قراءة جديدة للتاريخ: فترة تقريـر المصيـر - الجزء الأول

بقلم الأستاذ: عمر جابر عمر - ملبورن أُوستراليا

الحركات السياسية - الرابطة الاسلامية: تأسست في 4-12-1942 برئاسة السيد/ بكري عثمان الميرغني

باعتباره راعيا روحيا والشيخ/ ابراهيم سلطان علي سكرتيرا عاما، وكانت مدينة "كرن" مقرا للحزب، كانت الرابطة تدعو الى وحدة واستقلال ارتريا.

كان جميع اعضاء الرابطة من المسلمين - ومراكز نشاطها: كرن - اغردات - مصوع - تسنى - عصب وبالطبع أسمرا وكذلك مندفرا.

تلك هي مرة اخرى الصورة العامة التي يحفظها الارتريون ولكني كنت ابحث عن اجابة لسؤال ظل يلازمني لسنوات طويلة. وحينما خرج الشيخ/ ابراهيم سلطان الى المنفى وأقام في القاهرة، اتيحت لي الفرصة ان اقابله مرات عديدة وان اجري معه مقابلة صحفية.

سألته مرة: كيف امكن للرابطة الاسلامية ان تواجه كل تلك التحديات الخارجية (اثيوبيا واوربا وامريكا) والداخلية (حزب الوحدة) دون مساندة من اي جهة خاصة وان الخلفية السودانية أثرت الابتعاد عن الشأن الارتري؟

ابتسم الرجل وكان ينظر الي كابن اخيه وزميل صباه وقال: سأقول لك أمرا - ذات يوم استدعاني الحاكم الانجليزي في أسمرا وقالي لي: نحن على استعداد لمساعدتكم - سواء كان بطبع بياناتكم او حمايتكم من خصومكم وافساح المجال لكم للتحرك دون قيود"! وفي محاولة لاستخراج المزيد من المعلومات قلت: "ولكن ذلك يمكن أن يفهم في اطار ممارسة الديمقراطية وحق كل طرف في التعبير عن رأيه وهي سياسة كانت بريطانيا حريصة على تطبيقها".!

لوح الشيخ بيده وقال: لا... لا لم تكن بريطانيا حريصة على الديمقراطية كان همها عرقلة المشروع الاثيوبي وعدم ضم ارتريا الى اثيوبيا" ومرة اخرى تدخلت وقلت: وحتى هذا يمكن ان يخدم طموحات الارتريين وبالتالي فقد كان امرا يستحق التقدير ولكنه قاطعني وقال: اسمع يا ابني - بريطانيا لم يكن همها غير السودان، كانت تعتبر السودان قاعدتها الافريقية الاساسية ولهذا كانت تريد من مسلمي ارتريا الابتعاد عن اثيوبيا والانضمام الى السودان - لماذا ؟ لان لهم في السودان "عدو" تاريخي يتمثل في "المهدي" واذا انضم المسلمون من ارتريا الى السودان فسيكونون قوة اضافية الى "آل الميرغني" وهذا بدوره يضعف "آل المهدي" والدليل انه بعد ان وجدت بريطانيا ان "الرابطة الاسلامية" متمسكة بالاستقلال لجأت الى شقها (شرقية وغربية) وطرحت مشروع التقسيم!.

وهنا أبديت ملاحظة وقلت: ولكن الانجليز فيما بعد وقفوا مع آل المهدي في السودان في مرحلة تقرير المصير ؟ قال الشيخ الذي لم تضعف ذاكرته رغم تقدم العمر: ذلك كان بسبب ظهور "خطر " جديد - هو الثورة المصرية عام 1952 وبروز عبدالناصر، ووقوف "آل الميرغني" مع المصريين تحت شعار "وحدة وداي النيل"! الانجليز أقدر البشر على تغيير المواقف ويؤمنون بالمثل: عدو عدوي صديقي - لهذا تحالفوا مع آل المهدي!.

والغريب ان عددا كبيرا من المراقبين والمحللين ينظرون الى الشيخ/ ابراهيم سلطان باعتباره "مصلحا اجتماعيا" و "داعية لتحرير التقري" اكثر منه محترفا سياسيا. وحاولت ان أثير معه الموضوع دون ان ينفعل وقلت: ألم يكن ممكنا حل تلك المشكلة باتباع وسائل أقل حدية واللجوء الى الدعاة الدينيين لاظهار حكم الاسلام والتحاور مع هؤلاء "الشماقلي" خاصة وهم مسلمون ؟ أطلق الرجل آهة كمن استنفذ كل الوسائل ولم يجد امامه غير وسيلة "الجراحة" وهي ما يلجأ اليه الطبيب عندما تفشل المسكنات والادوية. قال الشيخ نحن كنا في مواجهة اثيوبيا ومخططات غربية - كنا بحاجة الى كل رجل وكل امرأة في معركة المواجهة. كيف كان يمكن ان يحدث ذلك والالاف مقيدة ارادتهم ومقسمة ولاءاتهم ؟ ثم ان الذي يطالب بالحرية ويناضل من اجلها هو الانسان "الحر" الذي لا يخشى الا الله.

ان استعادة كرامة الفرد وامتلاك ارادته كانت المقدمة الطبيعية والضرورية لتحرير الوطن.

ان تلك الرموز الاقطاعية لم تدرك ان الاستقلال واستعادة الكرامة الوطنية كان يمكن ان يكون في صالحها لو انها تجاوبت مع الدعوة الوطنية - ولكن تفكيرها لم يسعفها على رؤية المستقبل وخرجت من التاريخ! تلك كانت كلماته - ولم أزد عليها غير الترتيب والنقل.

رحم الله الشيخ ابراهيم سلطان - ناضل وعاش من أجل فكرتين: شهد نجاح الاولى في حياته (تحرير التقري) ومات قبل ان يشهد تحقيق الثانية: الاستقلال. وبكل مقاييس زمانه فقد كان عملاقا وطنيا وقائدا سياسيا ومحررا اجتماعيا.

Top
X

Right Click

No Right Click