تراثنا وجه آخر للألم

بقلم الأستاذ: علي عافه إدريس - كاتب ومحلل سياسي ارتري

معاناتنا كبيرة ومتعددة الأوجه لا يهم بأي وجه تنظر لها حتى تجد كم كبير من الألم في انتظارك وليس أقلها إيلاما ما يتعرض له

تراثنا من طمس وتزوير أو اهمال متعمد في أحسن الأحوال.

التراث هو كل ما وصل الأمة من الماضي البعيد أو القريب، وهو جزء أساسي من حضارة وهوية الأمة، والأمم الحية هي من تهتم وتعتز بتراثها لأنه الجسر الذي يربط بين الأجيال السابقة والأجيال الحالية وبقدر متانة ذاك الجسر تكون قوة التواصل بين الماضي والحاضر، و عبر تراثها يتم الكشف عن مدى عراقة الأمة، والتراث هو من ناحية مسألة موروث، ومن ناحية ثانية مسألة معطى واقعي يصنف إلى ثلاثة مستويات:

• مستوى مادي يتمثل في المخطوطات والوثائق والمطبوعات والآثار والقصور والمساجد والأضرحة و الفلكلور والتقاليد والحكم والأمثال.

• مستوى نظري يتحدد في مجموعة من التصورات والرؤى والتفاسير والآراء التي يكونها كل جيل لنفسه عن التراث انطلاقا من معطيات اجتماعية وسياسية وعلمية وثقافية تفرزها مقتضيات المرحلة التاريخية التي يجتازها أبناء ذلك الجيل.

• مستوى سيكولوجي وهو تلك الطاقة الروحية الشبيهة بالسحر التي يولدها التراث في المنتمين إليه.

وفي مقالنا هذا سنتناول ما يتعرض له تراثنا في مستوياته الثلاثة وذلك في ثلاثة محاور هي ـ محاولات الطمس التي يتعرض لها ـ و كيف يتم استغلاله ـ و كيف يجب أن نقاوم ذلك.

فكرة أن أكتب في هذا المجال فكرة قديمة كنت أجلها من وقت لآخر، و ما دفعني لكسر حاجز التأجيل بالكتابة هذه المرة أمرين، أولهما مشاهدتي واستماعي لمقاطع من الأغاني التي قدمتها فرقة أحفاد عواتي التابعة لرابطة أبناء المنخفضات فرع المانيا التي تم تكوينها حديثا والصورة الجميلة التي ظهرت بها الفرقة رغم حداثة تكوينها. وثانيهما مشاهدتي بتاريخ 6 يناير الجاري فيديو يدمى له القلب نشره في الفيس بوك الأستاذ أفندي محمد (Afandy Mohammad)، يعرض ما آلت إليه حال مدرسة حرقيقو التي تم افتتاحها في 12 مارس عام 1944م، المدرسة التي أنشأها الرجل المصلح الباشا صالح أحمد كيكيا رحمة الله عليه، وبالتأكيد ليس هناك مبرر لإهمال هذا الصرح الذي عمره سبعون عاما سوى الرمزية التي يمثلها لنا وواضح أن تلك الرمزية أصبحت تؤذي الآخر، فالمدرسة من ناحية قيمة تاريخية وأثرية ومن ناحية ثانية كلنا يعرف حاجة أرتريا الماسة للمدراس خاصةً المبنى لازال متماسكا ويحتاج للقليل من الصيانة لتدب الحياة فيه من جديد.

أما بشأن الآثارالآخرى و قياسا على ما أصاب مدرسة حرقيقو نجد الصورة أكثر وضوحا في الآثار التي مر عليها أكثر من أربعة عشر قرنا، كمسجد الصحابة برأس مدر، حيث تذكر الرواية التاريخية المتواترة أنه في السنة الخامسة للبعثة النبوية خرج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ميناء الشعيبة بالقرب من مكة باتجاه أرض الحبشة، وكانت منطقة "رأس مدر" في مصوع أول بقعة وطئتها أقدامهم الطاهرة حيث استقبلوا بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى وصلّوا قبل أن يواصلوا رحلتهم براً إلى حيث عاصمة النجاشي، وتخليدا لمكان صلاة المهاجرين الأوائل- تم بناء مسجد في "رأس مدر"، ما زال محرابه ومنبره شاهديْن على مرحلة تاريخية هامة تثير الشجون، ورغم دخول المسجد في مرحلة تالية ضمن حدود ميناء مصوع، إلا أنه ظل مزارا دينيا يؤمه مسلمو أرتريا ومكانا لأداء صلاة العيدين، إلا أن حاله لا يسر بعد أن تم احتواؤه بالميناء وإهماله، فطال الزمن أم قصر سيصبح أثر بعد عين، كما أن هناك مجموعة من المساجد الأثرية التي هي الأخرى طالها الاهمال المتعمد، و هنا أستحسن اقتباس ما ورد بشأن تلك المساجد والآثار في وثيقة العهد الصادرة عن مجلس ابراهيم المختار {وبالنتيجة فإن إدراج الموقعين الأثريين دير(دبري ـ بيزن) الذي بناه أبونا فليبوس عام 1361م، و (كنيسة كداني محرت التي يعود تاريخ بنائها إلى مئتي عام في منطقة صنعفي) إدراج هذين الموقعين التاريخيين في قائمة الآثار الثقافية الجديرة بالترميم ليس مستغربا، بينما لا تتضمن قائمة الآثار الثقافية الجديرة بالترميم أربعة من المساجد الكبرى وهي: (مسجد أبو حنيفة الذي تم بناؤه عام 1203م، ومسجد الشيخ مودوي وتم بناؤه عام 1503م في منطقة حرقيقو على يد الشيخ مودوي، ومسجد حمال الذي بناه الشيخ عمر بن صادق الأنصاري عام1543م، ومسجد الشافعي) أو الأطلال الأثرية في الساحل و دهلك وحتى في عدوليس}، هذا بالاضافة للكثير من المباني العثمانية والمصرية.
هذا القليل الذي استطعنا حصره فالبعد المكاني والتعتيم الاعلامي جعلنا نفتقر للمعلومات بشكل دقيق وهو أمر مؤلم جدا نتمنى تداركه، رغم أن مأساة الاهمال المتعمد قد طالت كل ما يمكن ان يميزنا كمكون اجتماعي وديني أصيل في أرتريا.

محاولات الطمس لدى حكومة الشعبية تتم فيما يخص الآثار يتم بأسلوب الإهمال المتعمد الذي سيؤتي ثماره عبر الزمن كما أن هذا الأسلوب يجبنهم المواجهة المباشرة مع من تبقى من أهلنا داخل أرتريا وهو كذلك أسلوب يتميز بنجاعته لشعب يتكون من مجموعتين ثقافيتين متباينتين فهو يجنب المواجهة المباشرة و من ناحية ثانية يتميز بخطورته، ويضاف لذلك أسلوب وقف وقتل كل مبادرات الخيرين سواء كانت تلك المبادرات من جماعات أو أفراد ارتريين أو غير ارتريين عبر وضع العراقيل والمماطلة في الموافقات.

أما ما تعرض له ولا زال يتعرض له القسم الآخر من المستوى الأول للتراث وهو جانب الفلكلور فهو الآخر أمر محزن وخطير، فالفلكلور يعد أحد دعائم ثقافة المجتمع، لهذا نحن معنيون أكثر من غيرنا بالحفاظ عليه وتدوينه ودراسته وتحليله ونشره، لأن ما يتعرض له حاليا يلعب دوراً نشطاً في طمس شخصيتنا الاعتبارية كمجتمع يتميز عن غيره من المكون الوطني.

تتعدد ألوان التعبير الفنية التي يعبر بها المجتمع عن نفسه وعن أفكاره وآماله ومعتقداته بتعدد الوظائف التي يؤديها كل نوع، وأول الضربات التي وجهت لأغانينا أنها حصرت في غرض ولون واحد وهو الأغنية الوطنية إلا في استثناءات بسيطة كان فيه للأغاني العاطفية، في الوقت أن أغاني المكون الآخر كانت تمارس كل ألوانها من وطني لعاطفي لتراثي لموال وبكثافة ملفتة، بالاضافة للفرص المتاحة في العرض بحيث تستحوذ على تسعين في المئة من مساحة البث، كما أن الأغاني الوطنية حوصرنا في نطاقها هي الأخرى فقدت الكثير من تميزها (كلمات ولحن وأداء) إذا ما قورنت بفترة الكفاح المسلح، أما اللون الشعبي التراثي قد اختفى بشكل يكاد يكون نهائي ففقدنا الاستمرار أو الدوام الذي يربط الماضي بالحاضر الذي اكسب الأغنية الشعبية ديمومتها ومرونتها، لهذا الأغاني الشعبية تكاد تندثر وهي التي استوعبتها الذاكرة الجمعية للمجتمع و تناقلها شفاهة وحفظتها في الوجدان، فتتعددت بتعدد مناسبات المجتمع واختلف شكلها باختلاف الإطار الذي عاشت فيه، كما أن أغاني العمل التي لم يكن لها أي حظ في العرض والاهتمام و الحصول على فرصة للنمو والتطور هي الأخرى اندثرت باندثار العمل الجماعي لأهل القرية، حيث حل بدلا عنه عمل السخرة الجماعية التي غالبا ما تكون مجموعته مكونة من خليط غير متجانس، وأغنية العمل لمن لا يعرفها هي أغنية بسيطة تهدف لتنسيق حركة العمل وزيادة مقدرة العاملين على بذل الجهد لخلق انتظام يوحد حركتهم، فالعمل الجماعي ارتبط بمنافع عملية اكتسبها من الخصائص الإيقاعية التي تحفز العمال على زيادة نشاطهم وتمكنهم من المحافظة على زمن الحركة التي يؤدونها أثناء العمل، ولم يتبق لنا قبل أن ننتقل للمحور الثاني إلا أن نذكر أن كل الرقصات المصاحبة للأغاني أفقدت تراثنا الغنائي روحه وحيويته، فعمعظم الراقصين لا يجيدون الرقصات ومن يجيدها يؤديها بلا روح لأن من يؤدي الرقصات لا ينتمي وجدانيا للتراث الذي تمثله الأغنية ولتقريب المعنى، رقصة السيف التي يؤديها الراقصين مع الفنان العملاق حامد عبدالله (عنجة) أو الفنان طاهر الأمين تكاد تجزم أنها ليست نفس الرقصة التي يؤديها راقصين مصاحبين لفنان يغني نفس اللون من الأغاني في تلفزيون أرتريا.

أما كيف يتم استغلال تراثنا للسيطرة علينا، فالحديث في ذلك محزن، فمن يحكم أرتريا الآن قد أكتشف مبكرا كيف يمكن أن يسيطر على جزء مهم من عماد مجتمعنا، فقد أكتشف تأثير ما يزخر به الفلكلور من مثل ومبادئ وقيم تملك سلطة قوية على مخيلات الأفراد والجماعات التي تعجز عن مقاومة تأثيره عليها، لهذا قام باحتكاره قصد استغلاله في التوجيه السياسي والتعبئة السياسية، فقام في فترة الكفاح المسلح بتكوين الفرق الكبيرة التي كان لتأثير جولاتها في معسكرات اللاجئين تأثير السحر على الشباب وكما أن انتاج أشرطة الكاسيت والفيديو لعب دورا خطيرا في الحشد، ووقتذاك أشرطة الكاسيت تسلسلت إلى أن وصلت الرقم ثمانية وعشرين حسب ما أذكر وكانت تنتج على فترات متباعدة و كانت توزع على مستوى واسع ومهما كثر انتاجها كانت تنفذ بسرعة فالطلب عليها كان خيالي وهذا أيضا ينسحب على أشرطة الفيديو التي وصل تسلسلها للعشرة أشرطة، فكانت لتلك الأشرطة تأثير السحر على الشباب، كما أن مردودها المالي كان ضخما لأنها كانت تباع بأسعار مرتفعة جدا وكانت تنفذ بسرعة لأن الرغبة في اقتنائها كانت قوية لأنها تمثل التراث الذي له تأثير السحر، إلا أن الاقتناء كان يتم بمبررات وطنية ودعم المجهود الحربي، وفي مرحلة الدولة أقام المهرجانات والاحتفالات الكبيرة التي كانت مصيدة كبيرة لشبابنا والتي عجزنا أن نوجد لها حلا.

أما كيف يمكن مقاومة كل ذلك ؟ فالبتأكيد الحل الأنجع هو إزالة الكابوس ونظامه وكل ما يمت بصلة له، إلا أن ذلك غير متاح في الوقت الحاضر على الأقل للأوضاع التي تعيشها المعارضة والمعارضين، لهذا يجب تكثيف تكوين الفرق الغنائية ودعمها ماديا على الأقل في المرحلة الأولى وستعتمد تلك الفرق فيما بعد على إيراداتها من الاحتفالات بل يمكن أن تكون مصدر دخل كبير لمن أراد ذلك من الجهات الاعتبارية، وبهذه المناسبة أوجه ندائي لأحد أعمدة تراثنا الغنائي العملاق حسين محمد علي، ليكون صاحب مبادرة وقائد لها، وكذلك أشد على أيدي أعضاء فرقة أحفاد عواتي التابعة لرابطة أبناء المنخفضات فرع ألمانيا وكل من ساندهم فكرا ومادة، وكذلك كل من شجعهم بالحضور.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click