ذكريات وتجارب - الحلقة السادسة والستون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

بعد استنفاد كل الآمال والاحتمالات تحرك كل منا كيفما كان الا برهاني الذي ظل يحوم حول الباب، وفجأة فقد اعصابه وعمد

الى فتح الكوة بالقوة مع انها لا تفتح الا من خارج ليعرف حقيقة ما يجرى. في البداية كنا نستغرب في عدم محاولة الحارس الاستطلاع عما يجري حوله، ثم استغربنا اكثر عندما لم يكترث بفعلة برهاني وكأنها امر عادي، ومما لفت نظرنا اكثر لاحظنا انه تحول الى تمثال اكثر من كونه انسان، لا يهش ولا ينش في حالة ذهول، فبدأنا نتساءل ما بال هذا المتنمر دوما حمل وديع، هل تعرض لظرف شخصي ام لمشكلة عامة وهل حالته لها علاقة بما يجري حوله. وفي هذه الاثناء تمكن برهانى من فتح الكوة، واخذ يؤشر بيديه بدون ان يحول ناظريه من الكوة ان مسلحين كثر يدخلون من البوابة الرئيسية ويتجهون الى اتجاه معاكس.

وبعد قليل وضع ثلاثة من اصابعه على خده – بما معناه ان من بينهم مشلخين – أي من قومية بنى عامر التي يشكل ابناؤها نسبة كبيرة في الجبهة، وكأنه يريد ان يقول ان من يدخل هم جنود الجبهة. لم تجد ملاحظته أي قبول او اعتبار وكانت في نظرنا دربا من الأماني وبمثابة تعلق الغريق بالقشة، لان عددا من بني عامر التحقوا بالجيش بعد اختلافهم مع الجبهة، على سبيل المثال ابناء عد كوكوي.

ولهذا ظلت القناعة العامة ثابتة ان من يدخل هو الجيش وان توجهه الى هذا الاتجاه لم يكن سوى بهدف فرض حصار على العنابر قبل تنفيذ الإعدامات او، وفي احسن الاحوال، تعزيز دفاعاته تحسبا لهجوم مرتقب. احتمالان لا ثالث لهما. اما ان يخطر ان الجبهة التي لم تكن لها حتى الامس القريب اية عناصر متعاونة من الحرس هي التي تقوم بالاقتحام، فكان الجنون بعينه.

قد ينسحب هذا الوصف على مجموعتنا، اما البقية فيمكن القول وبكل ثقة ان الحقيقة الماثلة امامهم كانت واحدة وواضحة غنية عن التفكير والتفسير وهى.. ان الذي يتحرك في الساحة هو الجيش وانه خلال دقائق سيقتحم العنابر ويرتكب ابادة جماعية. وانزوى الكل اينما صادف لا يحس بنفسه ناهيك بغيره.. ليسترجع شريط حياته ويترحم على روحه الطاهرة.

في الساعة العاشرة الا عشر دقائق تقريبا سمعنا شخصا يضرب بيديه على الباب وهو يصرخ ويكرر بانفعال ’جاءوا.. جاءوا‘. لم يظهر من الكوة الا فمه، فلم يعبأ به احد لأن الجميع يعرف هذا ولا حاجة للاستفسار. مضت لحظات قبل ان يتذكر برهاني الذي كان حتى هذه اللحظة قريبا من الباب ان الصوت صوت سيوم وانه كان مكلفا بإرشاد المقاتلين الى عنبرنا فأسرع الى الكوة مستوضحا ’من الذين جاءوا‘، كرر سيوم بنفس العصبية ’جاءوا.. جاءوا‘ وكرر برهاني نفس السؤال وتكرر الموقف حتى تنبه سيوم وقال ’الجبهة.. الجبهة‘. عندئذ طلب منه برهاني فتح الباب.. فقال ان الشاويش ودى سنغال اصيب بذعر وهرب ومعه المفاتيح والجنود يلاحقونه داخل السجن.

عملية الامساك بالشاويش واستخلاص المفاتيح منه ثم تجربة العشرات منها على باب عنبرنا استغرق وقتا اتاح لنا فرصة لالتقاط الانفاس واستعادة توازننا ولو نسبىا، وعندما بدأنا في النداء والاعلان على الملا من كل جانب بالكاد كنا نسمع صوتنا المبحوح ناهيك ان نسمعه اناسا بلغ ببعضهم الانهيار حدا يستحيل معه الاستماع الى أي شخص او الى شيء.

لمحت بالقرب منى صالح عبد الله حبيب وصالح اسماعيل فحاولت إقناعهما أن الجبهة هي التي احتلت السجن واننا اصبحنا احرارا وما علينا سوى التوجه الى المستودع وحمل السلاح. وقلت لصالح حبيب ’البرين يا ابو عبد الله.. البرين‘ كان صالح مدفعجيا قبل اسره في معركة. تأملاني برهة وكأنني شخص غير مألوف وتوجها الى العنبر بدون تعليق. وبعد عدة محاولات مع اخرين تذكرت ان الاثنين لم يخرجا بعد. قابلني صالح حبيب خارجا وهو يحمل فراشا محشوا بكل مقتنياته فقلت له ’ما هذا يا صالح‘ فرد علي بكل برود ’الم تقل اننا سنخرج‘. قلت له ’بل ولكن لنحمل السلاح وليس الفراش‘ اما صالح اسماعيل فقد وجدته في مرقده مستلقيا وقد شد عليه ملايته. هززته بعنف من رجله فقال لي ’غمتيت انسأتو! (سأخذ غفوة)‘ وله كل عذر. لم يكن معقولا على الاطلاق ان تقنع خلال دقائق معدودة شخصا بان الذي يعتقد انه عدو يتهجمه صديق جاء لإنقاذه !

وفور فتح الباب، اسرعت الى مستودع السلاح حسب المهمة المكلف بها الا ان المقاتل الذي سبقني الى هناك لم تكن لديه لا معلومات ولا تعليمات عما تم الاتفاق عليه مع سعيد صالح بخصوص. وفي هذه الاثناء تم الشروع في نقل الاسلحة الى سيارات. وعندما سمعت من احد الجنود وجود سيارات وباصات، غيرت مهمتي فخرجت الى الشارع للاستطلاع قبل توجيه السجناء اليها. لم اصدق ما رأيت. كان المنظر اقرب الى حفل استقبال او مهرجان كبير. جمع غفير من الاهالي رجالا ونساء واطفالا يحملون خبزا، ماء وفشار والجميع يصفق ويزغرد وطابور من المستجدين في طريقهم الى الميدان وخلفهم عدد من السيارات والباصات وصحفيون اجانب يقومون بتصوير فوتوغرافي وتلفزيوني. ربما لكانت هذه اللحظة اسعد لحظات حياتي لو لم ارفع بصرى الى السماء.. حيث تساءلت ماذا بإمكان الجبهة ان تفعل لو اكتشفت طائرة استطلاعية العملية الجارية، او تلقت الحكومة اتصالا من جهاز سرى، فلم استبعد ان يتحول هذا المشهد العظيم الى ركام وجثث متناثرة.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click