ذكريات وتجارب - الحلقة الثالثة والخمسون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

بالرغم من تزايد عدد طلبة فصل محو الامية واتساع الدائرة حول مقر ملوقيتا المسائية وقيام قبري سلاسي بزيارته الشهرية الى

المباحث، لم تتجاوز حصيلة متابعتنا للعناصر التي كنا نشتبه فيها مستوى الشكوك ما سبب لنا نوعا من الاحباط اذ من غير الطبيعي الا يحمل قبري سلاسي تقريرا يعرضه او تقريرا ارسله يود مناقشته، وفي الحالتين لابد انه قام بكتابته في لحظة غفلة منا او غاب فيها عن اعيينا !

وفقا للنظام، يخرج المساجين الى ساحة العنبر في الساعة الثامنة صباحا ويبقون فيها حتى الساعة الحادية عشرة والنصف يقومون خلال بفتل الحبال من الياف نبات الصبار (انجبا) وهو نوع من اعمال الاعمال الشاقة، ولا يسمح خلال هذه الفترة لاحد بالدخول بسبب أعمال النظافة وتنظيم المراقد وتنظيف الحمامات. كان قبري سلاسي معفيا من هذا العمل لاعتبارات صحية الا ان ما استجد بعد ذهابه الى المباحث في المرة في الفترة الاخيرة انه لم يعد ملزما بالخروج الى الساحة ولهذا كان يظهر في الساحة بعد انتهاء المساجين من عملهم، وكذلك تم اعفاء الاستاذ خيار نظير قيامه بالتدريس ثم لسبب ما حصل ملوقيتا على نفس المعاملة ما اثار فضولنا ان يكون هناك لقاءات او مساعدة من يريد الاستفادة من العفو العام المزعوم في كتابة عريضة او طلب.

لهذا، فكرنا في زرع احد عناصرنا ضمن طاقم العمال نعرف من خلاله ما يجري بالضبط. كان معنا يافع من ابناء عدي قيح يدعى صالح احمد (لست متأكدا من اسم الوالد) وكان اصغر سجين سياسي، واعي وذكي كنا نرى فيه، لصغر سنه، طعما مغريا لمجموعة قبري سلاسي مخبريه ولهذا، لم نحتك او نتصل به الا عن طريق الزملاء في عنبر اخر حيث يوجد شخص اعتقل معه يدعى نجاش واغلب ظني انه كان مدرسه، وكان نجاش هذا من العناصر المتعاونة مع زملائنا. طلبنا من نجاش محاولة اقناع رئيس عنبره بالتوسط لدى رئيس عنبرنا ليلحق صالح بعمال النظافة بحجة اشغال نفسه، وبفضل صلة القرابة او الصداقة بين رئيس عنبرنا ورئيس العنبر الذي يوجد فيه نجاش نجحت المحاولة. علما ان لكل عنبر رئيس في الغالب ممن قضوا فترة طويلة في السجن وهو بدوره يختار نائبه وعمال يساعدونه وجميعهم من غير السياسيين.

خلال اسبوع من التحاق صالح بالعمل عرفنا ان قبري سلاسي ادوات كتابة بعلم رئيس العنبر وحتى الحراس والشاوشية ما يعني انه مصرح له، وعرفنا انه كان قبل موعد زيارته الشهرية الى المباحث بايام قليلة كان منهمكا في الكتابة يشطب ويرمي الاوراق التي يقطعها بنفس في بالوعة، وقبل يومين من الموعد يقضي معه شخص يدعى منصور ادريس احد عمال النظافة اكثر من ساعة بعد خروج كافة العمال. كان منصور شابا بسيطا مرحا حكم عليه بجنحة وكان يعمل قبل سجنه خياطا ماهرا. اخبرنا الشهيد سراج احمد الذي كان يعمل خياط السجن بخصوص علاقة منصور مع قبري سلاسي واننا نعتقد ان الامر يتعلق بإخفاء شيء. طلب سراج من الادارة دعمه بخياط يساعده على مواجهة الطلبات المتزايدة واقترح اسم منصور، وهكذا عين منصور مساعدا للشهيد سراج.

ذكر منصور انه فعلا قام بمساعدة قبري سلاسي على اخفاء بعض الاوراق في لياقة جبته وذلك من خلال نزع البطانة تماما وعطف الاوراق بعناية ثم لفها بجزء من البطانة بحيث يصعب اكتشافها الا من خلال شخص متأكد من وجودها، ووافق على اشعار الشهيد سراج فور قيامه بهذه العملية.

في العادة كان يخرج قبري سلاسي الى الساحة حوالي الحادية عشرة صباحا مع انتهاء الاعمال، ولهذا يعتبر هذا التوقيت الوحيد الذي يكون فيه بعيدا عن مرقده والذي يمكننا الاستفادة منه. اتفقنا على استمرار صالح في متابعة تحركات قبري سلاسي كما كان يفعل وعندما يتأكد من قيام منصور بالخياطة، حتى اذا لم يشعر سراج كما وعد، يقوم باستخراج التقرير ولكن بعد التأكد من خلو كل الحمامات وخروج اخر عامل من العنبر، وفي حالة ضبط ه، لا سمح الله، يدعي انه كان يعيد ابرة الى مرقد شخص كان ملاصقا لمرقد قبري سلاسي وفي النهاية لا يستطيع احد ان يثبت ما كان ينوي القيام به.

وفي اليوم المحدد وفقا لتأكيد صالح واشعار منصور، خرج قبري سلاسي في اللحظة المتوقعة فبادر سيوم بالسلام عليه واستدرجه الى حديث بحيث لا يفكر في العودة الى العنبر لاي سبب من الاسباب وبعد فترة انضممت اليهما بشكل يبدو عفوي وبينما نحن في انسجام ظاهري، خرج احد العمال يصرخ وكأنه لدغ من شيء او حصلت له فاجعة وهو ينادي باسم قبري سلاسي حتى تجمع الكثيرون حولهما فاخبره وسط ذهول الجميع انه قبض على صالح وهو يفتش جبته بطريقة توحي حدوث امر جلل، اكتفى قبري سلاسي باستلام جبته مع ابتسامة ذات مغزى وذهب بدون تعليق على امل ينتهى الحديث في الموضوع، الا ان انفعال العامل وهياجه ترك انطباعا ان شيئا مهما فعلا اختفى من جيب قبري سلاسى وان صمت قبري سلاسي يعود الى خوفه من افتضاح امره ليس الا، وسرعان ما اشيع في العنبر وفي السجن عامة ان تقريرا كتبه قبري سلاسي ليقدمه الى المباحث تم سرقته وانه كان يحتوي على اسماء المتعاملين معه وقيل انه احتوى على معلومات خاصة بالسياسيين...

حسب ملاحظات زملائنا في العنابر الاخرى، اعطى تناقل عناصر قبري سلاسي الاشاعة اكثر من غيرهم حتى لو كان بغرض النفي مصداقية وبالتالي كانت لها آثار ايجابية اهمها التأكيد على حقيقة وجود عناصر استخباراتية واهمية اليقظة والحذر. اما في عنبرنا، بينما تجنب الكثيرون الاحتكاك بقبري سلاسي، انتقل ملوقيتا في نفس اليوم الى عنبر اخر، وحسب ما علمت بعد الاستقلال انه هو من هرب الرئيس اسياس افورقي من اديس ابابا الى ارتريا في طريقه الى الميدان.

بالطبع لم يستطع قبري سلاسي اتهامنا رسميا ولكنه شكانا الى شاويش يدعى ولد ماريام صاحب واسوأ الحراس سفاهة وسفالة. استدعانا انا والزميل سيوم الى مكتبه وصب علينا جام حقده وغضبه متوعدا بتقييد ارجلنا وايدينا ورمينا في غرف العزل والعقاب وبدون ابداء السبب او الاشارة الى الموضوع، ولم نفاجأ لا بأقواله ولا بتصرفاته بسبب سجله الاسود في تعذيب السياسيين اولا، ثم لاهتمامه الظاهر بقبري سلاسي. قضينا طيلة اليوم التالي في حالة استنفار نترقب ظهور ولد ماريام اذ لم نشك مطلقا في تنفيذ تهديده، ولكنه لم يظهر ومع هذا استمرينا في نفس الحالة الى ان علمنا ان ابنه الشاب والوحيد مات فجأة. عاد بعد اكثر من اسبوعين محطما وفي وضع يرثى له من شدة الحزن، فعندما عبرنا له من باب الواجب الانساني عن حزننا العميق، لم يتمالك الرجل وتحدث مطولا عن فقيده الذي كان في سننا وعن طموحه لدخول الجامعة ونظرته المتفائلة في الحياة وكأنه كان يشعر ان الله عاقبه بسبب التنكيل بنا في ابنه.

وكما توقعنا، لم ينس موضوعنا السابق فأعطانا درسا في اهمية السلوك والاخلاق الحميدة والتقيد بقوانين السجن وايضا بدون الاشارة الى أي تجاوز او خرق من قبلنا، وفي الاخر ذكر انه قرر الفصل بيننا بحيث ينقل سيوم الى عنبر اخر واعمل انا مشغل السجاد الذي يعتبر نوع من الاعمال الشاقة.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click