المعتقل رباط الحسن إبراهيم - أشواق بطعم الأمنيات

بقلم الإعلامي الأستاذ: محجوب حامد آدم - صحافي وكاتب ارتري

كان ذلك في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بداية عهدي بالتعليم، حيث كنت أعمل مدرساً

رباط الحسن إبراهيم

في مدرسة (ليبنا) الإبتدائية في ضاحية (جنقرين) الوادعة. أتحرك كل صباح من مدينة كرن بداية كُلُّ إسبوع لأعود عند نهايتة لقضاء العطلة الإسبوعيِّة في كرن.

روتين ثابت تتخلله الكثير من الهمة، عمل متواصل وأنشطة وبرامج متنوعة ومكثفة نضيفها أحياناََ كعمل طوعي نتناوبه فيما بيننا، وبروح تلقائية طيبة مع زملائي المدرسين الأوفياء.

كنا نستمد هذه الطاقة الإيجابيِّة بروح التعاون المشترك، من الحبُّ الذي نكنٌه لهذا الشعب الصبور الذي عانى كثيراً في سبيل نيل كرامته، ووجب عليه الإستمتاع بحريّته التي لا تزال طازجة علي أفواه الناس آنذاك.

تتحرك سيارات (البكاسي) المتجهة إلى (جنقرين وحلحل) من قبالة بنك كرن القديم في ذلك الشارع المؤدي إلى مقابر الطليان، تلك التى تضم رفات ضحايا معركة (كرن) في نهاية الحرب العالمية الثانية.

ربطتني بهذا الشارع علاقة جيدة، وذاكرة تضج بوضوح أمامي، بحكم معرفتي بالمكان، وأنه أكثر الشوارع التي أتردَّد عليها، أعرف تلك الملامح، وجوه المارة العابرين من هناك، وفي كثير من الأحايين أتجول هائماً في تلك الشوارع دون وجهة محددة، مستمتعاً ببساطة الناس وأحاديثهم، و التطلع في واجهات المتاجر القديمة ذات الطراز العثماني الفريد في تصميمه، كل هذا وأنا وأنا أجمع وألملم ما لدي من ذاكرة وذكريات، مع مدينتي التي أحب.

ذات مساء وأنا عائد من (جنقرين) نهاية الإسبوع، بعد أن إنتهى بنا مشوار سيارة (البوكسي) عند نهاية ذلك الشارع، أخذتُ بعضي وأنا أسير وحيداً، وفي أثناء عبوري لإحدى نوافذ المحلات المطلة على جنبات الشارع، أذ طرق لسمعي صوت يعلو بواحدة من أغنيات الموسيقار السوداني (محمد الأمين)، فوجئت في بداية الأمر، ثم عدلت وجهتي من جديد وعدت دون أن أدرى إلى حيث الصوت يدفعني جنوني وولهي بهذا المبدع، لينتهى بي المطاف أمام لافتة تحمل إسم (بوفيه سبورت).

عرفتُ فيما بعد سِرُّ التسميِّة وأنا أبحث عن مكانٍ مناسب وسط هذه الأناقة. مكان دافيء، جميل، تتوزع فيه صور لرياضيين محليين و عالميين، كؤوس و ميداليات معلقة على الجدران بروعة وإتقان مدهش.

أخذتُ مكاني بهدوء، وأنا أستمتع بأغنية (عويناتك) وأرتشف قهوتي (الماكياتو الإيطالي) ذات النكهة المميزة.

على طاولة الحساب، و بالقرب مني يجلس شاب وقور يضع على شفتيه إبتسامة هادئة تضفى للمكان ألق خاص. توقفت الأغنية فجأة، ودون أن أشعر قلتُ بصوت مسموع:

لا، وسرعان ما تداركتُ الإحساس بالحرج من فعلتي هذه - لكنه أعاد لي توازني وهو يعيد تشغيل الأغنية من جديد بذات الإبتسامة الهادئة والوقار.

من يومها وأنا أكثر التردَّدَ على هذا المكان كلما سنحت لي الفرصة، ونفس وذلك الشاب يستقبلني بإبتسامته ووقاره وأغنياتي المفضلة.

بهذه البساطة فتحت لي أغنيات الموسيقار (محمد الأمين) باباً جديداً من أبواب الصداقة، تعرفتُ من خلاله على الشاب الوقور الإنسان (رباط الحسن إبراهيم).

منذ ذلك الوقت المبكر توطدت علاقتنا، إلى صداقة أخوية حميمة وطيِّبة.

مع مرور الوقت تم نقلي إلى مدينة كرن، وتوسعت مساحة هذه العلاقة الطيبة شيئاََ فشيئاََ، تجاوزت حدود لقاءاتنا المشتركة في السوق العام، وملمات المقاهي، إذ كان يزورني في داري ويدعوني إلى داره، وتعرفتُ على أهله وعائلته وأقربائه و أصدقائه، أصبحنا أخوة وأصدقاء وأهل.

لاحقاً عرفتُ أن (أسرة رباط) هي واحدة من الأسر التى نجت بقدرة إلآهيُة من مذبحة (عونا) الشهيرة. وقد أخبرتني والدته متعها الله بالصحة والعافية، عن القصة العجيبة، والطريقة التي نجت بها الأسرة من تلك المذبحة، ونصيبها من الرصاصة التى كادت أن تقتلها لولا لطف العناية الإلآهيُة التى أنقذت حياتها، وكانت إصابتها فقط في أحد فكيها - هذا حديث طويل سوف أفرد له مساحة خاصة إن شاء الله.

في كرن إلتقيت برفقة وصحبة طيبة معه ومع الأخ (عبدالقادر شيخ زايد) والمربي الجليل (عبدالعزيز محمد على زرؤوم) فك الله أسره. وجمعتنا الكثير من البرامج الرياضية والثقافية والإجتماعية، ورحلات وأسفار وطقوس متعددة لا تزال تسكن غضاريف الذاكرة بذات القدر من الحب والوقار والجمال.

كان الأخ (رباط الحسن إبراهيم) مولعاً بالرياضة، ومهتماً بها وتشغل حيُزاً كبيراً في حياته، تشهد له إنجازاته التي حقَّقَها على مختلف الصعد في هذا المجال، خصوصاً عندما تولي رئاسة نادي عنسبا، وإستطاع أن يُحقَّقَ معه الكثير من الإنتصارات، حيث تَصَدَّرَ بطولات محليِّة وحصد عدد من الكؤوس والجوائز، بل تجاوز ذلك بكثير أذ توج نادي عنسبا الكرنيِّ بطلاً لإبطال أنديُة إرتريا بعد أن إكتسح نادي دندن العاصمي موسم 2003 ليكون بذلك أول فريق إرتري خارج العاصمة يُحقِّق فوز المشاركة في بطولة إقليميُة، (دوري أبطال أفريقيا) ب (رواندا) عام 2004.

كل ذلك لم يُلهيه عن عمله وأسرته. فقد كان رجلاً ناجحاً ونبيلاً، يدير عدداً من المحال التجاريِّة ويسخر ماله في رعاية أهله وأسرته، بل كان إنساناً معطاءاً ينفق بيمناه ما لا تراه يسراه، يُساهم في أعمال البر والخير ويرعي الكثير من الرياضيين والطلاب وتجده أينما وجد العون.

(رباط الحسن) الرجل الطيِّب الذي أعرفه؛

شعلة من النشاط والحيويِّة، ينجز بإخلاص أينما وجد. عمل في عدد من اللجان في مدينة كرن، فقد كان عضو لجنة مياه مدينة كرن، وعضو اللجنة الرياضية باقليم عنسبا، بجانب عضويِّته من ضمن لجنة الإحثتفالات الوطنيِّة، و لجان الصلح وغيرها من اللجان التي تعمل في خدمة ونهضة المجتمع.

داهمني أحد الأصدقاء في نفس المساء الحزين بنبأ إعتقاله، ليلة 2005/11/24 وأنا في طريق عودتي إلى البيت.
كان وقع الخبر صادماً ومؤلم. لم أصدق ما سمعتُ حينها، فأنا أعرف الرجل عن قرب. خرجت صباح اليوم التالي مستفسراً عما حدث، فقد علمت بالحملة التي طالت عدد من الشرفاء بعد أن تم إعتقالهم، لتضاف منذ ذلك الوقت قصتة وزملائه إلى آلاف القصص المحزنة من المغيبين قسراََ في زنازين النظام في إرتريا.

الحديث طويل عن أخي (رباط الحسن إبراهيم) مثل تلك السنوات الطوال الضائعة في الغياب، التي تشكل ذلك الحزن العميق عما يجري بلا مبررات في بلادي، وتسقط الأسئلة من غيرأقنعة تائهة في الإجابات، مكتوفة الأيدي بلا جدوي، ويرجع الصدى لا يحمل سوى الوجع.!

فك الله أسره وأعاده سالماً،
لوالدته وزوجته وأبنائه وأهله.

Top
X

Right Click

No Right Click