ذكريات وتجارب - الحلقة التاسعة والخمسون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

رأيت في بداية عام 1971 فيما يراه النائم كوكبين يتصارعان في كبد السماء احدهما كبير جدا والاخر بالكاد يرى، وكلما طال امد

صراعهما واشتدت حدته تناقص الكبير الى ان اختفى تماما بينما ازداد الصغير حجما ووهجا حتى عم المشهد. لولا انها لازمتني لأسابيع وكأنها خبر طرق اذني فعلا لكنت اعتبرت هذه الرؤية ضغثا من الاحلام التي لا تخلو منها حياة السجين ليلا كان ام نهارا، ولم يهدأ لي بال الا عندما علمت تزامن وفاة الوالد، رحمه الله، وانجاب شقيقي الاكبر ابنه البكر وانه سماه على اسم الوالد تيمنا، ولم تطل برأسها الا عشية يوم الاستقلال حيث تراءى انه كانت لها اوجه اخرى للتفسير.

كان هذا في الوقت الذي كنا نعاني فيه من شحة الاخبار التي تصلنا على فترات متباعدة جلها مع مساجين قادمين من سجن اسمرا. ولعل اهم خبر سمعناه كان عن الاعتقالات والمطاردات التي قامت بها القيادة العامة ضد قيادات وكوادر المنطقة الرابعة واخراجهم من الساحة، ثم فرار قيادات بارزة من القيادة العامة لعبت دورا كبيرا في هندسة وتوجيه الاحداث السابقة منها، على سبيل المثال، سكرتير القيادة احمد محمد ابراهيم ومسؤول الامن فيها صالح سيد حيوتي. وبعد فترة وجيزة سمعنا عن انفصال اربعة من اعضاء القيادة العامة بقيادة عثمان عجيب وتشكيلهم تنظيم خاص بهم اسموه (عوبل)، ثم انفصال مجموعة اخرى من قبيلة ماريا بقيادة محمد عمر ابو طيارة، ثم انسلاخ مجموعة من الكوادر من ابناء الساحل الشمالي وتوجه بعضهم الى قراهم وبعض الى السودان، واخيرا سمعنا اصدار بعض القيادات المسيحية بيانات تندد بما اسمته الممارسات القبلية والطائفية ضد المسيحيين داخل الجبهة اذكر منهم، على سبيل المثال، تكو احدجو الذي التقيت به في معتقل كازيرما موساليني في فترة التعذيب.

وتوالت الاخبار السلبية حتى قضت مضاجعنا وكأنها حنفية حتى تمنينا لو توقفت وخصوصا بعد ان بلغنا انقسامات وتطاحن بين مجموعات شيوعية، ومجموعة اسلامية وثالثة بعثية، اذ اعتقدنا خطأ انه صراع بين فطاحل في العلم والسياسة والفكر، وفي نفس الوقت كنا نستغرب انى لهذه القامات تفشل في ايجاد ارضية لتوافق وطني وتطمح في توحيد امم العالم وشعوبه، لم نعرف ان غالبيتها محدودة التعليم ترفع شعارات تستدر بها عطف لاعبين خارجيين بعد ان ابطأ بها وزنها الاجتماعي في المنافسة على القيادة.

لعل اول سند حصلنا عليه كان البيان الذي اصدرته مجموعة ’سلفي ناطنت‘ التي انفصلت من الجبهة بقيادة اسياس افورقي والذي عرف ب (نحن واهدافنا) تشرح فيه اسباب انشقاقها وتأسيس تنظيمها المستقل. بصرف النظر عن وجهة نظرنا حول صحة ووجاهة المبررات التي صاغتها، اعتبرنا مجرد التزامها بخط وطني وعدم تصنيف نفسها طائفيا، كما كان يشاع، وتحديد وجهة نظرها في الاوضاع الحالية ونظرتها المستقبلية وهي في طور التكوين، موقفا يستحق التقدير وذلك لأنها المرة الاولى التي يحدد فيها طرف من اطراف الصراع، موقفا واضحا وصريحا يمكن التعاطي معها.

ذكر لي احد المقاتلين يدعى برهاني (لا اذكر اسم والده ) كان علاقة بمجموعة ’سلفي ناطنت‘ في هذا الصدد ان اسياس قبيل لجوئه الى مسقط رأسه حيث يجد حاضنة اجتماعية قام بتكليف احد عناصره بإيصال رسالة سرية منه الى شخص في كسلا يدعى كيداني كفلو يخبره فيها انه بدأ تنفيذ الشق العسكري من الاتفاق وان عليه ومن معه تشكيل قيادة سياسية تمثل المجموعة في الخارج. ولما لم يتمكن الرسول من الخروج من الميدان وباءت كل محاولاته بالفشل حاول استعطاف قيادي مسيحي يدعى تسفاي تخلي قبري كدان وبهذا أوقع نفسه في دائرة الشك حيث تم اخضاعه للتحقيق حتى سلم الرسالة التي كانت معه وتم ارسالها فورا الى عبد الله ادريس في كسلا. ولم تمض سوى بضعة ايام حتى عثرت جثة كيداني وزميل له يدعى ولداي قدي مقطعة محشوة في كيس كان معدا للنقل الى خارج كسلا.
وفي موضوع ذي صلة بهذا، ذهبت في اواسط عام 1993 الى فندق كرن في اسمرا حيث تقيم قيادات التنظيم الموحد التي عادت الى ارض الوطن لمقابلة الزميل سبوت سنكوت، وكان الزميل ابراهيم قبيل نقل الي رغبته في مقابلتي، وكان من بين الموجودين شخص لم يحصل ان رأيته ومع هذا انتقل من مكانه الى مقعد بجانبي وفرض علي نفسه وتطرق في مواضيع لم تتناسب مع تعارفنا الجديد، واستنتجت من تصرفه انه سمع باسمي وعلاقتي الوثيقة مع بعض المسئولين فاعتقد انني احد المخبرين جئت في مهمة استطلاعية فحاول ان يخدمني والاصح ان يخدم نفسه، وبالمناسبة لم يكن الوحيد الذي فكر على هذا النحو. بشكل مفاجئ اشار الى شخص كان يمر بالقرب منا وسألني ان كنت اعرفه، وعندما اجبته بالنفي ذكر لي اسمه وتاريخ حياته منها انه هو من قتل كيداني كفلو وولداي قدي في كسلا وروى لي قصة مماثلة لما قالها برهاني. بطبيعة الحال، كثيرا ما سمعت عن الشخص المشار اليه وانه كان رئيس مجموعة فدائية متهمة بإعدام العديد من المناضلين المعارضين ودفنهم في جبل حفرا القريب من كسلا، وسمعت فيما بعد انه من بين الذين اختفوا ولم يعرف مصيرهم.

وقال لي برهاني اضافة الى ما سبق، ان اسياس في نفس الوقت الذي كتب فيه رسالة الى كيداني طالب من عناصره في الميدان بسرعة اللحاق به بأسلحتهم، اما العناصر التي كانت في السودان فطلب منها تسليم نفسها الى الحكومة والانخراط في فرقة الكماندوس ثم الالتحاق به بسلاحها، او التريث ثم العودة مع قوات التحرير الشعبية عن طريق عدن ثم الالتحاق به ايضا بسلاحها. كان برهاني من هذه المجموعة وهو الذي اخبرني استشهاد الزميل محمد حسن طيواي (زبوي) عقب نزول المجموعة في الشواطئ الارترية.

مع اننا لم نحصل على أي بيان صادر عن قوات التحرير الشعبية، فقد سمعنا عن اجتماعها التأـسيسي في السودان وانه كانت بين القيادات والكوادر تباينات سياسية وتنظيمية فيما يتعلق بتحديد الموقف من الجبهة من ناحية، ومن مجموعة اسياس ’سلفي ناطنت‘ من ناحية اخرى فضلا عن بعض المشاكل التنظيمية. بالنسبة للموقف من الجبهة، حسب ما سمعنا، طالب البعض بالقطيعة الكاملة معها، بينما كان هناك من اصر على ترك باب الحوار مفتوحا لعلها تتراجع عن موقفها ولهذا السبب جاء اسم التنظيم مركبا من جبهة التحرير الارترية + قوات التحرير الشعبية، , لم يختلف الامر كثيرا ازاء مجموعة اسياس ’سلفي ناطنت‘، التي رفض البعض التعامل معها الا اذا قبلت الدخول مع التنظيم في وحدة شاملة بينما ابدا البعض الاخر خشيته من دفعها الى احضان اطراف تتربص بالساحة، فكان الحل الوسط محاولة التأثير عليها من خلال امدادها ببعض المساعدات الاساسية ولكن بدرجة لا تسمح لها بالاستغناء عن التنظيم. اما الخلافات التنظيمية المتراكمة فقد قيل انه تم ترحيل معظمها الى الوقت المناسب عندما تستقر الاوضاع.

هكذا كانت تبدو لنا الساحة عبارة عن حيص بيص - متعددة الاطراف ومتعددة الاتجاهات والتوجهات في كل طرف، فما كان لنا سوى التعويل على عقد الجبهة مؤتمرها الاول الذي كان متداولا بشدة لعله يتمكن من اخراج الساحة من عنق الزجاجة التي فيه. ويمكنني القول ان هذا التشعب والتشتت في الساحة ساعد على تقارب وجهات نظرنا بعد ان كانت متنافرة ومحصورة في اطر ضيقة، ولكن عندما اطلعنا على مخرجات المؤتمر بعد عقده في شهر نوفمبر من عام 1971 اختلفت مواقفنا جذريا حيث تغلبت على البعض العاطفة فرأى فيما قرارات المؤتمر خطوة الى الطريق الصحيح بينما اعتبرها البعض الاخر وانا منهم مخيبة للآمال واخفاقا بل انحرافا جديدا بالقضية عن المسار الصحيح وذلك للاعتبارات والتوقعات التالية.

اولا: كان المؤتمر، في نظري، عبارة عن ملحق لمؤتمر ادوبحا ووسيلة لشرعنة حرب اهلية تريد القيادة اشعالها لتحقيق ما فشلت فيه القيادة العامة التي كانت تشكل رأس الحربة فيها، وليس مؤتمرا لتدارك الوضع وتصحيحه كما يطالب به الشعب.

ثانيا: ان قرار التصفية سيكون اول واخر قرار يتم تنفيذه من بين كل القرارات المقررة.

ثانيا: كون دعوة مجموعة اسياس ’سلفي ناطنت‘ الى حوار ديمقراطي محاولة مكشوفة لكسب الوقت ثم الانقضاض عليها بعد تصفية قوات التحرير الشعبية والا كيف يعقل منطقيا ان تقاتل الجبهة طرفا ليس بينها وبينه دماء ويطالبها بالحوار وفي نفس اللحظة تعرض حوار ديمقراطي على طرف يعتقد انها سفكت له دماء.

ثالثا: لو تمعنت هذه القيادة قليلا لادركت ان صراعها العبثي خلال العشر سنوات الماضية ضد اعداء مفترضين كان خطأ وان استمراره خطر عليها قبل غيرها في ظل تآكل ثقلها وانكشاف ظهرها.

رابعا: لو تحلت هذه القيادات بالقليل من الحنكة السياسية لقيمت اسباب فشلها منذ انطلاقة الجبهة تقييما موضوعيا وليس قبليا لدفعت في المؤتمر بعناصر ديناميكية مقبولة لقيادة التنظيم بدلا من الاصرار على تجديد ولاية لشخص انشق عن التنظيم ثم عاد بعد اغراءات وثبتت عدم اهليته.

خامسا: لو تحلت هذه القيادة ببعد نظر لاستثمرت في شخصية مقبولة وذات ثقل وخلفية بجذور وابعاد الخلافات القائمة لتتبوء المكتب السياسي بدلا من المراهنة في شخص حديث العهد بالنضال جعلها منها مطية لتحقيق طموحاته الشخصية.

سادسا: بما انها قيادة غبية لا تتعلم من تجاربها، لا شك انها تستخف بقدرة وتجربة القيادات والكوادر التي تقود التنظيم الذي تنوي تصفيته وفي وقت قصير، ستجد نفسها في مأزق يصعب التراجع منه. وبفعلها هذا، من حيث تدري او لا تدري، ستوفر لمجموعة اسياس ما تحتاج اليه من مال وعتاد يمكنه من بناء قوة تقلب الموازين في الساحة فينقلب السحر على الساحر كما يقول المثل.

سابعا: ان اهالي منطقة البحر الذين اذلتهم القيادة العامة وتعاملت معهم عقلية المنتصر من المؤكد انهم سيدافعون عن منطقتهم تحت قيادة قوات التحرير الشعبية. من تصرفات وممارسات قيادات القيادة العامة، على سبيل المثال مع ان الامثلة كثيرة، كانت حرقيقو في هذا الوقت تخضع لنظام منع التجول بعد الساعة الثامنة ليلا وعدم اشعال النار. بالرغم من هذا، طرقت مجموعة من جنود الجبهة بقيادة شخص معروف طرقا افزع حتى الجيران طالبة الدخول، اخبرتهم الوالدة بالنظام القائم وانه لا يوجد رجل في الدار وبالتالي لا تستطيع ان تفتح لهم، الا انهم اصروا وضربوا الباب بقوة اشد مع ذي قبل مع التهديد بالقفز من فوق الباب، وبعد جدل عقيم اضطر الوالدة الى الاستنجاد بجارنا العم موسى ادريس الذي كان كغيره من الجيران يتابع ما يجري، فهب لنجتها وبذل اقصى ما يستطيع وعندما فشل دخل معهم. وللعجب العجاب كان اول طلبهم فرش الاسرة بنفس الفرش والملايات التي كان يجلس عليها ’المضادة‘ أي قوات التحرير الشعبية، واعداد عشاء دسم كما كانت تطبخ ’لهم ‘ على ان يكون الطبخ امامهم امام البيت وليس في المطبخ. قامت الوالدة وهي مرعوبة بما طلبوا منها خشية ان يلاحظ جنود العدو الحركة او النار المشتعلة يعرض الدار والبلدة الى خطر فوري او، على الاقل، التحقيق في اليوم التالي، وسرعان ما انتشر الخبر، على الاقل، في الاحياء القريبة ما زادهم حنقا وكراهية للجبهة ومن نتسب اليها.

الكثير من ابناء المنطقة لا يعرفون شيئا عن المآسي التي ارتكبتها قيادة الجبهة ضد الكثير من القرى الامنة منها، على سبيل المثال، قرية عد كوكوي التأريخية في منطقة بركا، اول قرية آوت وتغنت وحملت السلاح مع الجبهة فكانت منها قيادات عسكرية مشهود لها بالشجاعة. لقد احرقت الجبهة هذه القرية المناضلة ونهبت اموالها ومواشيها وشردت شعبها حتى اضطر خيرة ابنائها المناضلين بقيادة دمباي قطين الى تسليم انفسهم الى العدو وحملوا سلاحه وشكلوا قوة خاصة حرت الجبهة حتى من التفكير في الاقتراب من مناطقهم لأكثر من عشرة اعوام، ولكن ليس ارتدادا عن ايمانهم بالحرية انما كرها للقيادة الفاشلة، وفعلا انضم بعضهم فيما بعد الى قوات التحرير الشعبية.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click