى سلطة سياسية في الجبهة – في الوقت الذي اتفق ووافق فيه على قرار تصفية الحركة، كان يعيش ازمة داخلية مستعصية رافقته منذ نشأته. كان من المؤمل، على الاقل ابان الحملة الديبلوماسية والعسكرية التي قامت بها اثيوبيا عام 1967 ان تتدارك هذه القياد وتحاول استعادة المبادرة من خلال حل خلافاتها وتوحيد قنواتها الا ان ما بينها بلغ حدا لا يمكن معالجته او التراجع عنه !

وسواء كان امتدادا لهذه الخلافات او انعكاسا لها، وحسب ما كان يصلنا، لم تكن العلاقة بين العسكريين في الميدان افضل حالا، كثيرة كانت المنغصات التي قضت مضاجعنا في السجن واحيانا اكثر من اللزوم، منها، على سبيل المثال، تحول المناطق الادارية بشكل واخر الى اقطاعيات متنافسة مع التمييز والتمايز فيما بينها وايضا بين مقاتليها، وان جنود كل منطقة لا يقاتلون الا في حدود منطقتهم، وان بعض القوات في منطقة معينة تقاعست عن نجدة قوة من منطقة اخرى وقعت في كمين على مقربة منها بحجة عدم وجود تعليمات، وان بعض الاهالي في احدى المناطق لم يتعاونوا مع قوة دخلت منطقتهم مضطرة بعد الصدام مع العدو لذات السبب .. الخ.
بالطبع لم نكن نتقبل او نصدق مثل هذه الاخبار والتصرفات وان ترددت ووردت من جهات مختلفة، وكنا نحاول قدر الامكان اعتبارها جزء من حملة تشويش تقوم بها اجهزة العدو وعملائه . لهذا، كم كانت فرحتنا عارمة عندما سمعنا توصل المنطقة الرابعة والثالثة الى وحدة اندماجية ثم انضمام المنطقة الخامسة اليهما، وكنا نتطلع كل يوم لسماع انتصارات الجيش الموحد وكانت كثيرة وفي مناطق عدة. واذ نتوقع خطوة وحدوية مماثلة من المنطقة الاولى والثانية، تسربت معلومات تشير الى تحول الساحة الى كتلتين - ثنائية وثلاثية، وقيام الكتلتين بحملة تحريض وتشويه ضد بعضهما بل واستقطاب جنود بعضهما وخصوصا اولئك الذين يذهبون في اجازة الى كسلا.
ظللنا فترة طويلة تراودنا الآمال في ان تتكلل المساعي الجارية لإقناع الاطراف المختلفة للإنصات الى صوت العقل والشعب المطالب بوحدة كاملة وشاملة، ولكن للأسف اصبنا بخيبة امل كبيرة لم نتوقعها على الاطلاق: كل ما تمخضت عنه المساعي كان فسخ الوحدة الثلاثية وعودة الجنود الى حظيرتهم السابقة لحين التوصل الى صيغة توافقية لعقد مؤتمر عام تأخذ في الاعتبار مقترحات كافة الاطراف. ومما زاد الطين بلة، سمعنا مغادرة المناضل عبد الكريم احمد، ابرز قادة المناطق شعبية الميدان في ظرف يستدعي تضافر كافة الجهود. رأينا في مغادرته في هذه الاجواء مؤشرا سلبيا الى ما يجري وسيجري، وسرعان ما بدأت الامور تتكشف وبالدليل القاطع. لم تعد المبادرات والمشاريع الوحدوية المتعارضة التي كانت تتبادلها الاطراف، وفقا لما يصلنا، اكثر ذر الرماد في العيون، يراد بها كسب الوقت وترجيح كفة قبل انعقاد المؤتمر المزعوم. ولا يمكن فهم عملية حلحل التي قامت بها المنطقة الثانية وربما بالتفاهم مع المنطقة الاولى عن هذا الاطار، ولولا هذا لتم تأجيليها، وخصوصا انها كانت عملية هجومية بحتة حسب ما علمت من جنود شاركوا فيها وليست دفاعية كما روج لها البعض لاعتبارات خاصة، الى ما بعد المؤتمر ثم خوضها بجيش واحد ما كان سيوفر على الساحة مضاعفات كثيرة وما يهمنا هنا هو التوقيت وليس النتائج العسكرية لان الحروب سجال.

في الوقت الذي كانت تحتدم فيه النقاشات عن التطورات الجارية في الميدان، تجدد الحديث عن مدى صحة اعدام الجبهة عدد من الطلبة وبعض القرويين المسيحيين واعدادهم. وقبل الاسهاب في الموضوع، اود الاشارة الى صحة حدوث الواقعتين طبقا لما ذكره لي المناضل محمود جابر الذي كان مسئولا في المنطقة الخامسة حيث تمت العملية الاولى حيث قال ان عدد من تم اعدامهم من الطلبة لم يتجاوز شخصين او ثلاث وذلك بعد ان تمت ادانتهم بمحاولة الهروب، اما سبب هروب زملائهم لربما كان خشية ان يتهموا بالتواطؤ معهم ليس الا. وفيما يتعلق بالقرويين، فقد ذكر لي المناضل محمد نور احمد ان عدم التزام هؤلاء القرويين بالتحذيرات الموجهة اليهم من قبل الجبهة واصرارهم على الاستيطان في قرى قام العدو بإحراقها وتهجير اهلها - عد ابراهيم - كان السبب في هذا الاجراء حتى لا يتكرر. ليس المقصود من ذكر هذين الموضوعين هنا بغية الادانة او التبرئة بقدر ما هو لتوضيح التراكمات والتفاعلات المتزايدة التي كانت تحصل في الميدان وانعكاساتها في المدينة.

ومما سمعته صراحة او استشفيته من احاديث العديد من الطلبة كان بعضهم ضمن من سلموا انفسهم عن تجربتهم وتفسيرهم لما حدث وبالإيجاز قال بعضهم انها كانت تصرفات نابعة من تعصب ديني، بينما قال اخرون: كان ينظر الى المسيحي مواطن من الدرجة الثانية، مشكوك في ولائه، عرضة لعقوبات قاسية لادني تقصير، وفي حالة اتهامه بالهرب يتم تصفيته حتى بقرار فردي. وكان هناك من قال انها تصرفات فردية من بعض القيادات التي تخشى من منافسة المسيحيين وخصوصا الفئة المتعلمة على المراكز القيادية، ولهذا كانت تدفع المسيحيين الى الخروج من الميدان.

وفيما يتعلق بتأثيرات الهروب على الالتحاق بالميدان، قالوا انه جرت حوارات كثيرة وواسعة بين قطاع كبير من الطلبة جلهم من جامعة اسمرا واديس ابابا انتهت بالاتفاق على ضرورة دفع الشباب للالتحاق بالميدان بأعداد كبيرة والنضال اجل تثبيت الهوية والثوابت الوطنية وبالفعل تم الالتزام بما تم الاتفاق عليه. وقيل ان معظم الذين يتم الافراج عنهم او انهوا مدة احكامهم يلتحقون بالميدان وفعلا كلامهم صحيح، فعلى سبيل المثال، الشهيد طقاي يوسيف عرفني في احدى زيارات العوائل على شخص جاء لزيارته يدعى موسي تسفانكئيل وذكر انه احد الطلبة الذين سلموا انفسهم وحاليا يقوم بالمنسق بين الطلبة. فيما بعد اختطف موسي مع عدد من زملائه طائرة مدنية اثيوبية من مطار اديس ابابا وتوجهوا بها الى مطار طرابلس في ليبيا. للآسف، سمعت بعد الاستقلال انه تم اعدامه في الجبهة الشعبية بتهمة الانتماء الى مجموعة "منكع" المعارضة. حقيقة، كنت اتعاطف واقدر حماس هؤلاء الشباب واستعدادهم للتضحية، وفي نفس الوقت، كنت اخشى الا يدفعهم حماسهم الى خوض صراع لا يزيد الوضع الا اشتعالا.

هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى كانت هناك نقاشات مماثلة تدور حول تصفية الجبهة شخصيات اجتماعية ودينية مسلمة بتهمة التخابر مع العدو. كان النقاش في معظم الاحيان بين المسلمين، كان بعضهم يؤكد وفقا لمعلومات موثقة لديه ان دوافع بعض العمليات كانت انتقامية محضة دبرتها قيادات بعينها. حتى في ادني حالاتي المعنوية لم استسغ مثل هذه الاتهامات ناهيك تصديقها اذ لم يخطر ببالي على الاطلاق ان ينزلق أي مناضل الى هذا الحد من الجرائم، وايضا تكذيب اناس فقدوا عزيزا لديهم ولهم السبق في النضال وعلى علاقة ودراية ببواطن الامور في الجبهة لم يكن بالأمر السهل، فظللت بين مكذب ومصدق وما اصعب الريبة والارتياب الى ان اثبتت الايام صحة ما قالوا حيث برأت الجبهة ساحة بعضهم وان كان بعد فوات الاوان.

الوسيلة الوحيدة امام السجين للهروب من القلق او سماع مواضيع مثبطة للمعنويات، كان اللجوء الى يخرجه من هذه الحالة. كان الزميل ادم ادريس شكر شخصا مرحا يحب الفكاهة والنكات بحكم عيشه في السودان فترة طويلة، فكثيرا ما كنا نلتف حوله ننصت الى ذكرياته في شكل فكاهي وان كان بعضها مكرر وفي معظمها تدور حول تتجاربه مع ابن عم له يدعى محي الدين. قلما ذكر نطق ادم اسم محي الدين والا قرنها بكلمة ’شهيد‘ وكانها جزء من اسمه. استنتجت من كثرة تكراره لكلمة شهيد انه يحمل في قلبه جرح عميق وحقد دفين يحاول التنفيس عنه بهذا الاسلوب. فمحي الدين هذا كان قائد المجموعة المسلحة التي ارسلتها الحركة الى الميدان وصفتها الجبهة في معركة عيلا صعدا كما ورد سابقا. اما ادم فكان فدائيا في الجبهة ولهذا لم تطاوعه نفسه ادانة الجبهة ولكنه لم ينس دم محي المهدور والذي يعتبره شهيدا.

كلما كنت استمع الى المرارة التي كان يتحدث بها المسيحيون والمسلمون والزميل ادم بطريقته الخاصة عن ذويهم الذين قتلوا ظلما ’على حد قناعتهم‘، كنت احس بقلق شديد من دخول الساحة الى نفق مظلم بسبب القتل والاغتيالات ولاسيما ان المجتمع الارتري صغير يعرف بعضه جيدا. وتأكيدا لهذا الهاجس، عندما التقيت ادم في كرن عام 2000 أي بعد اكثر من ثلاثين عاما قبل بضعة ايام من عدوان نظام وياني في جولته الثالثة والمدينة في حالة غليان واستنفار، دعاني ادم الى كوب شاهي في قهوة وفي نفس اللحظة مر امامنا شخص فسألني ادم ان كنت اعرفه، وعندما نفيت، قال بصوت مسموع وفي عينيه ذات الحرقة ’هذا هو من قتل اخي محي الدين‘ واشار بيده حتى خشيت ان يلاحظه الرجل!‘.

كانت هذه الفترة من اشد اللحظات قساوة وقتامة عشتها في السجن، فما كنت آوي الى فراشي حتى اجد نفسي، وبشكل يومي، غارقا في تحليل ما التقطته اذناي طوال اليوم فاربط حديثه بقديمه لأقضي ليلتي على هذا المنوال، وكلما واصلت في التفكير والتأمل لعلي اقتنع ان في اخر النفق نور، وان الامور ستسير على ما يرام، وان ما ينتابني مجرد هواجس لا اساس لها، كنت ازداد اقتناعا ان قيادة الجبهة هذه لا تملك من النضج الوطني والسياسي ما يؤهلها لمعالجة مشاكلها المتفاقمة ناهيك لتحقيق الاستقلال واقامة دولة، لان فترة سبعة اعوام من النضال المشترك، في اعتقادي، كانت كفيلة لتنبثق منها قيادة رشيدة منسجمة قادرة على تحديد اولوياتها وخلق تنظيم وطني ديمقراطي واضح المعالم والاختصاصات لا لبس فيه او التباس، وقبل الاستسلام الى النوم، احلم بحل سلمي يجنب الشعب المزيد من الدمار، مع ادراكي في قرارة نفسي ان متطلبات السلام لا تقل عن متطلبات الحرب .. وحدة الارادة والرأي !

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click