ذكريات وتجارب - الحلقة الثانية والخمسون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

لقد انتهت الحلقة السابقة بذهاب قبري سلاسي الى المباحث التي عاد منها على غير ما ذهب عليه مجرد مخبر متطوع، اذ تعزز مركزه

وعلى شأنه ليس في نظر عناصره التي ازدادت حيوية بل وحتى امام الادارة ولكن اتقاء كشفه تلاعبها في مصاريف المساجين وتحويل زيارة العوائل الى مصدر دخل مع ان هذه الامور لم تعد من اولويات المباحث في هذا الوقت.

من المؤشرات التي ربطنا بينها وبين زيارة قبري سلاسي الى المباحث، اشاعة تم الترويج لها بقوة مفادها ان الحكومة بصدد اصدار عفو عام عن المساجين الذين يقرون بجرائمهم ويدلون بكل المعلومات التي لم ترد اثناء التحقيق. بطبيعة الحال، لم تكن هذه الاشاعة الاولى من نوعها فقد تكررت امثالها مرارا وتكرارا وان اختلفت صيغها وسرعان ما كانت تخبو وتنسى، اما هذه المرة فقد استمرت بنفس الزخم الى ان رافقتها إجراءات عملية اضفت عليها نوعا من المصداقية.

فقد اعلنت الادارة رسميا عن عزمها تطبيق برنامج محو الأمية لفئة المحكوم عليهم، واول فصل تم افتتاحه كان في عنبرنا تحت اشراف الاستاذ خيار عبد القادر، سياسي، حكم عليه بثلاثة اعوام عمل مدرسا في احدى مدارس اسمرا. اما العنابر الاخرى فقد تأجل دور العنابر الاخرى بحجة التريث ريثما تظهر نتيجة التجربة في عنبرنا، وفي النهاية اصبح عنبرنا الاول والاخير الذي طبق فيه القرار.

كان الاستاذ خيار حذرا جدا في التعامل معنا وبالتالي لم نتجرا ان نساله عن اهداف البرنامج الحقيقية وعلى أي اساس تم اختياره مدرسا والمعيار الذي يتبعه في تصنيف السياسيين.

بالاضافة الى هذا، كان هناك تجمع اخر ينتظم حول معتقل سياسي يدعى ملوقيتا حكم عليه بخمسة اعوام. فمنذ مجيئه معنا الى هذا العنبر كان منطويا على نفسه بلا صاحب يؤاكله ولا جليس يؤانسه الى ان فاجأ الكثيرين بانفتاحه على الجميع يقاسم ما يأتيه من طعام ويوزع سجائره يمنة ويسرى حتى اصبح مرقده ملتقى الانس وتبادل النكات والمغامرات في جو ينسي هموم السجن ومآسيه.

كان لجميل ان ترى هنا اناسا من مختلف القضايا يدرسون معا وهناك اخرون يفضفضون، ولكن هل كان هذا كله عفويا ام منسقا وان ما وراء الاكمة ما وراءها !

في حالة مماثلة، كانت هناك مجموعة موظفين حكم عليها بخمسة اعوام تزعم انها اعتقلت بتهمة الانتماء الى الجبهة وحظيت بتعاطف كبير في مثل هذه الحلقات اتضح لاحقا انها كانت تجمع الاموال لصالح تنظيم خاص بها يسمى ’تنسائي‘ أي البعث او Resurrection وانها تمكنت من كسب ثقة العديد من السياسيين السذج.

بما ان عناصر قبري سلاسي في معظمها كانت من قومية تقراي الاثيوبية ممن قضوا مددا طويلة في السجن، كنا نعتقد ان اقصى ما يمكنها القيام به نقل ما تسمعه او تشاهده لا اكثر ما يفترض وجود عناصر اخرى ذات خلفية سياسية وقدرة على التأثير الاستخلاص.
وبناء عليه، اتفقنا على تحديد ومتابعة الاشخاص البسطاء الذين يمكن التغرير بهم.

كان معنا من هذه الفئة البريئة الاخ عبدالله (...). اعرفه في مصوع عندما كان يعمل في ورشة ميكانيكا سيارات يملكها ايطالي، وحسب ما ذكر لي فيما بعد، كان له كل ما يريد من الحياة الا اترابه الذين ذهبوا الى الجبهة، فشد رحاله والتحق بهم اوائل عام 1967.

ولسوء حظه، انقضى عام استحق بموجبه اجازة سنوية خير بين قضائها في بلدته او في السودان ففضل السودان، استاذن للذهاب الى بلدته ليطلب من شقيقه سعيد المساعدة، طلب منه سعيد ان يمهله لمدة يومين، عاد عبد الله الى الميدان فرحا مسرورا. وبينما هو يبحث عن المجموعة التي سيرافقها الى السودان استدعي للتحقيق معه في تهمة التفكير في تسليم نفسه الى العدو عندما كان في البلدة، فدافع عن نفسه وبرر سبب تأخره ومع هذا شعر انهلم يتم تصديق روايته وان سلامته أصبحت في خطر وتاكد اكثر عندما شاهد وصول طوف (مجموعة) من الفدائيين ويعسكر على مقربة من الوحدة التي كان فيها. علما ان طوف الفدائيين هو الذي كان يقوم بالاعدامات في الميدان.

تجلد عبد الله الى ان حان دوره في الحراسة الليلة، وعندئذ ترك كل ما كان معه من متعلقات الجبهة من اسلحة وغيرها في الموقع وركب بساط الريح الذي هبط به في البلدة وتحديدا في مقر اللجنة. اخبرهم انه لم يفكر عندما جاء لمقابلة شقيقه تسليم نفسه كما كتبت اللجنة الى القيادة ولا هو يريد ان يسلم نفسه الى ان تقبض عليه الحكومة وعندئذ سيسعد بصحبتهم في السجن، وحتى يحين هذا الموعد طلب من اللجنة تحمل نفقاته اليومية كاملة بدون تأخير او تباطؤ.

عاش عبد الله عدة اشهر حرا طليقا بلا خوف ولا وجل مستعدا لمواجهة ما سيحمله اليه كل فجر جديد. حتى كان ما لم يكن بد منه، تم اعتقاله وسيق الى اسمرا ومورس عليه ما مورس على غيره من التعذيب الا انه صمد ولم يورط معه احدا، مع هذا، حكم عليه بخمسة عشرة عام.

قد نسى عبد الله الجبهة ومشاكلها والسجن والامه ولكنه لم ينس البتة اولئك الذين كانوا سببا في ما وصل اليه وان لم يش بهم، فكان يروي تجربته المريرة وكأنها مجرد قصة لا علاقة بالسياسة.

لاحظت في احد الايام ان احد افراد المجموعة التي كنا نتهمها يهتم بعبد الله ويتقرب منه بشكل مريب مع انه لم تكن بينهما اية علاقة واكد عبد الله ما كنا نشك فيه وكان هذا اول خيط.

قضى الاخ عبد الله في السجن نحو ثمانية اعوام وخرجنا معا من سجن عدي خوالا عام 1975.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click