حوار مع فنان الشرق الأول حامد عبدالله عنجة

بقلم الأستاذ: محمد جميل أحمد - كاتب وناقد صحفي المصدر: صحيفة الخرطوم

قد لا تستعيد اللغة صورتها بأكثر من وجه حين تدّور ذاتها في حركة الكلام، إذا لم تجد تعبيرا متعاليا ينتج لها فنا مرموقا

ينفخ في مجازها روحا تتكشف فيها المعاني بحياة متجددة. ربما كانت علاقة الشاعر مع اللغة هي تلك الطاقة الإبداعية التي تنسج في اللغة خيالا أكثر رقيا عبر الخلق الفني الذي يصنع به الشاعر وعيا جماليا داخل اللغة. فيلعب بذلك دورا كبيرا في تجديدها وتخليدها ضمن الشروط الفنية للإبداع. خصوصا في اللهجات المحكية التي تنتجها مجتمعات المشافهة.

وربما لجهة حفظ اللغة من خلال الشعراء، ربط العرب في جاهليتهم بين الشعر والغناء كأداة جمالية لحفظ الشعر الذي هو حاضن اللغة حتي قال شاعرهم البيت المشهور.

تغّن بالشعر إمّا أنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار´ وفضلا عن الحفظ المادي للغة، يمتلك الشعر خاصية التشكيل الجمالي لمشاعر الجماعة، وضميرها الفني الجمعي، ومن خلال العلاقة الجميلة بين أنتاج الشعر من طرف الفنان وإعادة انتاجه من طرف الجماعة (ألمعجبين - الجماهير) تتجدد اللغة وتستعصي علي الفناء والزوال؛ لذلك كانت قبائل بني عامر والحباب والقبائل الناطقة بلغة التجرى من القبائل القليلة التي تماهى الأول بالثاني والعكس صحيح. بهذه المناسبة تستضيف (الخرطوم) الشاعر والفنان القومي لبني عامر والحباب حامد عبد الله الذي حل ضيفا علي مدينة جدة هذه الأيام لإقامة حفل غنائي كبير بعد نجاح حفله الغنائي / الشعري بمدينة الدوحة في قطر. فالفنان الذي أطل علي الوجود من ناحية (جامبيل) مربع 1 بمدينة طوكر عام 1952، ولد معرقا في الشعر لطرفيه من جهة الأب والأم في عائلة (طحرا) من قبيلة (الألمده) كانت بداياته: طفولة اكتشف فيها الشعر بالصدفة والبديهة... ولم يصدق نفسه، بعد أعوام، في ذلك اليوم الذي جاء فيه من ضاحية الجمارك بكسلا تاركا أبقاره في المرعي؛ ليغني في حفل قومي كان من ضيوفه الاستثنائيين الرئيس جمال عبد الناصر في العام 1969 ولينتزع الجائزة من الفرقة التي كانت غنت قبله بجدارة. ومن ثم مشاركته الفعالة في تأسيس فرقة الفنون الشعبية لتراث بني عامر بكسلا، والتي كان فيها من المؤسسين:

(محمد عمر أبلّاي - همد دواي - موسي صالح - محمد إكد - سعيد حامد عبد الله ودنقير ود شارف. ومن اللاعبين علي السيف، رقصا: حسن إسماعيل محمد - محمد احمد ادم - عمر محمود عمر - محمد محمود إدريس - وعلي أوكير) كانت الفرقة علي موعد مع الفوز في العام 1974 ثم مرة أخري في عام 1982 بالمستوي الأول في مهرجان الفنون الشعبية السودانية. يشتغل الفنان العملاق حامد عبد الله على الغناء بكل مستوياته تاليفاٌ وتلحيناُ وأداءً.

وحين قطع علي نفسه وعداُ منذ العام 1971 علي إصدار شريطيين غنائيين كل عام ظل وفيا لذلك الشرط كما لو كان منذورا للغناء الذي لا يكف عبره عن اكتشاف دروب جديدة في لغة التجري غنية بالجمال والخيال؛ فيكتب أغان عذبة في الغزل والمدائح الدينية.

دلف حامد عبد الله غنائه بوجه إنساني نبيل عندما كان يبكي رفاقه من ضحايا الشفته (قطاع الطرق) علي الحدود الإثيوبية دفاعاُ عن أبقارهم وأغنامهم في بكائيات إنسانية جسدت بطولاتهم. ومن ثم كانت أغاني الرعاة، مجازا لغناء الفروسية وسير الأبطال من قبائل بني عامر والحباب مثل: البطل حامد إدريس عواتي (مفجِّر الثورة الإرترية) و(محمد حامد شليشي) أحد أبطال قبيلة (الأسفده) و(علي منطاد).

وخلّد في أشعاره زعماء القبائل مثل: كنتيباي حسين ناظر قبائل الحباب، ودقلل علي حسين ناظر قبائل بني عامر، ودمات ود أكد، وأولع كثيرا بتجسيد الفروسية في غنائياته عن (حشير مقابو - وهرب الافلنداوي - وأدم كوع - ومحمد حامد فضيل - ومحمد حامد قمع - وطاهر علي موسي - وعلي أبرقاد - وإبراهيم عافة (أحد كبار القادة العسكريين في الثورة الإرترية) ومحمود حسب، والزعيم محمد حامد كفوّ. وغيرهم.

علي مدي أكثر من أربعين عاما، عندما تهب البروق وسحب الخريف الباردة من الصعيد الجواني على كسلا تتنفس أصداء الشعر في صدر حامد عبد الله وتفيض بأعذب الكلمات والمعاني والألحان ليخّلد عبرها أطيافا عصية في اللغة والخيال بكثافة شعرية متلاحقة، حيث يستعيض شاعرنا بالربابة عن الكتابة، فالربابة بالنسبة له هي علامة التدوين في اللحظة الشعرية العابرة؛ تلك اللحظة التي لا يطيق الشاعر أن يثقل خفتها عليه أي مخلوق ولو كان ابنه. تأثر الفنان الشاعر حامد عبد الله بالفنان الكبير (ود أمير) - الذي مات وحيدا في الكويت قبل سنوات ـ وتصادى مع مجايليه من أمثال الفنان عثمان وئيرا من (هوشايت).

مع إعجابه وتقديره للعديد من زملائه الشعراء والفنانين؛ كفايز بلال وأبر سليمان، وعبد الله محمد أدم الذين شكلوا معه تيار الغناء والشعر الشعبي الحديث بلغة التجرى في السبعينات والثمانينات الجميلة؛ التي حفلت بقلة من الفنانين وجيوش من المعجبين.

ونشطت فيها الحياة الفنية الشعبية بأداء مكثف، خلافا لهذه السنوات المعطوبة التي كاد أن يقل فيها التفاعل الخلاّق وينحسر المعجبون عما كانوا عليه في السابق ككل شيء جميل في السودان. ويرصد الفنان حامد عبد الله علاقة الحكومات مع رموز الغناء الشعبي لبني عامر والحباب بمؤشر مضطرب يرتفع عند الحاجة وينزل في الحالات العادية (كانت الحكومة تلتفت الينا في المناسبات ودائما كان يدفعنا شعورنا القومي للاستجابة) فالفنان الشعبي لم يأخذ حقه الكامل من رعاية الدولة التي انحسر ظل رعايتها عن تكريم الفن والفنانين لكافة قوميات السودان. ولم تقم بما يجب عليها من حقوق تجاه تقدير فناني الحباب وبني عامر (كما لو كنا نغني خارج السرب).

وبالرغم من أن الفنان الشاعر حامد عبد الله قام بتلك الوظيفة الشاملة للفنان في التقاليد العربية القديمة لبني عامر والحباب؛ أي الاشتغال علي تأليف النص وتلحينه وأداءه لمدة أربعين عاما وظل ضميرا قوميا لفنه، إلا أن التلفزيون القومي في السودان لم يتكرم عليه بلقاء. ولم تستمع اليه الإذاعة إلا مرة واحدة يتيمة في العام 1974.

وهو حتى الآن لا يملك بيتا. (مؤخرا تمت استضافته في تلفزيون السودان وكذلك في قناة الشروق أثناء زيارته للخليج هذا العام) وحامد عبد الله يطالب الإذاعة بعدم إهمال أغنياته التي سجلها والتي لم يجد لها بثا في المادة الإذاعية بتلفزيون كسلا. وهو عاتب علي هذه الأجهزة الإعلامية لأنها تخلق أزمة بينه وبين جماهيره الذين يسألونه دائما عن سبب غياب أغنياته عن البث الإذاعي.

وهو لا يطالب فقط بإذاعة أغنياته بل كذلك بث أغنيات زملائه الفنانين من أبناء قومية بني عامر والحباب. حامد عبد الله الذي ظل وقيا لأنغام الربابة رفض استخدام الاوركسترا، لا ليعاند الحداثة؛ ولكن حفاظا على الأصالة (إنني أشعر أن الحاني علي الربابة ترنّ بمخزونها التراثي العميق وتعبر عن هويتها الخاصة التي لا يمكن أن تجسدها الاوركسترا بإلحانها المصنوعة فالربابة جزء منا ولذلك تؤدي ذلك الشجن الخاص لأغنياتنا عبر التاريخ) وتتكون الربابة بحسب إفادة حامد عبد الله من خمسة أوتار وهي: (دار دار الأول ودار دار الثاني - شمبر - بيساي - دروباي). والربابة رفيق دائم للفنان البجاوي، تضرب في كل مناسبات الحياة من الموت والفرح والحرب والسلم والشدة والرخاء. ويسمي وتر الموت في الربابة بـ(سبب) بينما يسمي وتر الحرب بـ(عندر) وأحيانا بـ(بيساي ورار).

يمتد حامد عبد الله قامة فنية عابرة للحدود الجغرافية الي حدود اللغة المشتركة لأبناء قومية التجرى من بني عامر والحباب وغيرهم، في السودان وارتريا. وأغانيه امتداد لفن لغته المتداخلة بين الضفتين. وله قاعدة جماهيرية عريضة في المدن الارترية التي غني لها كثيرا، متعاليا على التناقضات التي تشوه الفن عن امتداده الطبيعي. ذلك أن الفن هنا انعكاس للهوية المشتركة. والفنان حامد عبد الله بهذه المناسبة يسجل صوت شكر عبر صحيفة الخرطوم للأستاذ محمد طاهر العربي صاحب استريو (كل النجوم) ببورتسودان الذي لم يقصر في نشر التراث الفني لقومية البجا بكافة قبائلها. نص مترجم من شعر الفنان حامد عبد الله نحن كقمة توتيل البيضاء عندما نصغي إلى قلوبنا فمن الذي يلحق بنا ؟

ونهوي أسفلها في نفس الوقت حين تختلف تلك القلوب فينا من الكرم والعلم والعقل والشجاعة ما ينشئ الممالك من العدم بعضنا يحترق كالرصاص غيرة ً وبعضنا يتفتت وبعضنا يحتمل الألم بالليل والنهار.

Top
X

Right Click

No Right Click