ذكريات وتجارب - الحلقة الخامسة والستون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

في اليوم الموعود، يوم الثلاثاء الموافق الثالث عشر من شهر فبراير من عام 1975وفي تمام الساعة الثامنة والنصف صباحا،

تحرك قرماي وارمياس الى المدرسة بشكل طبيعي.

في الساعة التاسعة وخمس وعشرين دقيقة تحرك كل منا الى الموقع المحدد له حسب الخطة. دخل يعقوب العنبر ليتأكد من خروجهما من المدرسة، ثم خرج بعد لحظة مؤكدا انهما فعلا خرجا. فنقلت اشارته الى سيوم. بعد لحظة اومأ برهانى انه يسمع وقع اقدام الشاويش ففعلت نفس الشيء. بعد دقيقة سمعنا قرقعة مفاتيح فتأهبنا للانطلاق نحو الباب واذا بالزميلين يدخلان مطأطئ الرأس واقفل الباب !. صعقنا تمإما.

خروجا على الخطة، وجدنا انفسنا محلقين حولهما نستفسر عما جرى، فهمنا ان الشاويش ودى سنغال جلب معه مرافقا فرأيا ان اية حركة ضده لن تفيد بقدر ما تنبه بقية الحراس اعلى السور وتكشف الخطة قبل اوانها فاستحسنا الدخول وترك الموضوع للجبهة فلم تتجاوز تعليقاتنا او ملاحظاتنا تمتمات مبهمة تذكرنا انه لم يتبق من ساعة الصفر سوى ثواني فرجع كل منا الى موقعه مشدودا لسماع دوى القذائف والانفجارات. حانت ساعة الصفر ولكن.. لا شيء يسمع. حاولنا تبرير التأخير بتقدم ساعة الحارس التي اعتمدنا عليها بدون ان يدري. تماسكنا حتى الساعة العاشرة الا خمس وعشرين ثم عشرة الا عشرين ولا حياة لمن تنادى. شيئا فشيئا فلتت الاعصاب ولأول مرة انتابتنا مخاوف حقيقية.. ’إذا.. ماذا واذا‘.. تساؤلات سريعة متداخلة ومتناقضة لم يمكن تحديدها ولا الرد عليها ولا حتى كبحها.

’هل خاف الشاويش ودى سنغال ام خان؟، وهل ابلغ الحكومة ام لا ؟، واذا ابلغ فماذا ستكون ردة فعل الحكومة وماذا سيكون موقف الجبهة؟ الجبهة آها!.. الجبهة.. نعم الجبهة.. لماذا لم تهاجم الجبهة ؟، هل لأنها غيرت ساعة الصفر ام الغت العملية، واذا تم التغيير او الالغاء فلماذا لم تبلغنا فورا، وماذا لو نفذنا خطتنا ضد الشاويش ودى سنغال.. يستحيل ان تقدم الجبهة على مثل هذا الاستهتار والاخلال بالقوانين العسكرية البديهية لما يترتب عليه من مخاطر، نعم لا يمكن ان تقدم الجبهة على تغيير ساعة الصفر او تلغى العملية من جانب واحد.

ولكن.. الا يؤكد انقضاء اكثر من عشر دقائق على ساعة الصفر اخلالا فعليا اللهم الا اذا كنا نتعامل مع جهة اخرى... جهة اخرى..!

جهة اخرى.. غير الجبهة.. من.. مع من.. في الحقيقة نحن سذج واغبياء.. بل واغبياء جـدا. منطقيا، كيف صدقنا انه من الممكن ان تنفذ الجبهة عملية اقتحام عسكرية بهذا الحجم والخطورة في عز النهار وعلى مرأى ومسمع من العدو وتحت رحمة سلاح طيرانه حتى نطالبها بالالتزام بساعة الصفر ! نعم كيف..! اليس عدم تزويدنا بمسدسات خير دليل على اننا كنا نتعامل مع جهة غير الجبهة.

كيف انطلت علينا فكرة ان الممرض سهلي يمكن ان يتحول بين عشية وضحاها من مرشح في البرلمان الأثيوبي الى وطني مناضل يطلع على ادق اسرار الجبهة، هل من المعقول ان يقبل الشاويش ودى سنغال في نفس اليوم وبمجرد ان طلب منه التعاون بدون اية علاقة سابقة... كيف تغاضينا عن هذه الحقائق...! انه الخوف.. قاتله الله.

بل.. لولا الرغبة القاتلة في الخروج والهلع من الموت لما عمى بصرنا وعميت بصيرتنا الى هذا الحد ولما وقعنا في هذا الفخ القاتل وكدنا نوقع فيه اخرين وارتكاب جريمة نكراء.

بل. يكفي خداع الذات ولابد من الاعتراف بأن العملية برمتها من تدبير المخابرات ليس الا. وقعنا ضحية تلهفنا وتهورنا. بل من المؤكد انها مكيدة من مكايد المخابرات.. طبعا.. طبعا.. بدون شك.

ولكن.. اذا سلمنا ان الامر كله من تدبير المخابرات.. فلماذا لم تتركنا ننفذ خطتنا ضد الشاويش ودى سنغال لتمرر هي بدورها مخططها الرامي الى تصفيتنا حسب ما نفترض، وكيف تضيع على نفسها هذه الفرصة وخصوصا اذا كانت هي المخططة فعلا.. كيف ! كيف !

على ما يبدو حتى المخابرات لا علاقة لها بالعملية. فاذا لم تكن العملية من تخطيط الجبهة ولا من تدبير المخابرات.. اذاٌ فمن الذى وراؤها، من الذى كلف الممرض سهلي، ومن الذى اتصل بوالدة محمد قيتو، ومع من كنا نجري كل هذه الاتصالات ؟ مع من ؟‘.

بدأنا نتصبب عرقا وكلما امعنا في التساؤل تزايدت الحيرة وزاد القلب خفقانا حتى كاد ينفطر مع الاحساس بالاختناق. تبلد الذهن وفقد التركيز.. وساد بيننا صمت مطبق.

في العاشرة الا ربع ضجت الساحة الفاصلة بين العنابر بأصوات صاخبة: ’ادخله، اقفل الباب، ارجع‘ قرقعة مفاتيح واصوات المزالج هنا وهناك وارتداد الابواب مع وقع اقدام كثيرة وسريعة تطايرت من جرائها الحصى. وفي نفس الوقت لاحظنا ان الحارس على السور في الجهة اليمنى يتطاول الى الخارج مشدودا ويتنقل بنظره تارة الى اليمين واخرى الى اليسار ممسكا بندقيته في حالة استعداد لإطلاق نار.

’الى ماذا ينظر هذا الحارس ! يبدو ان هناك شيئا ما يحدث.. يا ترى ما هو ! وهنا ايضا تحركات غير عادية، هل لهذه صلة بتلك ام امران مختلفان، اذا، ماذا يجرى هنا وماذا يجرى هناك.. ماذا.. ماذا‘. تمنى المرء لو كان له هدهد يأتيه بخبر يقين !

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click