شعب البجا في شرق السودان - الجزء الاول

تأليف الأستاذ: سليمان صالح ضرار

تاريخ البجه:

تقع بلاد البجه علي الساحل الغربي للبحر الأحمر(2) وتبلغ مساحتها 110000 ميل مربع

وتمتد حدودها شمالا حتي الحدود المصرية الجنوبية بعد بئر شلاتين شمال ميناء حلايب وإلي الجنوب حتي قرية قرورة، أما من ناحية الغرب فحدود هذه البلاد تشمل الأراضي والتلال المحاذية للنيل من الشمال حتي مدينة أتبره التي كانت عاصمة للإقليم في بداية دخول الإنجليز للبلاد، وتحوي نهر أتبره (اسمه باللغة البجاوية آت بهر ومعناه بحر اللبن) وضفافه ومدن ضفتي النيل التي تحمل أسماء بجاوية وكانت تابعة لمملكة مروي البجاوية، مثل الدامر وشئندي ومتأمه ومعظم مدن الضفة الشرقية للنيل تحمل أسماء بجاوية لا سيما الجبال حيث أن أسماء المدن والجبال لا تتغير بسهولة، ومدن مثل ريره، التي اشتهرت بأغنية اللبت، إلي الحدود الحبشية والإريترية أما من ناحية الشرق فإن ساحل البحر الأحمر الغربي هو حدودها النهائية.

في هذه البقعة تسكن قبائل البجه المختلفة منذ آلاف السنين وانتشرت جماعاتها وافرادها يضربون في وديان بلادهم ويرقون جبالها ويقطعون صحاريها وسباسبها وهم علي ظهور جمالهم يرعون بإبلهم وماشيتهم وضأنهم وأغنامهم ويزرعون الذرة والدخن وهي الحبوب التي يصنعون منها خبزهم وطعامهم ولا يغلّون منها إلا ما يكفيهم مؤونة عامهم. فإن شحت السماء في الموسم التالي ضاقت حالهم ونضب ماؤهم وماتت أنعامهم وضمرت أجسامهم.

والبجاوي في مظهره صغير البنية، متوسط القامة خفيف الحركة سريعها وبشرة البجاوي بنية تشوبها حمرة وشعره ناعم تغلب عليه الأمواج.

أما الأرض التي يسكن عليها فهي غنية بالمعادن في باطنها أما سطحها ففقير ولذلك فإن البجه قد جبلوا علي التقشف وحياة الجدب حتي أن أجسامهم ضامرة ووجوههم نحيلة. ولما قلّت مطالبهم في الحياة إحتفظوا بكبريائهم وكرامتهم وبحبهم لحياة الاستقلال الفردي مع شعور عظيم بالشجاعة والتضحية والانتصار للقريب وللقبيلة والإبتعاد عن كل مظهر أجنبي، لأن كل أجنبي عرفوه جاء إلي بلادهم طامعاً إما في أرضهم أو ثرواتها.

وذكر أندرو بول الآتي عن البجه: وللتاريخ فإن بقاء البجه علي هذه الهيئة يعتبر من الأمور التي تثير العجب. وقد يرجع ذلك لأسباب عدة منها قسوة الحياة في المنطقة التي يعيشون فيها، ولكن يرجع في المقام الأول إلي شخصيتهم المتميزة التي تطبعت لحياة بدوية حرة اقترنت بخشونة خالية من الحساسيات.
ظل البجه، علي إمتداد تاريخهم الطويل، في عزلة تامة غير خاضعين لأي سلطة مهما كان نوعها أو مصدرها، وبقوا مبعثرين في جبالهم وصحاريهم بعيدين كل البعد عن أي اتصال بالخارج محافظين بذلك علي حريتهم واستقلالهم وغير عابئين أو مهتمين بما يجري حولهم. فهم لا يطلبون من هذا العالم أكثر من أن يتركهم وشأنهم. بل تزداد فرحتهم أثناء الحكومات الضعيفة.

إنهم يجلسون تحت ظلال أشجار السنط الشحيحة، يراقبون من علي البعد حيواناتهم وهي ترعي وتسرح، ويساورهم شعور عميق بأنهم يمتلكون مساحات غير محدودة من الأرض مما يغنيهم عن العمل والحوجة.

قد ينتج هذا الشعور عن غباء محض، غير أن البجه أبعد ما يكونوا عن الغباء، كما يتصور البعض. إذ أن شعورهم الكثيفة تغطي أذهاناً متوقدة، ولكنها غير مستغلة، ويكفي أن لغتهم الغنية بالقواعد ومفردات الخيال دليل علي أنها ليست لغة أغبياء، بل إنها تنم عن ثقافة متكاملة وحضارة ناضجة. فهم يتميزون بقدرة عالية لسرد القصص والأساطير. وتتصف كلتا اللغتين، التبداوي والتقري، بذخيرة ضخمة من الفصاحة والبلاغة، تتجلي قدراتهما أثناء النقاش والحديث اللذان يدوران في أوقات الفراغ تحت ظلال الأشجار، وحول الآبار أو حول فناجين القهوة في الأمسيات.

فقد البجاوي كل الثقة في الأجنبي وذلك بسبب عزلته التي إمتدت لقرون، فضلاً عن أن جميع الذين ذهبوا إلي أرض البجه كان هدفهم الأول هو نهب خيرات المنطقة واستغلال سكانها. فمثلا كان الفراعنة يبحثون عن الذهب ، والبطالسة علاوة علي الذهب كانوا يرغبون في الأفيال لاستخدامها في غزواتهم في آسيا. ثم جاء السبئيون والحميريون بحثا عن التجارة والربح، وبقوا هناك كطبقة ارستقراطية حاكمة. أما الرومان فكانوا أقل جشعا، إذ كان همهم الأول هو التنقيب عن الرخام والأحجار الكريمة الثمينة وخلفهم بعد ذلك الحكم التركي الذي أنشأ نظاما فريدا في الظلم والقهر والاضطهاد لم يسبقه عليه أحد. وأخيرا جاء البريطانيون، آخر الغزاة لبلاد البجه (جاء بعدهم استعمار مقنن أضل وأسوأ - المؤلف) الذين كانوا أقل ابتزازا وبربرية (وفق رأي بول، ولكن هل نسي بربرية أهله الانجليز عندما استخدموا المدافع الرشاشة في حصد البجه بينما كانت محرّمة في كل أوروبا - المؤلف) لكن البجاوي لم ينس المواقع الحربية التي حصد فيها رجالهم بالأسلحة النارية الفتاكة دفاعا عن مصالحه في المنطقة والحكم التركي الفاسد. لذلك لا يستغرب مطلقا أن تنحت في ذهن البجاوي كراهية عميقة للأجنبي وما يمثله من ثقافة أو حضارة. ا. هـ. بول.

أصل البجه:

اختلفت أقوال المؤرخين في أصل البجه الذين تحدث عنهم بعض المؤرخين الكلاسيكيين كما أورد أخبارهم مؤرخو العرب وأخذ كل من هؤلاء المؤرخين يبحث عن أصل البجه وعن موطنهم الأول، كما أنهم وجدوا أن اسم البجه لم يكن هو الاسم السائد الذي أطلق علي سكان بلاد البجه في كل العصور، بل ان هذا الاسم كان عرضة للتغيير بحسب تغير الأمم التي كان لها اتصال بالبجه ولكن تلك الأسماء لم تغيّر في حقيقة وضعهم كسكان لتلك المنطقة.

وقد اتفق كل من داود روبيني اليهودي والمسعودي علي أنهم من أبناء كوش بن كنعان وبذلك أصبح البجه في رأيهما من الساميين الذين ترحلوا من بلاد العرب وأورد الدكتور جواد علي نقلا عن استرابو أن العرب كانوا يسكنون إلي الطرف الثاني من الخليج العربي في البحر الأحمر ما بين مصر والحبشة علي الساحل المسمي بسكان الكهوف تمييزاً لهم عن عرب الجزيرة العربية.

أما المؤرخ نعوم شقير فإنه لم يختلف كثيرا مع الرأي السابق إذ قال (إنه من الثابت المقطوع به والمؤيد بالقرائن التاريخية والطبيعية أنهما (أي البجه وشبه السود) من سلالة غير سلالة السود وأنهما من أقدم شعوب افريقيا بعد السود، ولم ينشأوا فيها بل هاجروا إليها من آسيا عن طريق مصر والبحر الأحمر من عهد بعيد). أما ملامحهم وعاداتهم وأخلاقهم فجميعها عربية وكل قول لا يعترف بأن أصل البجه من جزيرة العرب لا تسنده أي حقيقة.

انضم جرجي زيدان إلي رأي شقير أيضا فذكر (أن أمة الشاسو من عرب الشام هاجرت إلي بلاد البجه واستوطنت بين النيلين والبحر الأحمر كما يتنقل فيها بدو هذه الأيام، وكان قدماءbالمصريين يسمون هذه البادية (كوش) وتعريبها الأرض الحمراء تمييزا لها عن وادي النيل واسمه (كيمي) وتعريبها الأرض السوداء. ولم يكن الشاسو يقتصرون في مضاربهم علي تلك الصحراء بل كانوا يرحلون بينها وبين طور سينا. وكلمة شاسو معناها عرب واشتهروا بالسطو ونهب أموال سكان وادي النيل ويقال لهم الهكسوس ولا يوجد حتي الآن من الأدلة ما يثبت أن الهكسوس من أرض البجه.

غير أن بعض المؤرخين كان يري في أصل البجه آراءه تختلف عما أوردنا فهناك الهمذاني الذي كان يري أنهم من ذرية سام بن نوح وذكر الطبري أنهم جنس من الأثيوبيين.

وجاء في دائرة المعارف البريطانية (أن لفظة البجه تطلق علي مجموعة من قبائل واسعة الانتشار وهم من قدماء المهاجرين الساميين (ويقال لهم في كتب الأقدمين البلامس وبليمس) وقد وصفهم هيرودتس (سنة 406 ق م) فأطلق عليهم عدة أسماء.

ومن هنا يتضح لنا أنه في ذلك التاريخ القديم كان البجه يسمون بالبليميين كما أن هناك جماعة أخري كانت تسكن جوارهم وذلك في العهد الكلاسيكي ولكن لا شأن لهم بالبجه.

هل البجه هم الفراعنة:

وقد عرف قدماء المصريين البجه واتصلوا بهم وظهر في نقوشهم لفظ (البقه) وهو لفظ قريب جدا من البجه. أما جيرانهم من الجنوب الشرقي وهم سكان مملكة اكسوم فإنهم دوّنوا في آثارهم لفظة (بوقيته) علي سكان بلاد البجه الذي نحن بصدده الآن وهو في حد ذاته لا يختلف كثيرا عن أضرابه من الألفاظ.
وفي الجانب الآخر (أ. بول) يري سيلجمان بأن البجه (وبالذات بعض مجموعات البني عامر الناطقة بالتقري) يمثلون النموذج الحاضر لقدماء المصريين، ويقول في ذلك: لعله من المقنع إعتبار البني عامر، أقل قبائل البجه تغيرا، الممثلين الحاليين لقدماء المصريين (والنوبة) وأنهم لم يخضعوا لكثير من التغيير علي مدي السبعة آلاف عام الأخيرة.

تم التوصل لهذا الرأي من خلال مقارنات لبعض القياسات الجسدية والتي عضدت ببعض المعلومات المحلية التي لا يؤخذ بها كثيرا. ويضيف سيلجمان ومعاونوه بأن بعض قياسات قامة ورأس البني عامر تشبه إلي حد كبير تلك القياسات المأخوذة من نماذج من قدماء المصريين.

إذا افترضنا، وهذا أقل الاحتمالات، أن سيلجمان استقي معلوماته من البني عامر الذين أطلق عليهم البجاويين (عد كوكي وبيت عوض وعد خاسا وغيرهم الناطقين بالتبداوي والتقري في آن واحد) أو السنكاتكناب واللبت وأمثالهم من المتحدثين بالتبداوي لاكتشف ، في رأيي، أكثر النماذج الحالية شبها لقدماء المصريين. لأن هذه المجموعات تعتبر من أقدم المجموعات البجاوية التي لم تختلط كثيرا ولم تتبدل سحناتها الحامية. وهذه مجموعة بدائية صغيرة شديدة العزلة.

كتبت الدكتورة نادية بدوي في كتابها ( يوميات باحثة مصرية في حلايب) عن البجه ما يلي (منذ القدم والصحراء الشرقية آهلة بالسكان، وكان اسمهم في الزمن القديم البليميين، وأسماهم قدماء المصريين ميجا أو ميجاوي، وهي كلمة فرعونية تعني الرجل المحارب، وذلك لأنهم استعانوا بهم في مختلف الأعمال الحربية والخاصة بحماية الباب الشرقي لمصر وهو ساحل البحر الأحمر). (ويؤكد العالم الإنجليزي (سيلجمان) أن السلالة التي تقطن الصحراء الشرقية بمصر والسودان شديدة الشبه بسلالة قدماء المصريين وخاصة عصر ما قبل الأُسر، وقد استطاعوا الحفاظ علي نقاء سلالتهم بعزلتهم الشديدة داخل الصحراء). (ويتكلم البجه اللغة الكوشية حيث كانت اللغة الكوشية مثل البربرية كتلة صلبة قبل وصول اللغة العربية، ويسميها الألمان اللغة التبداوية. وهي لغة غير مكتوبة ولا مقروءة، وإنما تورث من جيل لجيل، وهي تحتوي علي كثير من الكلمات الفرعونية). (قال (سيلجمان) إن البجه هم ورثة التراث الثقافي والفيزيقي والتاريخي للفراعنة). (عرف البجه الفراعنة منذ 4000 سنة قبل الميلاد، ولأنهم مهرة وأقوياء فقد استعان بهم فرعون مصر رمسيس الثاني في حربه ضد الهكسوس. وبعد انتصاره أطلق عليهم اسم (ماجوي) وتعني الرجل المحارب بالفرعونية. ومجدهم رمسيس بنقش صورهم بجواره في الحرب وتوجد تلك اللوحة في معبد إدفو. وعاشت البجه تقدس إيزيس وأوزوريس وكانت تزور معبد (فيلة) وتحمل معها تمثال إيزيس لتبارك لهم الحياة، ثم أقام البجه لنفسهم معبداً خاصاً في جزيرة (بجه) المواجهة لجزيرة فيلة في إسوان. ونزل الكهنة لموطن البجه لإقامة الشعائر الخاصة بالإله آتون فتعلم البجه اللغة الفرعونية وتحدثوها... قويت العلاقة بين الفراعنة والصحراء بسكانها. ومن سواحلهم خرجت أساطيل حتشبسوت لبلاد بونت وخرج من البجه الإله (منتو) إله الحرب الذي اتخذ له مقراً في وادي الحمامات وآخر في وادي العلاقي الذي قدسه الفراعنة ورفعوه لمرتبة الإله أوزوريس وجعلوا من إيزيس زوجة له.

ولذلك فإن الحرب والشجاعة سمة أساسية تميز الإنسان البجاوي البائد والحالي). (قالت فاطمة البشارية بتلقائية (تلك أرض الله وأرض البشارية ... ورثها أجدادنا من الفراعنة وجدنا نحن كان ملكاً فرعونياً اسمه (منتون) وله قبر في جبل شنديب). وكان للبيئة أثر عظيم في عزلة هذا الشعب داخل الصحراء وحفظه بعيداً عن المؤثرات الثقافية التي يموج بها وادي النيل، ونتيجة لتلك العزلة أضحي لدينا شعب مميز في شكله الفيزيقي والذي يقترب كثيراً من ملامح المصريين القدماء، وأيضاً في ثقافته ولغته حيث تعتبر اللغة البجاوية شقيقة للغة الفرعونية وينتميان لأسرة واحدة هي أسرة اللغات الكوشية.) ا. هـ.

توجد بعض أوجه الشبه بين الفراعنة والبجه، مثل الكلمات التي تطابق فيها المعاني الفرعونية المعاني البجاوية مثل سنفرو ونفر تيت وتحتمس وإيلات وسيناء وبعانخي (بآن كيكي) وحتشبسوت وكل أسماء ملوك الفراعنة تقريباً، (كراتيل) بناية المقبرة الكبيرة باللغة البجاوية بالإضافة لطريقة تسريح الشعر لدي المرأة الفرعونية التي تطابق طريقة تسريح المرأة البجاوية، وكذلك الصندل الذي يرتديه البجه. ويبدو أن هذه الدلالات جعلت الحكومة المصرية تشكل لجنة أكاديمية تثبت أن البجه هم الفراعنة (المؤلف 1999).

ليس في الإختلاف بين الألفاظ المتقاربة من البجه ما يدعو إلي التشكك في أصل هذه الأمة البجاوية وفي مواطنها ومثل هذا الإختلاف طبيعي لأنه قد يكون ناتجا من اختلاف لهجات البجه أنفسهم حسب مناطقهم وأن قبائل البجه الكبيرة الخمس الآن يختلف نطق كل منها عن الآخر في الكلمات والأسماء والمسميات والألفاظ ومن بين الأسماء التي أطلقت علي سكان بلاد البجه (بايتماني) وهي أرض منبسطة سهلة وبها مياه غزيرة وهي منخفضة تغطيها الحشائش والأعشاب والنباتات التي يبلغ إرتفاعها قامة إنسان وهي مليئة بالجمال الوحشية والغزلان والأغنام والثيران وبها أيضاًbكثير من الأسود والذئاب والفهود.

أما الاسم الحالي لسكان البلاد فهو البجه ويتفرعون إلي قبائل كبيرة هي الهدندوه والأمارأر وبني عامر والبشاريون والحلنقة والأرتيقة والأشراف والسواكنية والحباب. أما ما جاء في دائرة المعارف البريطانية من أن العبابدة والشكرية من قبائل البجه أيضاً فليس صحيحاً لأن هذه قبائل عربية نزحت إلي (السودان) بعد انتشار الإسلام وليس لها علاقة بالبجه من حيث اللغة والعادات أو التاريخ وكل ما في الأمر أنهم جاوروا البجه بعد هجرتهم من الجزيرة العربية.
البجه ومملكة مروي
جاء في كتاب (تاريخ قبائل البجه) لأندرو بول عن علاقة البجه بمملكة مروي ما يلي (نشبت في عام 23 ق م اضطرابات علي الجبهة الجنوبية، مما استدعي ارسال قوة يقودها بترونيوس الذي قضي علي نبتة انتقاماً لهجمات النوبة علي اسوان. لم يعرف عن البجه في تلك الأثناء غير القليل ولم يشكلوا للرومان أي خطر يذكر حتي منتصف القرن الثالث عندما بدأوا يشكلون تهديداً حقيقياً علي المواقع الرومانية، وكان مصدر ذلك التهديد هو احتلالهم لبعض المدن علي وادي النيل ومن ثم تهديد السلطة الرومانية في تبيد. والبجه كما هو حالهم الآن، كانوا يشكلون قبائل متفرقة لا تجمعهم قيادة موحدة، غير أن المجموعة التي اطلق عليها الكتاب الكلاسيكيين اسم البليميين، هي مجموعة حضرية استقرت علي مشارف النيل، وتختلف جذرياً عن تلك المجموعات البدوية التي تسكن الصحراء وساحل البحر الأحمر. تحدث استرابو عن مجموعات مختلفة تسكن تلك المناطق. شمل ذلك البليميين والمقباريين الذين استوطنوا وادي النيل وحول برنيس. لم يعرف بالتحديد من هم المقباريين، إلا أنه من الأرجح أنهم يمثلون، كالبليميين، فرعاً من فروع القبائل البجاوية، ولا سيما من ناحية السلوك والعادات. تبدي بعض المصادر تحفظاً في ربط البليميين بالبجه لما تميزت به المجموعة الأولي من ثقافة متطورة وحياة استقرار لم يتوفرا لقبائل البجه الرعوية في الصحراء الشرقية. ويقول كروفوت في كتابه (جزيرة مروي) ـ أن ربط البليميين بالبجه، سلالة تكن عداءً شديداً للحضارة، لأمر يفتقد الموضوعية.

وفي اعتقادي أن هذا الرأي خاطيء، والسبب في ذلك هو عدم توفر مصادر كافية توضح بأن البليميين تمتعوا بحضارة نابعة من ذاتيتهم، بل المعروف عنهم أنهم استقروا في مناطق حول وادي النيل قبل أو في عام 200 قبل الميلاد، ولكنهم (ومن خلال معرفتي بالبجه الحاليين) لم يعرفوا كسكان مدن ولم يكتب لهم الاستقرار إلا بعد الاستيلاء الجزئي أو الكلي لأراضي الغير.

من الصحيح أن حفريات كرانوق (ووللي وماكايفر) تتحدث عن فترة البليميين وعلاقتهم بذلك الاحتلال الذي دام أكثر من اربعمائة أو خمسمائة عام، كما تتحدث أيضاً عن حضارة البليميين وومعمارهم، وانتاجهم الفني في الأثاث المنزلي والفخاري. هذا وصف غير دقيق، لأن حفريات كرانوق أوضحت أيضاً آثار لأقوالهم غير رعويين يشكلون خليطاً من الناس ترأسهم طبقة ارستوقراطية غير زنجية وشاركوا امبراطورية مروي في ثقافتها، وإلي حد كبير، في معتقداتها الدينية. المبرر الوحيد لإرجاع هذه الثقافة إلي مروي هو أن البليميين الذين غالبيتهم من الزنوج، استطاعوا أن يحتلوا ذلك الجزء من وادي النيل لمئات السنين وفرضوا سيطرتهم عليه كطبقة ارستقراطية، ولكنهم أنفسهم لم يضيفوا شيئاً إلي الثقافة والحضارة التي وجدوها. (يرجي مراجعة باب اللغة البجاوية لمعرفة بعض الدلالات التي تربط البجه بمملكة مروي القديمة ـ المؤلف) وعلي العكس تماماً، هناك شواهد تتحدث عن تأثيرهم السلبي بسبب هيمنة سلالة رعوية بدائية علي طبقة أخري أكثر تحضراً وثقافة. هذا الوضع الغريب هو الذي قاد إلي تدهور الأوضاع ثم هزيمة البليميين وطردهم عام 450 م.

ونجد أن الرموز المروية استعملت بصورة عادية وأن ثقافتهم، إلي حد كبير، مشابهة لحضارة مروي إلا أنها كانت أدني مستوي من تلك التي كانت سائدة هناك مما يدل علي محليتها وانعزاليتها علاوة لذلك نجد أن البليميين. كما وصفهم ديوكاسيوس، كانوا محاربين وكانوا يحترفون رعي الماشية والصيد ويتسلحون بالأسلحة الخفيفة والدروع المصنوعة من جلد العجول) ا هـ.

قبائل البجه:

جاء في الموسوعة البريطانية عن البجه (إنهم مجموعة من القبائل المتجولة والتي تحتل منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد أو أكثر الجبال الواقعة بين البحر الأحمر ونهري أتبره والنيل).

ويعرف الأستاذ محمد أدروب أوهاج البجه وفق منظور واقعي، فيقول (إن اسم البجه لا يكاد يعني في الوقت الحاضر عنصرا بعينه، بل هو مجموع كل هذه العناصر الموجودة في المنطقة ممن يتحدثون اللغة البجاوية وغيرهم ممن يعتبرون أنفسهم منهم، ولا يكاد يخرج من هذه الدائرة إلا أولئك الذين يحرصون من جانبهم هم، علي أن تكون المسافة بينهم وبين سكان المنطقة محفوظة. وذلك بأن يحددوا موقفا من ذلك الإنتماء وأحيانا يناصبونه العداء فيبادلونهم عداء بعداء. فتجد البجه في الوقت الحاضر يحتضنون بعض العناصر الأجنبية، آسيوية في أغلب الأحيان، لأن هذه العناصر، اختلطت بهم بالتزاوج وغيره. منهم الحجازيون والشوام والأتراك والمصريون والهنود وغيرهم، كل هؤلاء جزء من البجه في الوقت الحاضر. فتجد في مؤتمر البجه عام 1958 كل هؤلاء كانوا يعملون وفي كل المستويات). ويذكر في فقرة سابقة أن هناك من استقروا في منطقة البجه من قبائل شمال السودان من الجعليين، مثل السادة المجاذيب ومن القبائل الأخري مثل الشايقية والدناقلة وغيرهم ممن استوطنوا في منطقة القاش وفي محطات السكة الحديد بين أتبره وبورتسودان، مسمار وشدياب وهيا وتهاميم وسنكات وجبيت وسلوم ممن أجادوا الحديث بلغة البجه وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ منهم. وهناك غير هؤلاء، ممن استقر بهم الأمر وأصبحوا جزءاً من البجه أيضا. بعضهم يتحدث اللغة البجاوية بطلاقة أهلها، وبعضهم يفهمها وإن كان يجد الصعوبة في حديثها. ولكنهم جميعا يعتبرون أنفسهم بجه بل إن بعض هؤلاء ينتمون لقبائل بعينها. وقد أسهم عدد من المستوطنين من الشماليين وغيرهم في تنمية وتطوير البجه وعملوا بتفان ونكران ذات. فمنهم الشرفاء من التجار ورجال الأعمال والمهندسين والقانونيين والإداريين ورجال التعليم والمجتمع والأدباء والأطباء ورجال الشرطة والجيش والرياضيين وغيرهم ممن نذروا أنفسهم لخدمة هذه البلاد التي يعتبرونها بلادهم ولا يعرفون غيرها.

قبيلة بني عامر:

تنقسم مملكة البجه الكبري إلي خمس ممالك، وهي ناقص (أو نقيس)، ثم بقلين، وبازين، وجارين ثم قطعة (أو قطاع). وقد وُجد أن هذه الممالك الخمس تحدد الآن مناطق قبائل شعب البجه الرئيسية، وهي من الشمال إلي الجنوب (البشاريين) والأمارأر، والهدندوة، والحلنقا، وبني عامر ثم الأرتيقة في سواكن وغيرها.

ولقد ورثت مملكة بني عامر أراضي مملكة جارين، وإتخذت هذا الاسم عندما قوي رهط بني عامر بين قبائل هذه المملكة وتولوا زعامتها، وناظرها الحالي هو السيد علي دقلل (1999). وفي القبيلة عناصر مختلفة الأصول حتي أنها أصبحت تجمعا قبيليا أشبه بالبجه ككل. ومما يجدر ذكره أن ثلث قبائل بني عامر يتحدث اللغة التبداوية والثلث الثاني يتحدث اللغتين التيجرية والتبداوية والثلث الأخير يتحدث اللغة التيجرية.

وتمتد مملكة جارين (بني عامر) علي سواحل البحر الأحمر من جنوبي سواكن حتي تصل إلي جنوبي مصوع وتتعمق في إرتريا كما أنها تلتف لتشمل التاكا (شجر الدوم) التي هي ملتقي قبائل البجه، ومنها الهدندوة وبني عامر والحلنقا والأرتيقة والرشايدة.

يقول المثل البجاوي (عامر وعمّار أسناب) ويعني أن عامر وعمّار إخوان وأن عامر هاجر من أربعات الزراعة بعد اختلاف مع إخوانه.

ومما يجدر ذكره أنه بالرغم من عروبة اسم بني عامر فإنه يضم قبائل بجاوية مختلفة الأصول والأعراق عاشت في هذه المنطقة قبل أكثر من خمسة آلاف عام من التاريخ المكتوب. ونذكر هنا بعض قبائل بني عامر ـ ونعتذر عما يبدر من خطأ أو سهو هنا أو في مكان آخر يتعلق بقبائل البجه العريقة المناضلة ـ فالقبائل هي شموس وأنبوش والحسيناب وحفرة وعلمنوياب ومانعاب وعد ابراهيم وعد أكد وعد صالح وعد واس وعد تولي وعليدوه وشقلي وعد عمر وعد هاسري والفايداب الحسينية وبيت معلا وابحشيلة وعمير ومعلايت وقنيفرو وبيت بعشو وعد فضل وعد هاسا وعد حسن وعد حسان والعجيلاب (أو الأفلندة، وهي محرفة من أفري دوه، أي الناس الشرسين، وهي فرع من الملهيتكناب)، وبيت قريش وبهدور واللبت (وهم من أقدم قبائل البجه وكذلك السنكاتكناب).

وعموديات بني عامر هي نابتاب وأفلندة وألمدة وبيت معلا وحدارب وبيت عوض وعجيلاب وحماسين وطارقيلي وود مريعات وولنهو وميكال وعد فضل ورقبات وأبوحشيلة وبهدور وأسفدة وفايداب وهاسا توكر وقنيفرو وسيهو وسبلعاليت وعد معلم وعد درقي (الدرق هو السعف) وبلو وحماسين وعد دقة وعد شيخ وعد عوض وسبدرات وهاسا القاش وأقدوب وهمد راكوب وماريا وسنكاتكناب وملعيت.

كان لهذه القبيلة نظام طبقي استمر لمدة ثلاثة قرون، خضعت فيه بعض فروع القبيلة لنظام شبيه بالرق. وبمبادرة شخصية من مؤرخ البجه محمد صالح ضرار، قام بتفكيك ذلك النظام البغيض وأعاد لم الأسر المشتتة بين القبائل وأعاد تشكيل قبائل اختفت أسماءها لقرون طويلة وذلك بالتعاون مع أخيه الشيخ محمد ضرار شيخ مشائخ بني عامر البحر الأحمر. وإنتهي ذلك النظام فعلياً عام 1947، الذي سمي عام الحرية. وبالرغم من أن القبائل المحررة تدين لله سبحانه وتعالي ثم لمؤرخ البجه في نيلها لحريتها، إلا أن المؤرخ واجه عدم رضي من بعض الذين عانوا من ظلم هذا النظام وبالتأكيد من الذين زالت سلطتهم في استغلال المستضعفين. ونتيجة لزوال هذا النظام الطبقي وتحرير طبقة الأرقاء الذين كانوا يعملون في الرعي والزراعة، إنهار إقتصاد البني عامر حيث أصبحت المزارع جرداء بلا مزارعين وفنت قطعان المواشي لعدم وجود الرعاة.

الهدندوه:

هي واحدة من أكبر قبائل البجه (في السودان) وناظرها حالياً السيد سيد محمد الأمين ترك (2004). ولقد إنحدرت بعض فروع القبيلة من محمد المبارك. وبالرغم من هذا فإنهم أدمجوا فيهم قبائل البجه القديمة وإمتزجوا بها وأخذوا عنها اللغة (التبداوية) وأصبحوا كياناً واحداً. ولقد قام أحمد باركوين (وتعريب باركوين الذي لا يهاب أو المُهاب) بن محمد المبارك بقتل شكيتل ملك البجه (البلو) ودفنه في الجبل المعروف باسمه، واستولي علي مملكته وضم إليه جميع القبائل التابعة لهذه المملكة. ولقد إشتهر محمد المبارك بالبأس والشهامة فأطلق عليه رؤساء البجه لقب (وهدأ) ـ ومعناها الرئيس أو الزعيم ـ وإشتهر بها، وأضيفت لها كلمة (دوه) وتعريبها بيت أو أهل، فعرفت ذريته باسم (هديدوه)، ولكن غلب عليها النطق المحرف فاشتهرت به القبيلة، وهو قولهم (هدندوة).

وتزوج أحمد باركوين بـ (هدات) بطريقة أقرب إلي الأساطير، وأنجب منها سبعة أولاد هم نأيتيب أبو بهريت جد الشباديناب والمحموداب، وكلاي أبو خميس جد الخميساب والسمرايدواب، وبعشوك أبو هاكول جد العشوكاب والهاكولاب، وقرهب أبو هدل جد القرهباب والهدلاب، وشبودين أبو جميل جد الشبوديناب والجميلاب، وحملاب أبو قايد جد القايداب وأدر عوضاب، وويل حماد أبو سمار وهو جد الإميراب والبوقليني. ومن قبائل الهدندوة المشهورة أيضاً، الويل علياب والترك والشرعاب والبشارياب والقرعيب والسمرأر والدقناب وهيكوتباب وحامداب وشلول وكلولي وإبشر وعوضي وشرعاب ودقناب وهميساب وملتيناب وشيخاب وبيوضاب وريان وحلنقاب وملهيتكناب وسيقولاب وبشارياب وهبناب وبيرناب. ومن مدنهم وقراهم، جبيت وسنكات (أوكاك) وأركويت وتهاميم وهيا ودورديب وأروما وهداليا وفلك وغيرها.

الأمارأر:

هي إحدي قبائل البجه الكبري وتسكن بين الهدندوة والبشاريين. وعاصمتهم أكرا رباي. وينحدرون من عمار وعثمان. ولعمار سبعة أنجال هم : فاضل وفضل وعشيب ونهد وعامل ومحمد وسعد. وأبناء عثمان أربعة هم: أحمد كرب ونور ومحمد نور وقويلاي وانحدرت كل قبائل الأمارأر من هذه الذرية. والزعامة في الموسياب ومن القبائل الفاضلاب، والقويلاي، والعلياب والعشيباب ونهد والأرفوياب والمنوفلاب والعبد الرحماناب والعبد الرحيماب والمهجن والكيلاب والعبد لهاب والكرباب والنوراب والحامداب والشافعاب وسالماب وسلمان والسندراييت والسعيداب وغيرها كثير من القبائل. وتتميز مناطق القبيلة بوادي آمور الخصب والثروات المعدنية التي تنهب في خيراتها حكومات الخرطوم. ومن مدنهم وقراهم تهاميم أبو شوك وفودكوان وسراكويت وهييت وبأيديب (محمد قول) وأرياب وإيربا ووادي أوكو وسلاله أسير وأسوتربا وجبل أوكر وسلوم وأوبو وأربعات ودرور وتوارتيت وإيت وجبيت المعادن وأبركاتيب إلخ. وناظرهم السيد أحمد حمد محمود (1999).

البشاريون:

تقطن هذه القبيلة في شمال بلاد البجه في منطقة مملكة ناقس علي سواحل البحر الأحمر وبادية صحراء عيتباي، كما تمتد مساكنها إلي ضفاف نهر أتبره، حيث عاصمة نظارتهم في جزيرة بعلوك. وتنقسم قبيلة البشاريين إلي عدة عائلات منها: عالياب، وهم ذرية علي الذين تناسلت منهم عوائل بالقاب وساراراب ومحمد عالياب، وكربيلاب وحمد عمراب وهم أكثر عوائل البشاريين في جهة عيتباي، ويسكنون حول جبل عيسي. تفرعت عائلة الحمد أوراب إلي عمر وعشباب وحمد كوراب وقمهاتاب ويقيمون في حلايب وجبل علبة وتجاورهم عائلة عامراب. وتفرعت من عائلة الشنتيراب عوائل سعداب وسالماب وشابش وقهياب. أما عائلة إيراياب، فهم ذرية إيرا ويسكنون بين محطة العبيدية وأبو حمد ويطلق علي هذه العائلات (أبناء أم علي)، أما بيت النظارة فيطلق عليهم (أبناء أم ناجي)، وهم ناجي ومنصور جد المنصوراب، وعيسي. وناظرهم السيد كرار أحمد كرار (1999). واشتهرت القبيلة بالجمال التي تحمل اسمها، وهي أفضل الجمال قاطبة.

أرتيقة:

هذا اسم القبيلة البجاوية التي تولت إمارة سواكن بعد أن إنتزعتها من قبيلة (بلويب) أو (بلي) العربية التي كانت سائدة علي البجه القاطنين في سواكن. والأرتيقة يعتبرون كل من سكن معهم في مدينة سواكن فرداً من قبيلتهم، ولهذا فإن جميع السواكنية هم أرتيقة. ولفظة (أرتيقة) تؤدي معني (ناظر قبيلة) غير أنها خاصة بهذه القبيلة فقط.

وينقسم الأرتيقة إلي عائلات عديدة منها علمونياب وكرباب وبوشاب وأكريماب وسنايف وأرياب وعطوي وإيدهن وقولاب وايحهد ودسياب الشئياب والحمران والهنسيلاب ونفراب وقدر وقاسماب وضراراب ورضواناب وهمد شب قبيلة الأمير مصطفي هدل إلخ.

الحلنقا:

هي إحدي قبائل البجه الكبري وعاصمتها كسلا (اسم نوع من النباتات، وبالبجاوي أيضاً المنطقة المعتدلة الطقس)، وناظرها الحالي هو الأديب الشيخ مراد جعفر شكيلاي (1999). تنتسب القبيلة إلي هوازن وهاجرت إلي أفريقيا في خلافة عبد الملك بن مروان فراراً من ظلم الحجاج بن يوسف عامله علي العراق. وبعد عبور القبيلة للبحر الأحمر نصبت خيامها حول جبل يقال له قدم، جنوبي مصوع. ثم إنقسم المهاجرون إلي قسمين، هاجر أحدهما شمالاً متتبعاً ساحل البحر الأحمر، وسلك القسم الثاني طريق بلاد الحبشة فدخلوها وتوغلوا فيها إرتياداً للمرعي، وهم أهل خيل، ومن عادة أهل الخيل حمل السياط، فأطلق عليهم الأحباش اسم (الحلنقا)، ومعناها حملة السياط (أنقا بلغة الأمهرا تعني السوط) أو أصحاب السوط، فعرفوا بالحلنقا منذ ذلك الوقت. وأقاموا بالحبشة حوالي ثلاثة قرون يؤدون فيها أتاوات للأحباش. ولما ضاقوا بجشع وظلم الأحباش، أجمعوا أمرهم علي الهجرة. وسكن بعض منهم منطقة الجعليين.

الحباب:

ويقال لهم في كتب مؤرخي العرب (الأصحاب) وهم لفيف من قبائل يمنية عبرت الشاطيء الشرقي، وجماعات من أمم التيجري ترأسهم عائلة من نسل (الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب (عبد العُزّي) بن عبد المطلب). والفضل هو أحد شعراء بني هاشم المشهورين وفصحائهم وكان شديد السواد، وتفتخر العرب بالسمار والسواد، وهو القائل: ”وأنا الأخضر من يعرفني - أخضر الجلدة في بيت العرب“.

وكان رئيس الحباب يستمد سلطته من ملك الحبشة، وهو الذي ينعم عليه بلقب (كنتيباي) ورتبة (بحر نجاسي) ومعناها ملك البحر. وفي عام 1898م دخل كنتيباي محمود بن حامد هو ومن أطاعه من قبيلته (السودان) من قرورة وعاش معززاً مكرماً حتي وفاته حيث خلفه ابنه التقي الورع كنتيباي حسن بن محمود. لقد سجل آل كنتيباي تاريخا ناصعا ضد الاستعمار بكل أشكاله حيث وقفوا وقفة مشرفة مع المهدية ضد المستعمرين بمختلف جنسياتهم أيام تواجد الأمير أبو قرجة في شرق (السودان) فسمي أحد أبنائه علي زعيمهم. ويشترط في نظارة وعموديات الحباب أن يكون الرئيس من عائلة أسقدي بئمنت القرشية. وتفرعت من الحباب ثلاث قبائل هي (بيت بحايلاي) و(عد تكليس) و(عد تماريام).

توجد مجموعات قبلية أخري مثل الأشراف والملهيتكناب والكميلاب والسيقولاب والحسناب ولكن كل واحدة من هذه القبائل تتبع إدارياً لنظارة من نظارات البجه.

البجه في عصر الفراعنة:

يستدل من الآثار المصرية أن قبائل البجه لمصر كانوا كما هم في هذا العهد يخالطون الحضر علي النيل فيأتون من صحرائهم بالمواشي وخشب السنط والفحم والصمغ والصيد وجلود الحيوانات والحجارة الكريمة ويقايضون بها الأقوات والأنسجة. وكان الفراعنة يساعدونهم لمنع تعدياتهم والانتفاع بتجارتهم ويجعلون لمشايخهم جعلا معلوما يجرونه عليهم في كل عام فيتعهدون بحماية الطرق وحفظ الأمن، وكان الفراعنة كلما فرغوا من حروبهم في الشمال يبعثون السرايا إلي تلك الصحراءbوغيرها ويمتنون المراكب الكبيرة في مدينة القصير ويرتادون بها موانيء البحر الأحمر فيعودون بالجزية وهي من محاصيل تلك البلاد حتي سواحل المحيط الهندي. وكان ملوك الفراعنة يضعون أيديهم علي جميع المناجم كي ينفردوا باستخراج خيراتها. فالآتهم التي كانوا يسحقون بها أحجار الذهب والقناديل التي كانوا يدخلون بها إلي الكهوف لا تزال متناثرة حول كل المناجم ولقد ذكر أحد الباحثين الانجليز في مذكراته ما كان يلاقيه البجه من الهلاك والمرض في البحث عن المعادن علي أيدي الفراعنة.

وأول فرعون مصري عرفه التاريخ كفاتح لبلاد البجه وبلاد النوبة هو (سنفرو) (ويعني اسمه باللغتين البجاوية والفرعونية الأخ الجميل) في حوالي عام 2720 ق.م وقد هاجم هذا الفرعون قبائل البجه والنوبة المتحالفة وأطلق علي هذه القبائل اسم (ذات الأقواس) لأنها كانت تستعمل القوس في حروبها واستطاع سنفرو أن يتغلب علي خصومه بعد حروب دامية انتهت بأن أخذ كثيرا من الغنائم والأسلاب، كما أجبر البجه وسكان النيل علي دفع الجزية إلي بلاط فرعون.

ثم هدأت انتفاضات البجه والنوبة واستمروا تحت إحتلال الاستعمار الفرعوني حتي عهد الأسرة السادسة (حوالي 2423 ق.م) واستطاع (يونا) الحاكم المصري علي البحر الأحمر واقليم النوبة أن يخضع كل السكان خضوعا تاما، بل استطاع أيضا أن يجند كثيرا من البجه والنوبة في الجيش المصري كما كوّن منهم فرقاً أرسلت لمحاربة القبائل البدوية التي كانت تهاجم مصر عبر جزيرة سيناء. وبفضل فرق البجه والنوبة هذه تمكن المصريون من تأمين حدودهم الشمالية الشرقية عبر شبه جزيرة سيناء.

الفراعنة وذهب البجه:

وفي عهد المملكة المصرية الوسطي (215 ـ 1580ق. م) بدأ الفراعنة بنشاط جديد نحو الجنوب والجنوب الشرقي من الحدود المصرية وخاصة في عهد الأسرة الثانية عشرة (2000 ـ 1970ق.م) وكانت مشاريعهم المعمارية تعتمد علي الرقيق والذهب وكان المصدر الوحيد للصنفين هو إقليم النوبة للرقيق وبلاد البجه للذهب.

وقام أمنحات الأول بحملات ناجحة ضد البجه حتي تم له اخضاعهم كلية وأجبرهم علي استغلال مناجم الذهب الواقعة في وادي العلاقي في الشمال، وسخّر شبان البجه في الحفر لاستخراج الخام من الذهب وطحنه بينما يغربله المسّنون، وكان هذا التسخير والاستغلال دافعا لكثير من الثورات البجاوية علي الحكم الفرعوني ولكنها لم تكن ناجحة بالحد الذي تطرد به الاستعمار الفرعوني من أرض البجه.

واستمر النشاط الفرعوني نحو استغلال أراضي البجه والنوبة بشكل أوسع في عهد امنحوتب الأول وتحتمس الأول (1555 و 1540 ق. م) وأضعفا شوكة النوبة وأجهزا علي قوة البجه في الصحراء الشرقية. وكان لهذه السيطرة الفرعونية علي البجه الأثر الكبير علي الخزائن المصرية المملوءة ذهبا والتي اكتشفت في مقبرة توت عنخ آمون وغيره.

ولم تفتر همة الفراعنة عن زيادة الذهب من مناجم البجه، ففي عهد سيتي الأول (1313 ق. م) بدأت محاولات جديدة في هذا الشأن فحفر كثيراً من الآبار التي كانت تدر دراً متواصلا من الماء للقوافل والعمال المسّخرين الذين كانوا يستغلون في استخراج الذهب ولم يتوقف هذا العمل في عهد رمسيس الثاني 1292ق.م) بل إزداد توسعاً وانتاجاً. لو لم يكن العمل يجري علي طريقة تسخير الرقيق واستغلالهم لما استطاع الفراعنة أن يستفيدوا الفائدة القصوي من تلك المناجم ولكن وجود الرقيق بأعداد كبيرة في تلك العهود جعل من الممكن أن تستغل تلك المناجم إلي الحد الذي أظهر مبلغ غني الفراعنة ومبلغ ثروتهم الضخمة المستجلبه من جبال البجه.

وضعفت مصر بعد ذلك وضعفت قبضتها علي القبائل البجاوية المحاربة فاستعادت قبائل البجه حيويتها واستقلالها ثم ما لبثت أن ناوشت كل الدول التي استعمرت مصر بعد ذلك بإغاراتها المتكررة علي الحدود المصرية.

البجه والرومان:

لم تكن هنالك أية علاقة بين البجه والرومان طوال القرن الميلادي الأول ولم تكن أي واحدة من الإثنتين تعرف شيئاً عن الأخري، غير أن فترة الهدوء التي كانت تسود الحدود الرومانية الجنوبية ما لبثت أن إعترتها سلسلة من الغارات والإنتفاضات بسبب محاولة الرومان بسط نفوذهم علي الأراضي الواقعة جنوبي اسوان ورغبة البجه في منع الرومان من التغلغل إلي تلك المناطق وكان الرومان كسابقيهم من فراعنة مصر يريدون فتح التجارة مع بلاد النوبة وعبر أراضي البجه واستغلال الأحجار الكريمة من جبالها وأراضيها.

ولعل أول هجوم بجاوي علي الرومان كان في عام 250م وذلك في عهد الامبراطور ديسياس، واستمرت المناوشات بين الجانبين حتي تم التوصل إلي هدنة والدخول في مفاوضات بين الجانبين الروماني و البجاوي فأرسل الملك (تيرمن) البجاوي (بازمون بن بيزي) رئيساً لوفد المفاوضات وتباحث مع (تربيو نيوس فالس) في أمر الحدود الرومانية البجاوية ، ويبدو أن الجانبين توصلا إلي إتفاق مؤقت بحيث يمتنع البجه عن مهاجمة الإمبراطورية الرومانية المتاخمة لهم.
وسرعان ما أدرك البجه أن الهدنة لم تكن في مصلحتهم ولذلك فإنهم نقضوها في عام 261م وتوغلوا في حدود مصر حتي صدهم (يوليوس فيرمليانوس) مما اضطر ملك البجه إلي الركون إلي الهدنة حتي تحين لهم فرصة أخري.

وفي عام 272م زادت متاعب الرومان كثيراً في مصر لأن الملكة زنوبيا ملكة تدمر أبدت نشاطا مكثفاً في هجومها علي الرومان في مصر واستطاعت أن تعقد تحالفاً مع كثير من الفئات المصرية المتذمرة من حكم الرومان لمصر وإتفقت أيضاً مع البجه في جنوبي شرق مصر علي فتح جبهة أخري ضد الرومان حتي يشتد الضغط الحربي عليهم. واستجابة للتحالف مع زنوبيا قام البجه بهجوم عنيف علي الرومان واستطاعوا أن يتقدموا داخل الحدود المصرية الجنوبية إلا أن حلفاءهم من التدمريين أصيبوا بالهزيمة مما أدي إلي خروجهم من دائرة المعركة فإتجه الجيش الروماني لمساندة جيوشه بالحدود الجنوبية وتمكن من صد الهجوم البجاوي الذي وصل إلي مقربة من موقع سوهاج، وأخذ القائد الروماني بروبس في تعقب البجه حتي تم طردهم عن مصر في عام 274م وقد وقع بعض البجه أسري في أيدي الرومان.

لم يستسلم البجه لتلك الهزيمة واعتبروها هدنة يستجمون فيها استعداداً لقتال جديد، وفي عام 276م ذكر (فربسكوس) أن (برولس) نائب الإمبرطور الروماني الذي تولي حكم مصر من عام 275م إلي عام 284م، غزا البجه وقهرهم وأرسل منهم أسري إلي روما. ولكن البجه جددوا الهجوم وعبروا الحدود بجيش قوي استطاع أن يكسب انتصارات خاطفة علي الرومان، واستولي بسرعة فائقة علي مناطق كثيرة من مصر، وتخطي موقع سوهاج الحالي وبات خطره عظيما علي الرومان، فأعد (بروبس) جيشا قويا لمجابهة الغزو البجاوي والتحم معهم في عدة مواقع غير فاصلة وأخذوا في التقهقر إلي حدودهم حتي إذا وصلوها لم يستطع (بروبس) التوغل في أراضيهم خوف عصاباتهم وصحرائهم.

ازداد ضغط البجه علي الرومان عام 297م وذلك في عهد الإمبرطور (ديوكليشيان). فاضطرت الإمبرطورية الرومانية إلي الانسحاب من كل الأراضي الواقعة جنوبي الشلال الأول، واتخذت منه نهاية لحدودها الجنوبية. ثم أن ديوكليشيان أمر بإسكان أمة النوباتيين (وقد يكونون هم النوبة) ليسكنوا في تلك المنطقة أملا منه في أن يكونوا درعا حصينا ضد غارات البجه المتكررة.

وبالرغم من هذه الإجراءات فإنه كان مضطرا إلي مهادنة النوباتيين والبجه معا حتي لا يغيروا علي مصر، فاتفق معهما علي أن يدفع جزية سنوية لكل من الأمتين. وطالب البجه بأن يسمح لهم بالحج إلي معابدهم الوثنية في جزيرة الفيل، حيث كانوا يشتركون هم والنوباتيين والمصريين في عبادة الإله إيزيس الذي كانوا يعتقدون أنه واهب الخصب لبلادهم. ورضي ديوكليشيان بهذا الشرط إذ لم تكن المسيحية قد أصبحت الدين الرسمي للإمبراطورية.

أما بعد عام 323م، أي بعد إعتناق قسطنطين للدين المسيحي فقد بدأ البجه يشعرون بقوة الضغط المسيحي عليهم لا من الشمال فحسب، ولكن من الجنوب الشرقي أيضا إذ أنه في عام 359م هجم الملك (أزانا) ملك اكسوم علي قبائل مملكة البجه وتقدمت جيوشه من الجنوب في محاولة ناجحة لتحطيم مملكتي البجه والنوبة في عاصمتها القديمة التي كانت ما زالت تدين بالوثنية، وتمكن الملك (أزانا) من هزيمة النوبة والانتصار عليهم نصرا حاسما مكنه من تحطيم بلادهم وبهذا أزال إحدي الدولتين (السودانيتين). ولم يبق غير البجه ليواجهوا خطر مواصلته للغزو من الجنوب، وخطر الرومان من الشمال، واستمر هذا التهديد للبجه حتي بلغ أقصاه في عام 390م حيث قام تيدوس الأول الروماني بإغلاق المعابد الوثنية في جزيرة الفيل ومنع كل من النوبة والمصريين والبجه من عبادة الأوثان، ثم أجبر المصريين علي اعتناق المسيحية وتضايق النوباتيون من ذلك وتمسك البجه بصلابة بحقهم في اعتناق الدين الذي يرون غير عابئين بالضغط الروماني وما يمكن أن يتبعه من اضطهاد.

الثورة ضد الرومان:

وبدلا من أن تنهار مملكة البجه بسبب ما تعانيه من أزمات حربية بسبب الحصار الروماني من الشمال والاكسومي من الجنوب، استطاعت توحيد صفوفها وأن تشد من قواها مرة أخري. وما حان عام 407م إلا وكانت مملكة البجه أقوي ما تكون عليه، وجهزت كل امكانياتها لحرب جديدة ،حتي إذا جاء عام 429م عبرت جيوشها الصحراء الشرقية متدفقة نحو اسوان حيث عبروا النيل ووصلوا إلي (واحة خارجة)، التي كانت معقلا رومانيا مسيحيا، فأبادوا وأسروا سكانها المسيحيين وعادوا أدراجهم إلي بلادهم.

ومنذ حلول القرن الخامس للميلاد أصبح البجه سادة الموقف، حتي في أراضي النوبة لا ينازعهم في ذلك أحد، وتقلص النفوذ الروماني إلي درجة استطاع معها البجه تأسيس مملكة ثابتة جنوب اسوان ،وتعاقب علي تلك المملكة عدة ملوك مخلفين وراءهم بعض الآثار التي تثبت سطوتهم ومملكتهم، لكنهم لم يكتبوا انتصاراتهم أو يخلدوها بلغتهم البجاوية التي لم تكن تكتب. ولما أراد ملكهم (خاراشين) أن يسجل مقدرته لجأ إلي أحد الكتاب المصريين الذين يعرفون اللغة اليونانية فكتب له وثيقة تسجل انتصاراته.

شعر الرومان بأنهم أخطأوا باحضار النوباتيين (تعني القادمين الجدد) الوثنيين في أرض النوبة ليكونوا دولة حاجزة بينهم وبين البجه لأن النوباتيين اتحدوا مع البجه في التخلص من الخطر الروماني، ورأي الإمبرطور مارشيانوس أنه لا بد من كسر شوكة البجه والحد من تمرد النوباتيين ولذلك فإنه أرسل قائده العظيم (ماكسمنيوس) عام 532م بجيوش عظيمة لضرب البجه الضربة القاضية واستطاع القائد الروماني كسب بعض المعارك المبدئية ولكن البجه كانوا قد عقدوا العزم علي عدم الخوض في معركة حاسمة مع جيش يفوقهم عددا وسلاحا واكتفوا بالمناوشات والهجوم الخاطف ثم التقهقر إلي الصحراء، ولما لم يجد ماكسيمينوس فرصة للقضاء عليهم لجأ إلي الدبلوماسية فدخل معهم في مفاوضات انتهت بصلح وإقامة هدنة بين الجانبين، فاحتفظ البجه لنفسهم بالحق في إقامة شعائرهم الدينية الوثنية في معابد ايزيس بجزيرة فيلا (هي في اسوان ومعناها الصداقة أو التحالف، حيث تصادق البجه والنوباتيين وطردوا الرومان) سنويا ومن هناك يحملون الإله إيزيس إلي أوطانهم كما جرت العادة بذلك علي أن تتوقف غاراتهم الحربية علي مصر لمدة مائة عام. ثم أطلقوا سراح أسري الرومان، كما قبلوا تسليم بعض أبنائهم رهائن في أيدي الرومان حتي لا تتوالي اعتداءاتهم ويبدو أن الرومان قد قبلوا استمرار دفع الجزية السنوية للبجه نظير محافظتهم علي هذه المعاهدة.

لما مات ماكسمينيوس بعد ذلك بعدة أعوام زحف البجه نحو مصر وهاجموا القوات الرومانية وأجبروها علي التقهقر أمامهم حتي خلصوا رهائنهم من أيدي الرومان ثم عادوا إلي ديارهم سالمين ولم يتمكن الرومان من ملاحقتهم.

البجه والمسيحية:

كان عام 543م نقطة تحول في تاريخ النوبة بصفة عامة والبجه بصفة خاصة، ففي تلك السنة أرسلت الامبراطورة ثيودورا بعثة دينية إلي بلاد النوبة تدعو فيها ملك النوباتيين إلي إعتناق مذهبها المنوفيزي، واستطاع المبشر جوليان الذي أرسلته من اكتساب قلب الملك النوبي إلي العقيدة الأرثوذكسية، وأصبحت أرض النوبة منذ ذلك التاريخ حليفا دينيا للرومان، وانتهت عداوتها معهم وبقي البجه وحدهم منفردين وأصبحوا هم الزادة عن الوثنية والمناهضين للمسيحية وأضحت مملكتهم محاصرة. فإلي الشمال الرومان وإلي الغرب النوبة وفي الجنوب اكسوم، وكلها دول مسيحية معادية لهم، ولما رأي الرومان العزلة السياسية التي صار عليها البجه، أرادوا أن يضربوا ضربتهم القاضية فأغلقوا المعابد الوثنية بجزيرة الفيل وحملوا آلهتها الوثنية إلي القسطنطينية غير عابئين بغارات البجه التي قد تهددهم في مراكزهم، واتحد الرومان والنوبة ضد البجه، وربما بتشجيع وإعانات من الرومان نهض ملك النوبة المدعو (سلكو) في منتصف القرن السادس الميلادي وأعد جيشا كبيرا فهاجم مملكة البجه، والتحموا في قتال عنيف انتهي بانتصار الجيوش المسيحية علي جيش البجه. وسجل الملك (سلكو) انتصاراته علي جدران معبد (كلابشه) نقشا.

يبدو أن ذلك كان آخر عهد مملكة البجه بالعداوة والحروب. ويعتقد بعض المؤرخين أن الضربة كانت نهاية مملكتهم، لكن التاريخ فيما بعد يثبت أن أمة البجه لم يحدث أن ضعفت حربيا لأنها استقبلت العرب بعد الرومان بنفس القوة الحربية التي ضعضعت سلطة الرومان في مصر، واحتفظوا بروحهم الحربية حتي الآن. لقد ألفوا الحرية والاستقلال فلم يكونوا يقبلون أي سلطان عليهم ولم تكن هزيمة النوبة لهم إلا هزيمة مؤقتة إذ أنهم عاشوا في مملكتهم قرونا عديدة بعد انهيار ممالك النوبة المسيحية.

الصدام مع العرب:

كان أول صدام عسكري بين البجه والعرب في أيام الفتح العربي لمصر بقيادة عمرو بن العاص، وكانت العلاقات بين الرومان والبجه قد طرأ عليها كثير من التحسن والوفاق إلي الحد الذي طلب فيه القائد بطلميوس الروماني النجدة من النوبة والبجه لمواجهة الغزو العربي. وخرج ملك البجه (مسكسوح) لمساعدة مصر بخمسين الف مقاتل من البجه معهم ألف وثلاثمائة فيل علي كل فيل عشرة من الشجعان ويعززهم جنود ملك النوبة (غاليق). وكانت بين هذه الجنود البجاوية جنود قبائل (الآناك) وقدموا من وراء (سواكن وجعلوا من جلود الفهود دروعاً) لهم ووضعوا علي شفاههم العليا حلقات من النحاس وهؤلاء (الآناك) هم الذين بنوا قبور (مامان في جبال الهدندوة وبني عامر ببلاد البجه)، ووقفت جنود البجه في وجه عمرو بن العاص واستماتت في قتال المسلمين وهاجمتهم هجوما عنيفا، أما النوبة فإنهم استخدموا سهامهم في ضرب المسلمين في أعينهم حتي أطلق عليهم العرب (رماة الحدق) ولكن لم تكن هذه النجدة البجاوية النوبية ذات أثر فعال في تقرير مصير المعركة لأن عمرو بن العاص استطاع أن يتغلب علي الحلفاء بسبب الامدادات التي كان يرسلها الخليفة عمر بن الخطاب وبذلك تم للمسلمين فتح مصر.

الهجرة العربية قبل الإسلام -قبيلة بلي العربية:

درج كثير من المؤرخين علي القول بأن البجه من عنصر سامي نزح منذ قديم الزمان إلي الساحل الغربي من البحر الأحمر، واستمرت بعض القبائل العربية في هجرتها إلي (السودان) قبل الإسلام وكانت أشهر تلك القبائل التي نزحت قبيلة بلي، ويقول القلقشندي بأن هذه القبيلة هم بنو بلي بن عمرو بن الحافي بن قضاعة بن حمير، وكان قضاعة مالكا لبلاد الشحر (وقبره بجبل الشحر) ولهم بقايا بالديار المصرية بصعيدها الأعي هم بنو ناب وغيرهم.

وتعد قبيلة بلي أقدم القبائل العربية التي هاجرت إلي هذه الديار البجاوية بعد الشاسو وثمود وغيرهما، وكانت هجرتها قبل ظهور الإسلام بألف عام، وهي بطن من بطون قضاعة التي يقال عنها في كتب المؤرخين بأنها أول من نزح من قبائل معد. وكان السبب في نزوحها حرب وقعت بينها وبين ربيعة بسبب فتاة ربيعية يعشقها رجل قضاعي من بني نهد فانتصرت مضر وأنمار وأياد لربيعة وانتصرت عك لقضاعة، فاُجلوا عن أماكنهم ويمموا نجدا ما عدا قبيلة (بلي) فإنها يممت ونزلت مأرب ثم ارتحلت منها إلي ما بين تيماء والمدينة.

وقال ابن خلدون (إنهم اجتازوا العدوة الغربية من البحر الأحمر وانتشروا ما بين صعيد مصر وبلاد الحبشة وكثروا هناك علي سائر الأمم وغلبوا علي بلاد النوبة وفرقوا وأزالوا ملكهم وحاربوا الحبشة فأرهقوهم وضايقوا المصريين).

وقبائل بلي هي أول من نقل اللغة العربية إلي أفريقيا فجاوروا قبائل البجه ولكنهم لم يختلطوا بها، فأطلقت البجه كلمة (بلويت) علي اللسان الذي تتكلمه (بلي) أي اللغة العربية، وهي ما لم تكن مفهومة لديهم، ولذلك نسبوها لأول من تكلمها في ديارهم كما أن (البلي) كانوا عنصرا عربيا يترفع عمن سواه من أمم افريقيا واعتبروه سيدا عليهم، لما أورد معه من الفضائل كما أطلق علي كل سيد من (بلي) (بلويون) وتعريبها رئيسنا أو سيدنا أو بلويب، وبالبني عامرية (بلوابي) أو (بلواي) وكلها تؤدي معني السيادة والزعامة ـ كما أن البجه والبجاوية تؤدي لمعني عكس ذلك. وكان البلويون يأنفون من مصاهرتهم أو مخالطتهم حتي إذا ضاعت عروبتهم اللغوية اتخذوا البجاوية لسانا لهم واضطرتهم سنة الحياة الاجتماعية كي يتزوجوا ببنات رؤساء البجه، ونشأ أبناؤهم وهم يتكلمون لغة أمهاتهم وكما يقول الافرنج ان أول ما يتعلمه الطفل من الألفاظ هو ما تنطقه أمه بلسانها.

يقول نعوم شقير في تاريخه إذا أردت أن تسأل البجاوي عن معرفته بالعربية فيجب أن تنسبها إلي (بلي) فتقول له (بلويت تكتينا) (هل تعرف لغة بلي أي العربية). فأما أن يرد عليك بإحدي الكلمتين (كاكن) أي لا أعرف وكذلك في البجاوية (بداويت) والبني عامرية التي يقال أن أول من تكلمها أهل اليمن وساحل اريتريا وقبيلة ثمود ويهود اليمن، وقد وقفت قبائل بلي حائلا دون انتشار المسيحية في شرق (السودان) حتي جاء الإسلام مع العرب فاعتنقوه واشتهر البلويون بالشجاعة والعزم حتي هابهم كل من حولهم من الأمم خصوصا الحدارب فهم شوكة القوم ووجوههم.

العرب والبجه والنوبة:

كانت قبل الإسلام هناك وقائع حربية متعددة بين البجه والنوبة خاصة بعد أن اعتنق النوبيون الدين المسيحي وبقي البجه علي وثنيتهم.
ولما ظهر الإسلام في (السودان) الشمالي، سكن جماعة من المسلمين أماكن معدن الذهب في عيذاب، ونزح إلي تلك الديار خلق من العرب من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، فاشتدت شوكتهم وتزوجوا من البجه وقويت ربيعة بالبجه علي من ناوأهم وجاورهم من قحطان وغيرهم من معد بن نزار ممن سكن في تلك المنطقة.

وكانت مملكتا البجه والنوبة تابعتين لمصر، منذ الإسلام حتي استولي السلطان سليم التركي عام 923هـ علي مصر، فسلخ مملكة البجه عن القطر المصري وألحقها بإمارة الحجاز وبقيت مملكة النوبة تابعة لمصر، وضمت بلاد البجه كلها إلي (السودان) عام 1865م وكذلك اريتريا والصومال الانجليزي. ولولا أن الخديوي محمد علي باشا استولي علي (السودان) عام 1821م وقضي علي دولة الفونج لبقيت ممالك البجه الخمس مستقلة لليوم.

واشتهرت مدينة عيذاب الميناء البجاوي كميناء رئيسي لحجاج بيت الله الحرام من المصريين و(السودانيين)، وكانت زاهرة بالعمران والتجارة وكانت عيذاب مقر ملك البجه الحدربي في الإقليم الشمالي.

واشتد هجوم البجه علي ريف صعيد مصر في أوائل القرن الثالث للهجرة فرفع والي أسوان الأمر إلي أمير المؤمنين المأمون بن هارون الرشيد فأمر باخراج عبد الله بن الجهم إليهم عام 216هـ (831م) فكانت حربه سجالاً. ثم تهادنوا وكتبوا المعاهدة الثانية.

وكان أول من عقد معهم الهدنة في أواخر القرن الأول الهجري هو عبد الله بن الحجاب السلولي فقد عقد معهم معاهدة أمان وحسن جوار، وكان نائب ملك البجه مقيما بالريف المصري رهينة. وكثرت أذية البجه للمسلمين الذين يريدون استعمار المناجم والاستيلاء عليها شيئا فشيئا حتي تذوب وتنصهر القومية البجاوية في العنصر القادم حديثا من الشمال أو من جزيرة العرب حاملا مشعل النور والهداية إلي طريق الحق والصواب وقد تم كل ذلك ولكن بعد قتال عنيف ودماء زكية طاهرة أريقت في الدفاع عن الأوطان وكنوزها العامرة بالتبر والجوهر والفضة.

وأقام العرب بقيادة عبد الله بن الجهم إتفاقية هدنة مع عظيم البجه كنون بن عبد العزيز، وعمل البجه بموجب هذه المعاهدة نحو خمسة عشر عاما بدأوا بعدها غزو الريف من صعيد مصر وكثر الضجيج منهم إلي أمير المؤمنين جعفر المتوكل علي الله فندب لحربهم محمد بن عبد الله القمي وهو من الأمراء الحازمين.

الذهب سلاح الاستعمار:

ولما أراد ملك البجه الغاء المعاهدة، بدأ بطرد العرب من جميع المناجم والمدن وامتدت سرايا غزواته إلي بلاد الوجه القبلي وأغضب هذا الخليفة في بغداد خصوصا منعهم دفع الخراج. ولا شك أن استثمار المناجم يعتبر من أكبر أسلحة الاستعمار ولذلك قرروا الخلاص منها بأي ثمن وطلاب الحرية لا يمكنهم أن ينالوها أو يحصلوا عليها ما لم يتخلوا عن قيود مثل هذه المعاهدة التي كانت جميعها في صالح العرب. ومن يدرس أخلاق البجه يتحقق بأن أكره شيء هو السيطرة وأخذ الأموال بالقوة مثل (الخراج) ونحن قرأنا في التاريخ كيف أن الراشدين قد اعتبروها أتاوة تدفع لقريش، فما بالك بالبجاوي المقيم في وطنه وأرضه وبين عشيرته وأهله يأتيه الأجنبي من الخارج فيطلب منه أن يكون شريكا له في نياقه وبقره وأرضه وثرواتها الطبيعية ويضع يده عليها بدون أي تعب فإذا رضيها تحت ضغط من القوة اليوم لن يقبل أداءها غدا، وسيحطم قيودها عند سنوح أول فرصة، ولم يرض بها إلا بعد أن قهرته حكومة شديدة أزالت دولا من الوجود وغنمت تيجان ملوكها وقذفت بهم في العراء وقضت علي ما كان لديهم من مدنية وحضارة. ولقد تعلمنا من المستعمر أن أغني الأمم هي التي تملك مناجم الحديد والرصاص والنحاس والذهب والفضة وكل هذا متوفر بكثرة في بلاد البجه، التي كان أهلها يقاتلون ويحاربون الغزاة الأوائل من الفراعنة والبطالمة والرومان وغيرهم. ولله در الملك كنون الذي رأي أن مصلحة أهله وعشيرته تمزيق تلك القصاصة من الورق بالسيوف البواتر. وتقوم حكومة الإنقاذ (1999) بنهب ذهب البجه لمصلحتها.

قتال البجه للعرب عام 847م ـ 861م وأسطورة علي بابا:

وفي خلافة جعفر المتوكل علي الله بن المعتصم، غزا البجه صعيد مصر وقتلوا من وجدوه بالمناجم من المسلمين، وتقاعس جعفر عن غزوهم وتوالت السنون وكثرت الشكوي. ولما كثر القتل في المسلمين العاملين في مناجم الذهب هجروها فانقطع بذلك ما كان يؤخذ للسلطان بحق الخمس من الذهب والفضة، فولي المتوكل محمد بن عبد الله القمي محاربة البجه وولاه معادن تلك البلاد، واشتبك جيش المسلمين بالبجه بقيادة ملكهم علي بابا (أولباب) واستمرت الحرب سجالا حتي استعمل العرب الخدعة بوضع الأجراس علي أعناق الخيل، فنفرت جمال البجه من كثرة الضوضاء وذلك في عام 241هـ. وطلب ملك البجه التفاوض، وعاد مع جيش القمي لبغداد وترك علي ملك البجه ابنه (فيعس) ثم عاد علي بابا معززا مكرما من بغداد بعد أن وقع إتفاقية مع المسلمين تنص بانتفاعهم بمناجم الذهب، والملك علي بابا هو من قبيلة (بلي) التي يقال لها بالبجاوية (بلويب) وبالبني عامرية (بلو أو بلاوي) وهذه القبيلة كانت لها السيادة علي البجه. ويقول المؤرخ الأستاذ ضرار صالح ضرار في كتابه (هجرة القبائل العربية) إن قصة كنوز علي بابا في الأدب العربي جاءت من الملك علي بابا هذا. وتذهب الدكتورة نادية بدوي في كتابها (حلايب) لتأكيد هذه الرواية حيث تذكر أن سكان المنطقة يتحدثون عن مغارة ملكهم علي بابا المليئة بالذهب والمجوهرات والتي حاول عدد من المغامرين كشفها والاستيلاء علي محتوياتها.

وفي أواسط القرن الثالث للهجرة كان تنازع السلطة بين رجلين من قريش ببلاد البجه والنوبة علي أشده وهما العلوي إبراهيم بن محمد من ذرية عمر بن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عبد الحميد العمري.

واشتبكا بجيشيهما في قتال شديد، ثم انهزم العلوي واختلف مع أصحابه فانشقوا عليه وعادوه فتركهم ومضي لميناء عيذاب فأجاره نائب ملك البجه وأعدّ له سفينة أبحرت به وأهله إلي جدة ومنها ذهب إلي مكة، وهنا خلا الجو في بلاد البجه والنوبة للعمري.

البجه والعرب عام 869م:

في هذا التاريخ قدم علي البجه أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد العمري بعد محاربته للنوبة ومعه ربيعة وجهينة وغيرهم من العرب فكثرت بهم العمارة في بلاد البجه ـ ومالت البجه إلي ربيعة وتزوجوا منهم. وقيل أن البجه تحالفت مع ربيعة علي قتل العمري وأخرجوا كل من خالفهم من العرب وحرموه من التنقيب في ديارهم.

وتصاهرت ربيعة مع رؤساء البجه (البلويون) وبذلك كف ضررهم عن المسلمين. وفي عام 873م غزا البجه مصر مرات عديدة، وكان علي مصر آنذاك عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فخرج كامنا للبجه، وقتل مقدمتهم ودخل بلادهم ونهبها وتابع عليهم الغارات حتي أدوا إليه الجزية التي لم يدفعوها من قبل.

ومن أشهر ملوك البجه الملك بشر بن مروان بن اسحق وأمه من ربيعة. وبسط أمراء هذا البيت نفوذهم علي ممالك البجه المترامية الأطراف من مصوع حتي جنوب أسوان وتولوا حكوماتها بتقليد من مصر وكان يلقب أمير البجه (الحدربي) وبقوا علي هذه الحالة حتي آخر عهد المماليك. وفي عهد الملك داود ملك النوبة قام بتمير ميناء عيذاب وأخذ سكانها أسرى إلى دنقلا ولا زالت بقاياهم هناك وفي منطقة الشايقية يعرفون باسم عايدابي.
أما الأمير سمرة بن مالك فلقد كان في أيام دولة الناصر قلاوون وأنه كان أميرا جليلاً ذا عدد جم وشوكة ملكية يغزو الحبشة وأمم (السودان).

وبقيت مملكة البجه في العائلة الحدربية إلي عهد السلطان سليم عام 923م حيث أمر بسلخها عن تركيا وولي عليها أمراء واتبعها لمصر وكذلك سواكن ومصوع حتي عام 1841م حيث تم ضم بلاد البجه (للسودان) الذي كان يحكم من قبل حكومة الخديوي محمد علي باشا، وذلك بعد زوال مملكة الفونج التي ظهرت عام 910هـ واستولت علي بلاد البجه عام 1000هـ تقريبا برئاسة عجيب المانجلوك ثاني وزراء العبدلاب وكانوا يصاهرون نظار القبائل فإذا رزقوا ولدا جعلوا الرئاسة له باهدائهم له كل الملابس والمراسيم حتي يضمنوا عدم ثورة القبيلة عليهم. وفي عام 1865م ضمت سواكن ومصوع إلي (السودان). وخفضت سلطة أميريهما إلي (عموديتين).

ممالك البجه:

منذ فجر تاريخ (السودان) الشرقي كانت هناك أمتان ظاهرتان في حوادثه، فكانت الأمة الأولي هي التي تسكن في حوض نهر النيل ببلاد النوبة والتي سميت ببلاد كوش أو النوبة وغير ذلك من الأسماء التي اشتهرت بها. أما الأمة الثانية فهي أمة البجه التي كانت تجوب الصحراء الشرقية نحو البحر الأحمر. وانقسمت البجه إلي عدة ممالك متفرعة عن مملكتها الرئيسية وكانت دائما تقف صفا واحداً وسداً منيعا ضد المغيرين من المستعمرين والمعتدين وبالإضافة إلي ذلك فإن مملكة البجه درجت علي انتهاك حرمات الحدود المصرية.

علي أن الزمان فعل فعله في وحدة ممالك البجه حتي أنه لما زارها ابن حوقل قبل ألف عام لم يجدها متحدة في مملكة واحدة بل وجدها قد انقسمت إلي خمس ممالك لكل منها حدودها وسلطانها وهذه الممالك هي:-

1) مملكة ناقص: وهي تبدأ شمالا من أول الحدود المصرية وفي غربها أسوان.

2) مملكة بقلين:وهي تقع بين خور بركة وساحل البحر الأحمر المجاورة لمملكة جارين.

3) مملكة بازين: وهي تقع بين مملكة علوه وبقلين.

4) مملكة جارين: علي السواحل الجنوبية حتي جبل رورا (بقله) قرب مدينة نقفه باريتريا.

5) مملكة قطاع: تبدأ من مدينة نقفه حتي سمهر (مصوع).

ومن يتأمل هذه الممالك علي الخريطة يجد أن قبائل البجه الخمس الآن قد ورثت أراضي هذه الممالك، كما ورثت ألقابها، فقد كان زعماؤها يحملون لقب ملك ولهم مظاهر خاصة في خلق الشعور العام نحو وظائفهم الملكية، فقد كان لكل ملك منهم كرسي للحكم عرف في (السودان) باسم (ككر) وهو العرش الذي يجلس عليه الملك أما رأسه فقد كان يغطيه بتاج أو طاقية من الذهب تسمي (أم قرين) ويصحب ذلك من شعارات الملكية سيف أوروبي صقيل ونقارة (طبل) يقرع في المناسبات وعند الأزمات. ولم يفقد هؤلاء الملوك ألقابهم الملكية إلا بعد أن فتح محمد علي باشا بلاد البجه عام 1841م فأزال استقلال البلاد والملك وألقابه وأبدلها بكلمة ناظر قبيلة وما زال هذا اللقب مستعملا لزعماء القبائل الكبري حتي الآن.

لقد ورثت قبائل البجه الحاضرة ممالك أسلافهم السابقين وأصبح الموقف الآن كما يلي:ـ

1) قبائل البشاريين ويسكنون في منطقة مملكة ناقص.

2) قبائل الأمارأر وهم يعيشون في منطقة مملكة بقلين.

3) قبائل الهدندوة وينتشرون في بقاع مملكة بازين.

4) قبائل بني عامر ومواطنهم علي السواحل الجنوبية (مملكة جارين).

5) قبائل الحلنقة ويقطنون في كسلا وما حولها.

البجه والصليبيون:

وفي عام 578هـ طمع البرنس رانود (أرنولد) صاحب الكرك بالشام بالاستيلاء علي أراضي الحجاز وأبحر بالسفن نحو عيذاب، وقتل أهلها وأحرق تجارتها وقطع طريق البحر والبر علي المسلمين وأبحر نحو الحجاز وأبحر خلفه الحاجب حسام الدين لؤلؤ فتعقب الصليبيين في عيذاب ثم في ميناء رابغ بالسعودية فأدركهم هناك فأوقع بهم جميعا.

البرتغاليون في البحر الأحمر:

قام الأسطول البرتغالي عام 1516م بزيارة استطلاعية لميناء سواكن تحسبا لأي اشتباك مع الأسطول المصري. وفي هذا الأثناء كانت جيوش سليم تتقدم في الشام لاحتلال القدس ثم مصر.

وبعد هزيمة البرتغاليين للأسطول المصري الذي أرسله السلطان الغوري سمع البرتغاليون بزحف السلطان سليم علي مصر. وفي سبيل محاولة منع السلطان سليم عن الاستيلاء علي البحر الأحمر. اتصل البرتغاليون بالأسبان كما عرضوا علي فرنسا استعمار ميناء سواكن واستطاع البرتغاليون تحويل الصراع في البحر الأحمر إلي صراع صليبي إسلامي بعد استئذانهم من البابا يوليوس الثاني في عام 1505م لإعلان الجهاد في سبيل المسيحية، وصارت مدينة السويس تحت إمرة الأميرال استيفان دي غاما وميناء سواكن تحت إمرة الأميرال دون جوان دي كاسترو.

البجه والفونج عام 1508م:

تمكنت القبائل العربية النازحة إلي (السودان) بالتحالف مع عرب القواسمة (السودانية) من اسقاط آخر الممالك المسيحية في (السودان) عام 1504م. وكان لزعامة الفونج عمارة دنقس ولرئاسة عرب القواسمة عبد الله جماع، وأصبح السلطان في يد الفونج والوزارة في يد عبد الله جماع وذريته. وأقام الفونج عاصمة لهم مدينة سنار علي النيل الأزرق.

وامتدت سلطة مملكة سنار إلي سواكن علي أيام عمارة دنقس واشتبكت جيوشها مع أمير سواكن وهو من الحدارب الذين انهزموا ورحلوا من سواكن وتفرقوا في البوادي المحاذية لجبال سنكات وأركويت. وقلّد قائد جيوش الفونج وهو من العبدلاب الأمير عبد الله بوش الأرتيقي أميرا علي مدينة سواكن وخضعت بادية البجه لحكم الفونج إلا قبائل الهدندوة، فانهم تحصنوا في الجبال وامتد نفوذ الفونج حتي مدينة مصوع جنوبا. وسافر ملوك البجه إلي سنار لتقديم الطاعة والولاء، وعادوا يحملون تفويضا بالاستمرار في حكم قبائلهم وجمع الزكاة وتسليمها لسلطان سنار. كذلك منحهم السلطان كساوي شرف وسيوفا تمنح لعمد ومشايخ قبائل البجه.

وفي عام 1560م زار الشيخ عجيب المانجلوك ابن الشيخ عبد الله جماع كبير وزراء دولة سنار سواكن وهو في طريقه إلي أرض الحرمين.
وأثناء إقامته بسواكن طلب الشيخ عبد الله جماع مصاهرة الأمارأر، وتم له الاقتران بابنة الشيخ عشيب بن عمار شقيق ناظر قبائل الأمارأر وكانت هذه عادة وزراء العبدلاب إذ يصاهرون القبائل ثم يجعلون النظارة في ابنهم من بنت القوم، وهذا ما حدث في قبائل الحلنقة بمنطقة كسلا والأمارأر بجوار مدينة بورتسودان إذ بعد أن رزق الشيخ عجيب ولده عثمان من ابنة الشيخ عشيب أرسل لابنه سيفا صقيلا وطبلا وطاقية من الذهب وكرسي الحكم (ككر) وثيابا وخيلا وأمر بأن يكون ناظرا علي عموم قبائل الأمارأر. وبهذه المصاهرة توثقت عري الولاء بين السلطنة الزرقاء والأمارأر الذين تزوج الشيخ عثمان عجيب بابنتهم. ومن ثم أطلق علي نسله الأتمن نسبة إلي عثمان.

البجه والأتراك:

بعد أن استولي السلطان سليم العثماني علي الخلافة أرسل قائده سنان باشا لتطهير البحر الأحمر من البرتغاليين واشتبك سنان باشا بالبرتغاليين عام 937هـ وهزمهم واحتل جدة ومصوع وزبيد اليمن والحديدة وموخا وزيلع وسواكن. وترك في كل مدينة موظفا تركيا ينوب سلطة والي (حاكم عام) الحجاز أما السلطة الإدارية فتركها للوطنيين.

وفي سواكن لم يكن للمحافظ التركي غير تحصيل الرسوم الجمركية. وكانت أسواق سواكن التجارية تحت سلطة الأرتيقة الذين كانوا يتحصلون الزكاة من حصة الجمرك وأموال الأهالي، ويدفعون منها لمندوب ملك الفونج نحو ألف ريال تركي سنويا. وكان المحافظ التركي مسئولا عن جزيرة سواكن أما الداخلية فقد كان مسئولا عنها أمير الأرتيقة بمقتضي فرمان (وثيقة من السلطان العثماني) واستمرت بعض بادية البجه تحت سلطة ملك سنار اسمياً مع تمتعها بالحكم الذاتي الكامل.

ولم يهتم الأتراك بسواكن وأحوالها التجارية أو العمرانية بل جعلوها قاعدة حربية يجب أن تبقي تحت الدولة العلية، وأن يخفق فوقها العلم التركي وبقيت كذلك حتي نشب القتال بين تركيا واليمن فأصبحت سواكن استراحة للجيوش الذاهبة للقتال والجرحي العائدين من حومة الوغي ويبقي الأخيرون نهائيا فيها بعد شفائهم.

وفي عام 1864م طلب الخديوي محمد علي باشا أن يضم إلي أملاكه سواكن ومصوع فوافق السلطان العثماني علي أن تعودا إلي إدارة الحجاز بعد وفاة الخديوي الذي اتخذهما قاعدتين حربيتين وتجاريتين لتصدير كل حاصلات (السودان) والحبشة وعين في كل من المدينتين محافظا من قبله وأمرهما باستعمال نقوده فيهما مع النقود السلطانية التي كان الأهالي يفضلونها علي المصرية.

بعد أن تم لجنود محمد علي باشا السيطرة علي شمال (السودان) بما في ذلك أراضي مملكة الفونج وكردفان، كانت لا تزال بعض الأراضي الواقعة في شرق (السودان) تتمتع باستقلالها وهي أراضي الهدندوة والبني عامر والحلنقة والأمارأر والبشاريين، وبتعبير آخر فهم كل قبائل البجه، وكانت هذه الأراضي ملجأً لبعض الهاربين من ضرائب الحكومة فرأي حكمدار الخرطوم من قبل مصر، أن الوقت قد حان لضمها (للسودان) المصري وساعده في ذلك أن الاستعدادات الحربية أصبحت متوفرة مع توقف المناوشات التي كانت بين الجيوش المصرية والحبشية، لذلك بدأ الحكمدار أحمد باشا أبو ودان في غزو أراضي الهدندوة والحلنقة وهي التي كانت تسمي التاكا. وكان لذلك الهجوم سببان أولهما توسيع رقعة (السودان) والثانية جلب ضرائب جديدة من أراضي البجه وخاصة ماشيتهم وإبلهم.

بدأ الهجوم علي البجه عام 1840م وشهدت أراضي القاش مواقع حامية بين الهدندوة والجيش المصري انتهت بخسائر من الطرفين، لكن فعل الرصاص كان أقوي من فعل سيوف الهدندوة ورماحهم، ولم يجد زعيم الهدندوة محمد دين بدا من الاستسلام آخر الأمر وهو ينوي أن ينقض علي الغاصبين في أول فرصة. وطلب منه أبو ودان أن يدفع ضرائب باهظة واعتذر فأخذه رهينة حتي لا تتكرر هجمات الهدندوة علي جنوده.

لكن ذلك لم يثنهم عن الخروج عليه والاستمرار في مهاجمته، حتي اضطر إلي أن يعقد معهم صلحا مكتفيا منهم بضرائب اسمية. وعاد آخر الأمر إلي الخرطوم يحمل معه محمد دين حيث توفي هناك. وجعل أبو ودان حامية مصرية في منطقة كسلا وبذلك تمكن من السيطرة علي كل من قبائل الهدندوة والحلنقة.

عرف محمد علي أن بلاد البجه في شرق (السودان) لا يمكن أن تخضع لسلطانه إلا إذا امتد إلي المينائين اللتين علي البحر الأحمر وهما سواكن ومصوع، لذلك دأب للحصول عليهما من السلطان العثماني في تركيا وتكللت مساعيه بالنجاح في عام 1843م حين استأجر سواكن من السلطان العثماني. وفي عام 1846م تم استئجار مصوع أيضا علي أن يدفع الأجرة سنويا وتكون قابلة للتجديد كل سنة.

أما سواكن فإنها وضعت الجزء الأكبر من القبائل البجاوية بتجارتها وأملاكها تحت سلطان خديوي مصر وطوقت مصوع القبائل البجاوية التي تسكن علي سواحل البحر الأحمر وبذلك انقطع أمل الفارين من ضرائب الحكمدارية إلي تلك الأصقاع.

ومن الجدير بالذكر أن أحمد باشا أبو ودان هو الذي سعي إلي ضم هذين الثغرين إلي حكمدارية (السودان) ولعل هذا هو أول استعمار حقيقي يتعرض له البجه سكان شرق (السودان)، وهكذا بدأ عهد طويل من الاستعمار.

وفي العام 1883م ثار البجه بقيادة الأمير عثمان دقنه، ضمن الثورة المهدية، ضد الاستعمار التركي البريطاني. واستطاع البجه هزيمة الجيوش التركية واجلائها عن بلادهم. وتدخلت بريطانيا في الحرب ضد البجه بجيوش جرارة مزودة بأحدث الأسلحة الفتاكة، ولكن البجه هزموها أيضاً وحطموا أسطورة المربع الحربي البريطاني. وأشاد شاعر بريطانيا روديارد كبلنغ بانجازهم هذا في قصيدته المشهورة (فظي وظي). ولكن في العام 1900 تم أسر الأمير عثمان دقنة بعد زوال دولة المهدية، وعادت بلاد البجه خاضعة للاستعمار البريطاني. ولم يستسلم البجه للاستعمار فناضلوا ضمن التنظيمات المتاحة آنذاك. واشترك البجه في مؤتمر الخريجين حيث كان رئيس فرعه في بورتسودان مؤرخ البجه الأكبر. وفي العام 1924 قاد البجه مظاهرات ضد بريطانيا في بورتسودان وغيرها. أما في العام 1948، فقد كانت مظاهرات البجه أكثر دموية حيث ثاروا ضد الجمعية التشريعية الاستعمارية واستشهد عدد من شبابهم. واشترك شعراء البجه في النضال شعراً فكانت قصيدة الشاعر الرائد محمود أبوبكر (صه يا كناراً) هي شعار الاستقلال.

اللغة البجاوية:

سادت اللغة البجاوية في كل بلاد البجة، ولا بد أن عراها بعض التغيير بسبب التطور الطبيعي للغات. ومن المعتقد أنها من اللغات الحامية (كوشية)، كما أن لغة البني عامر تعتبر من اللغات السامية (الجيزية من اليمن، وذكر باحث بأن 80% منها عربي)، وذكر نعوم شقير نقلا عن لبسيوس من أن اللغة البجاوية هي لغة مروي القديمة. أما الدكتور هيس الألماني الذي كان مقيما بمصر لدراسة اللغة النوبية فيقول (إن اللغة البجاوية هي لغة مروي القديمة) بدليل أن بعضا من كلماتها الأساسية مثل الماء والنار والأرض تشابه ما ورد من الأسماء في تاريخ مروي، وتعني كلمة مروي (مير أوي) بالبجاوي الشتاء الطويل، ووجود اسم بجاوي لمدينة المتمة (مأتمة ومعناها المركز)، وشندي (شئن دا وتعريبها أناس كبار)، والدامر (دامر) ومعناها الموطن، وعتمور (أتمور) معناها الصحراء، وأتبره ومعناها بحر اللبن وجبل (ميلكيت) جوار قرية قري (ومعناها الملح). بالإضافة إلي أن القبائل الفرعية تستعمل خاتمة آب في أسمائها، وهي مقتبسة من كلمة (دواب) وتعني فرع من القبيلة. ويدل الاسم الانجليزي للصمغ (العربي) (Erraby) وكأنه مأخوذ من اللغة البجاوية وتعني (الناصع البياض). كذلك فإن بعض الكلمات البجاوية تتطابق مع بعض الكلمات الهيروغلوفية وذكرنا أمثلة ذلك في مكان آخر. ومنها أن اسم كوش (السودان) مستمد من (كش)، وتعني أسود بالبجاوي.

وكتابة اللغة البجاوية بالحروف العربية لا تحتاج إلي معاناة فإن العرب وغيرهم من الأمم التي غزت ديار البجه كانوا يترجمون المعاهدات إلي اللغة البجاوية كلمة كلمة، وللأستاذ محمد أدروب أوهاج محاولات فيها. كذلك قام إداري بريطاني (روبير) بكتابة اللغة البجاوية بأحرف لآتينية، ووضع كتاب لتعلمها بهذه الحروف. أما اللغة البني عامرية فهي سهلة الكتابة بالحروف العربية وقد استعمل أهل إريتريا الحروف العربية في كتابتها.

وبالرغم من نزوح العرب إلي بلاد البجه منذ أكثر من ألف عام فإن اللغة العربية لم تستطع التغلب علي اللغة البجاوية لأن هجرة العرب كانت بأقليات بشرية وربما كان أكثرهم من الرجال، واضطروا للتزاوج من البجه فنشأ أطفالهم بين أحضان أمهاتهم البجاويات يتكلمون بلغتهن في كل شيء وهذه سنة لغة الأم. وحاولت قبائل بلي الإحتفاظ بلغتها العربية بين الأغلبية البجاوية، ولكن طمست معالم لغتهم العربية ولم يبق منها إلا النسب إليهم في لفظ بلويب.

وفي اللغة البجاوية شعراء كثيرون وكذلك باللغة البني عامرية، كما توجد حكم وأمثال تستعمل عند اجتماع الرؤساء والشيوخ، وربما كان أكثر كلام الشيوخ باقتباس أبيات شعرية أو قول مأثور عن بعض مصلحي البجه، والشعر البجاوي يتألف من أربع شطرات موزونة ولا يتعداها. وإذا أراد الشاعر الإطالة فلا يلتزم القافية إلا في كل بيتين أو أربع شطرات، وكذلك في البني عامر عندما يريد الشاعر الاطالة. وبعض الشعراء في قبائل بني عامر والحباب ينظمون القصائد الطويلة ويلتزمون في كل شطرة منها الروي والقافية وقد تبلغ القصيدة سبعين بيتا. وأكثر الأشعار في الغزل والحماسة، ومدح الشجعان البجه السابقين. وتوجد نقائض بين بعض الشعراء في المدح.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click