ذكريات وتجارب - الحلقة الاحدى والسبعون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

لقد اثرت الندوات الجماهيرية التي شاركت في عقدها تجربتي الشخصية كثيرا وافادتني نفسيا وانسانيا حيث كنت اشعر بسعادة غامرة

ازاء التفاعل والاهتمام الذي كان يبدو على وجوه الحضور، ورسخت اسئلتهم في نفسي قناعة ان شعبنا الطيب يحتاج الى من يستمع اليه اكثر ممن يسمعه. كان التركيز، بطبيعة الحال، على صمود العناصر الوطنية في معتقلات العدو وسجونه سواء في ارتريا او اثيوبيا بالرغم من المعاناة والمعاملات القاسية التي كانت تكابدها بل وقدرتها على تحقيق بطولات خارقة ونجاحات كثيرة على رأسها المساهمة في تنفيذ عملية اقتحام سجن عدي خوالا وتحرير مئات السجناء.

فور الانتهاء من هذا البرنامج في غضون اسبوع، اشعرني جبداي عن رضاه بالنتائج المحققة ثم نصحني بالذهاب الى بورتسودان لان العلاج هناك افضل وانه سيوصي المكتب للتعاون معي، وكذلك لعلي اجد بعضا من ابناء منطقتي. جاء اقتراحه متوافقا مع ما كنا بصدد القيام به حيث كنا قد اتفقنا على عودة ارمياس وبرهاني الى الجبهة والتحاق قرماي ويعقوب بالشعبية على ان الحق بهما بعد انهاء علاجي.

واثناء بحثنا عن السبل التي توصلنا الى الهدف، تعرفنا على كادر من احدى الاجنحة التي كانت تنشط في تسهيل توجيه المسيحيين القادمين من الخارج الى الميدان، وكذلك اعادة من اخرجوا او ابعدوا مرة اخرى. فكان الاتفاق معه على ان يكون دخول الزميلين الميدان خلال اسبوع وحتى يحين الموعد يوجد لهما مكانا يقضيان فيه وقتهما ومعهما الزميلان ومعهما قرماي ويعقوب وعلى هذا النحو استغنينا من التسلل الى بيت المقاتلين كاللصوص. فتركز البحث عن كيفية التحاق قرماي ويعقوب بالشعبية، عندما طرحت هذه النقطة على العم احمد دنكلي، ارشدنا الى مكان تواجد مندوب الشعبية مع ان لم تكن له اية علاقة بها لكن المؤكد انه كان مستاء جدا مما حصل لنا في الجبهة.

ابدا مندوب الشعبية استعداده الكامل لضمان سلامة الزميلين وتحمل كامل نفقات سفرهما حتى الميدان، وفي الموعد المحدد وبعد تناول اخر فطار لنا معا ودعنا ارمياس وبرهاني الى مثواهما الاخير حيث استشهدا. ومن ثم توجهنا الى محطة القطار، كانت معي مجموعة من مقاتلي الجبهة ومع قرماي وارمياس مجموعة من مقاتلي الشعبية وحجزنا كلنا في مقصورة واحدة وكأن بعض المقاتلين لم يقاتلوا ضد بعضهم او سيقاتلون بعضهم البعض مستقبلا، فكانت مثال للمأساة التي يعيشها الشعب. وفي محطة قطار بورتسودان كان الوداع الاخير على ان نلتقي قريبا وذهب كل منا في اتجاهه.

كان عدد المقاتلين في مقر الجبهة نحو خمسة وعشرون، بعضهم جرحى وبعضهم مرضى وبعضهم في اجازة، كلهم مسلمون من ابناء المنطقة الغربية في العشرينيات من العمر. بما ان الوقت كان شبه متأخر وكنت مرهقا استلقيت من فوري على احد السرائر المتوفرة وحاولت النوم، ولكن بالكاد اغمضت عيناي حتى اشتغل فيلم هندي.

اتضح ان كل هؤلاء المقاتلين قدموا من جبهة الساحل وكلهم ممن شاركوا في الحرب الاهلية، فبدأوا في تشغيل شريط ذكرياتهم وبطولاتهم ضد ابناء البحر الاحمر مع بعض المبالغات التي لابد منها في ظل الفراغ والخواء الذي كانوا يعيشونه. لم تكن المشكلة في عدم قدرتي على النوم انما استماعي اجباريا لمسلسل ينم عن عمق الكراهية والعداء المستحكم. وجدت نفسي في موقف لا احسد عليه وامام خيارين صعبين، اما ان استوعب الموقف قدر المستطاع او اغادر المكان فورا، فقررت التريث على اساس انهم شباب جاهل لا يعرف ان اثار الحرب التي يستهينون بها قد تجاوزت كثيرا حدود وامكانات من فجروها وتهدد وجودهم.

قابلت في الصباح المسئول عن ادارة المقر وعلاج المقاتلين اسمه حمد (للأسف لا اذكر اسمه الكامل) من الناطقين بلغة ساهو، كان مجرد ممرض ولكنهم يطلقون عليه لقب دكتور. سألته عما تقرر بخصوص الخطاب المرسل بشأني مع احد المقاتلين، فأكد لي ان كل ما ورد في الخطاب امكانية الاستفادة مني في عقد ندوات جماهيرية. تأسف كثيرا عندما اخبرته عن تجربتي في الجبهة، ولم يكن بمقدوره تقديم شيء. كان الدكتور حمد لطيفا متواضعا واعيا مدركا تماما للتطورات الجارية في الساحة وغير راض عن اشياء كثيرة تحصل داخل الجبهة.

عندما لم احس باي سوء تعامل او نظرة تجاهي من قبل المقاتلين، عرفت انهم لا يعرفون لا عني ولا عن اقليمي والا لما تفوهوا بما كانوا يقولونه بحق اقليم انتمي اليه، فقررت التعامل معهم بدون حساسية، بل قمت بمحاولات لاستدرجهم بها الى مواضيع اخرى منها رواية قصص بوليسية وغيرها وبالفعل كانت تستهوي معظمهم كثيرا ولكن مع عدم التوقف عن معزوفتهم.

من العوامل التي اسهمت في ادمان هؤلاء المقاتلين اجترار تجاربهم المحزنة في الحرب الاهلية مع ما يحمله من اثار نفسية، كان عدم وجود أي وسيلة اخرى تشغلهم او يتنفسون من خلالها. فكل ما كان يصرف لكل واحد منهم خمسة او عشرة قروش للكيف (سيجارة او تمباخ) وثلاث وجبات مكونة من صحن عدس وكسرة وكوب شاهي، ولا يقومون بأي عمل سوى نوبة طباخة بعد فترة. فعندما سألت الدكتور حمد على ضوء ما عرفت عن حياتهم اليومية، عن السبب في عدم اقامة فصول تعليمية او ندوات لتوعيتهم هؤلاء المقاتلين بدلا من تركهم يستغرقون يومهم على هذا النحو، وافقني الرأي ولكن مسئوليته كانت محددة بما يقوم به. كنت اتوقع ان يسمحوا بعمل شيء مماثل للندوات الجماهيرية.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click