ذكريات وتجارب - الحلقة الثامنة والخمسون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

التزم الدكتور شافنر بالحضور مساء كل سبت الا ما نادر يرافقه مترجم مع ان من يحضرون حلقات وعظه لم يتجاوز عددهم اسابع

اليد الواحدة حيث كانت غالبية العنبر مسلمة والبقية مسيحية من الارثوذكس. لمجرد الفضول ثم املا في الاستفادة منه، كنت الوحيد المواظب على حلقاته من اولها الى اخرها ومن بداية الحلقة حتى نهايتها، ولربما هذ ما ولد لديه انطباعا انني مسيحي بروتستانتي الى ان رآني في يوم جاء فيه متأخرا اصلي في جماعة فرض العصر ففوجئ مع انني جادلته قبلها في مسائل دينية من وجهة نظر اسلاميه منها صلب المسيح عليه السلام وفي قوله ان الشعب اليهودي الوحيد المتبقي من الاقوام الغابرة ولهذا قيام دولة اسرائيل يعتبر احدى علامات اقتراب يوم القيامة.

مع انه كان محظورا على المساجين مخاطبته الا عبر المترجم وفي مسائل دينية فقط الا ان الدكتور شافنر، سوءا كان كسبا للوقت او للحصول على معلومات، لم يمانع في الحديث معه مباشرة، فسألته في زيارته الثالثة عن مدى امكانية الكنيسة في امدادنا بقرطاسية حيث كانت اوراقنا على وشك النفاد بسبب عدم وجود مساحات، فاستفسر عن السبب في عدم قيام الاهالي بهذا الدور طالما لا توفرها الحكومة، وعندما شرحت له ان الحراس في البوابة يستبقونها معهم ثم يعيدونها الى اصحابها عند خروجهم، ابدى استعداده لتسلم اية قرطاسية تصله من عائلتي وتسليمها الى الادارة عندما يأتي يوم السبت، وفي الحقيقة لم نتوقع منه اكثر من هذا لأن أي شيء يصل الادارة تلقائيا يحول الى المستودع حيث يمكننا أخذه بطريقتنا الخاصة.

اخبرت الاخت آسيا انني سأطلب من الادارة تسليمها المبلغ الذي املكه وشرحت لها احتياجاتنا الاساسية فتفهمت مشكورة ما اعني وابدت استعدادها ليس لخدمتي فحسب بل ولخدمة أي زميل اخر، وبمجرد ان استلمت المبلغ اشترت كمية من دفاتر واقلام ومساحات وسلمت جزء منها للدكتور شافنر الذي اوفى بما وعد به. لم تكتف اسيا بهذه المهمة فحسب، بل ادراكا منها انها اصبحت شريكة في النضال، عززت علاقتها مع جيرانها من عوائل بعض الحراس وبهذا فتحت خطا مباشرا، كما فتحت خطا مماثلا عن طريق دكتور السجن (ممرض) يدعى هيلي لشراء وادخال بعض الادوية. وبفضل هذا التعاون الكبير من قبل الاخت آسيا وبفضل الكتب التعليمية التي اشتراها لنا الدكتور شافنر من اسمرا بمبلغ استلمه من اسيا من ناحية، ووصول مجموعة لا بأس بها من الزملاء من سجن اسمرا بعضهم طلبة من ناحية اخرى، يمكنني القول اننا اسسنا شبه مدرسة، على الاقل في نظرنا، كانت حافزا كبيرا على التفاؤل والتفاعل بين الجميع ابتداء من العمل الجماعي.

في ما مضى كان كل منا يقوم بعمله اليومي - فتل الحبال - فرديا، ثم تحول جماعيا. فبينما يدرس الفصل الاول والثاني داخل العنبر يقوم الفصلان الثالث والرابع بعملهما في الساحة بشكل جماعي وفي المساء يتم العكس. ولهذا بدلا من قضاء الكثيرين زمنهم في اجترار هموم لا تنتهي اصبحوا يهتمون بالمراجعة الفردية او الجماعية والحديث عن مسائل تتعلق بالتعليم. ومن ضمن مظاهر هذه الاجواء الايجابية، بدأ البعض لأول مرة في حفظ القرءان وتعليمه مع ان المصاحف كانت متوفرة منذ البداية.

ومن اهم العوامل التي عززت دورنا، كان افتتاح الكنيسة مدرسة لتعليم غير السياسيين وتعيين خمسة منا مدرسين فيها وان كان العمل بدون مقابل سوى بعض الاستثناءات الهامشية منها حمل كتب او دفاتر داخل المدرسة وخارجها بدون اية مساءلة كان هذا في حد ذاته كافيا لذ سهل لنا تزويد مدرستنا باحتياجاتها حتى استغنينا عن الشراء، وتدريجيا انتقلت مدرستنا من التعليم سرا في العنبر الى العلن في الساحة امام الحراس وان لم يكن بتصريح رسمي. وسرعان ما اصبحت الاغلبية معلما ومتعلما وتدريجيا كثرت حلقات مطالعة مشتركة وحوارات اقرب إلى ندوات مصغرة في شكل مجموعات منسجمة. علما ان البعض ممن درسوا فيها التحق بعد تحرير المساجين بمعاهد مهنية في ليبيا وبعضهم عمل في شركات في السعودية.

حتى اللحظة التي استفاق فيها على اناشيد واغاني وطنية صاخبة، كان اهالي مدينة عدي خوالا يعتبرون السجن بمثابة مقبرة لا حراك فيها. صادف هذا في اول ايام العيد بعد تجميع السياسيين في عنبر واحد. سبق هذا استعداد كبير لاسماع سكان المدينة صوتا لم يألفوه من قبل حتى يعرفوا ان وراء هذه الاسوار الداكنة مناضلون صامدون لا يستكينون ولا يستسلمون مهما قست ظروفهم واشتدت معاناتهم.

استمرت الفقرات لثلاثة ايام متتالية من السادسة والنصف مساء الى العاشرة والنصف ليلا تخللتها اناشيد واغاني وطنية حماسية ومختلف الرقصات الشعبية: المرقدي، ود سوميا، والقايلا مصحوبة بالدق على صحون مع التصفيق والترديد بأقصى ما يمكن. وحسب ما عرفنا من بعض الحراس سهرت مناطق واسعة من المدينة على انغامنا حتى اصبحنا حديثها، وتأكد لنا هءا من تعليمات الادارة التي طالبتنا بخفض الاصوات حتى لا نزعج الاهالي وعدم استعمال الصحون حفاظا عليها وان يكون الاحتفال ليوم واحد فقط. كم كانت سعادتي وسعادتنا كبيرة عندما علمنا من الاخت اسيا مدى السعادة التي غمرتها وهي تسمع اصواتنا، وكان هذا التشجيع دافعا اضافيا لنا للاستمرار في نقل رسالتنا الى المدينة بنفس القوة ان لم تكن اشد حتى اصبحت تقليدا سنويا.

ولكن هناك مواقف لا يكفي فيها التحدي وحده، فاضافة الى سوء التغذية الذي كنا نعاني منه وخصوصا منذ تخفيض المصاريف منذ عام 1968 ومضاعفاته الغير مستغربة اقلها ضعف عام، الام في الظهر والمفاصل واورام في الركب حتى عجزت الارجل عن حمل اصحابها وخصوصا ممن قضوا في السجن فترة طويلة او تقدم بهم السن، اشترت الادارة عام 1972 كمية كبيرة من ذرة رديئة للغاية تم تخزينها لفترة طويلة حتى كانت عفانة الكسرة تفوح قبل وصولها الى حتى لا يعتبر الرفض اضرابا عن الطعام وندخل في متاهات كنا في غنى عنها، رفضنا استلامها ولكننا استلمنا الملاح (الشيرو). بعد نحو اسبوع زارنا خبير في التغذية من وزارة الصحة للاستماع الى مبرراتنا، كان شابا وبدا متأثرا للحالة التي كنا فيها. اخذ عينة من الكسرة لفحصها في مختبر ثم عاد بعد نحو اسبوع حاملا البشارة ’لقد ثبت مخبريا ان الذرة غير قاتلة‘! لم يكن الرد مفاجئا فاصرينا على موقفنا ريثما تجد الادارة من يشتري منها ذرة بهذه الرداءة.

للأسف، تزامنت هذه الحالة مع حلول احد الاعياد فاصبحنا في مأزق نسبيا انسانا موضوع الكسرة بعد ان تعودنا على الجوع فاصبح شاغلنا الاول كيفية احياء المناسبة بالمستوى والروح المعنوية العالية كما تعودنا وعودنا اهالي البلدة حتى لو بصوت مبحوح قعودا بلا نط او نطيط اللهم بعض الشباب ممن يانسون في أنفسهم القدرة والجدد!. وهكذا بذلنا اقصى ما وسعنا حتى لا نخيب ظن وامل شعبنا.
كان هذا فيما يتعلق بالنشاط الموسمي الموجه الى الخارج، اما داخليا فكانت لنا نشاطات وامسيات غنائية ومواقف فكاهية وفقرات تمثل مواقف وطنية وتدريبات عسكرية باستخدام مكانس كبنادق - الدفاع عن النفس، طابور عسكري، امساك واستعمال البندقية، التصويب، التعمير والتفريغ، الاحتماء بالساتر، الزحف والانسحاب، التعريف بأنواع القنابل واستعمالاتها مع شرح مكونات كلاشنكوف. كلها كانت تتم مساء داخل العنبر بعد قفل الباب وخصوصا في موسم الأمطار والبرد القارس حيث يحتمي الحراس بعيدا عن الباب طلبا للدفء.

اما عيد الفطر من عام 1974 فكان له مذاق خاص حيث بلغ الحماس ذروته تطرح افكار وتفتح ابواب لم تكن في الحسبان. فعلى ضوء وصول اعداد كبيرة من الزملاء ورغبة الكثيرين في المشاركة في الانشطة، تم الاتفاق على على عمل تمثيلية تجسد مرحلة الكفاح المسلح بالامها وامالها من بطولات ومعاناة مع التركيز على ممارسات العدو وجرائمه من اعتقال وتعذيب، قتل، نهب وسلب وتشريد الى يوم الاستقلال.

وحتى تكون التمثيلية اقرب الى الواقع واكثر تأثيرا، تم الاتفاق على عدة نقاط:-

اولا: ان تكون لغة الحوار حسب الموقف (تقري، تجرينيا والامهرية) مع ترجمة.

ثانيا: عمل ادوات رمزية تتناسب مع المشهد (مسدسات، عصي، قبعات عسكرية، كافة انواع الحلي، قيود واصفاد ) كلها من كراتين بعض لصق اوراق الدفاتر ثم قصها حسب الاشكال والمقاسات المطلوبة. ولهذا طلبنا من الاخت اسيا ان تحضر لي بعض الخبز لعمل عجينة.

ثالثا: الحصول على ملابس مناسبة من خلال سرقتها من المستودع. اما بالنسبة لملابس النساء فقد اتفقت مع الاخت اسيا ان تزودنا على الاقل بغيار واحد (تلبسه زوجة القائد حامد ادريس عواتي التي ستمثل اول اسرة تتعرض للنهب والسلب) اما الاثواب النسائية الاخرى تكون من ملايات مصبوغة، ولهذا اتفقنا مع بعض العاملين في معمل الصباغة تزويدنا ببعض الاصبغة من الوان مختلفة.

استغرقت عملية التدريب والاعداد نحو شهرين وتمت بسرية تامة حتى تكون مفاجئة. وفي السابق للعيد طلبنا من كافة الزملاء الغير مشاركين اخلاء العنبر حيث بدأت ورشة العمل من قطع ولصق وصباغة. وحوالي الساعة الحادية عشرة من يوم العيد زارتني الاخت اسيا مع زوجها الاخ عثمان تحمل سلة فيها انجيرا ملفوفة بغيار ملابس نسائية وطرحة، وبعدها بقليل زارتني ابنتها الابنة فاطمة تحمل نفس الشىء وبعدها بقليل زارتني ابنتها الثالثة سعدية تحمل ايضا نفس الشىء وبهذا توفر لنا اكثر مما توقعنا، ما اعظم هذه العائلة.

ومن حسن الطالع تغيب الحارس الناوب السىء السمعة وحل محله احسن الحراس تعاملا مع المساجين. سارت كل الامور بشكل سلس ولكن لا بد من بعض المنغصات فقبلا الانطلاقة بساعة اعتذر الاخ محمود منسعاي عن الدور الذي كان مقررا ان يؤديه وهو دور مقاتل تحول الى جاسوس وسلم نفسه الى القنصلية الاثيوبية في مدينة كسلا فقام شقيقه الفدائي باغتياله، لحسن الحظ كان الدور قصيرا فعكسنا الدور حيث تولى هو دور الفدائي بينما تولى الاخ محمد محمود عبد الله دور الجاسوس، وهذه قصة حقيقية. اعرف محمود جيدا ولكنه تهيب الموقف وخشى ان يكنى بها.

حوالي الساعة السادسة والنصف، توالت المشاهد باداء وسلاسة لم يتوقعها احسن المتفائلين منا حيث فاجأت حتى القائمين بها انفسهم حيث لم يعرف أي منهم سوى الدور المناط به. وما لم نتوقعه، تحمس الحارس الذي كان يتابعنا من خلال الفتحة ودعا زملاءه في العنابر الاخرى كان بينهم بعض الرقباء، وطلب بعضهم اعادة عرض بعض المشاهد التي لم يحضروها وكان معظمهم قرويين لا يعرفون شيئا عن الثورة وتأثر بعضهم كثيرا عندما رأوا ما قام به العدو في حق الاهالي من اعتداء وسلب. مثل الاخ ادريس صالح شاكي دور زوجة القائد حامد ادريس عواتي وكان رائعا جدا في ادائه بهر به الجميع. وكانت الخاتمة اعلان الاستقلال على لسان الزعيم عبد القادر كبيري.

شاركني في انجاز هذا العمل تخطيطا وتنفيذا كل حسب امكاناته الزملاء : محمد محمود عبد الله، ارمياس مرهزين، محمود بوبكر، احمد حامد شلع، برهاني تخليزين، حامد بئمنت، محمد عندو، محمود احمد منسعاي، محمد علي عمر، ادريس صالح شاكي، يعقوب كداني، قرماي ابرها وتارقي براخي.

وبالكاد توقف النشاط حتى انكب الجميع على اتلاف كل الاشياء التي تم تهريبها لهذه المهمة وتصريفها عبر مجاري الحمامات بحيث لا يوجد أي اثر يديننا. وكما توقعنا بمجرد ان فتح الباب اندفع الى العنبر العشرات من الحراس وقلبوا كل شيء رأسا على عقب ولكن بدون جدوى. وانكر رئيس العنبر المناضل يوسف حسب الله ان رأى شيئا غير عادي، ولم يستطع الرقباء اتهامنا بدون دلبل لانهم سيتحملون المسئولية. كم كنت تواقا لابشر الاخت اسيا بالنجاح الباهر الذي تحقق ولكن كان احد الحراس قد سبقني اليها!

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click