هنا لندن، من أعلى قمم امباسيرا

بقلم الإعلامية الأستاذة: آمال علي محمد صالح - كاتبة والناقدة ارترية

وكان الوقت هدوء مرتبك وقليل الجدوى، بين انتهاء غير معلن ولا نهائي لحرب لم يُعلن تماماً عن بدايتها وأسبابها،

ولا حتى نهايتها !!

هنا لندن هيئة الإداعة البريطانية القسم العربي

وكنّا نتسلق درجات السلم المؤدي صعوداً ونزولاً، في مبنى التلفزيون، بالقرب من سينما ومقهى كابيتول. نتحرك دون هدف ولا معنى سوى قتل الوقت والأسئلة المؤجلة والانتظار الطويل لعودة من ذهب الى الحرب وبينهم زملاء لنا، سُحِبوا من بيننا للانخراط في صراع، قيّل أنه حدودي، ومهددٌ لوجود وكيّان دولتنا الوليدة وأمتنا العظيمة.

والوقت الممتد بين عامين من صراع دموي، ١٩٩٨—٢٠٠٠، على الحدود بيننا وبين الجارة الصديقة - العدوة اثيوبيا.

كنّا مجموعة متنوعة، في أعمارها، تجاربها، خبراتها الحياتية والمهنية. يجمُعنا ولعٌ مشروع بالمهنة، ورغباتٌ مخلصة في الإبداع والتجديد وتقديم المُفيد في محيطٍ محدود الإمكانات مادياً وعملياً، وضيّق الحريات على أحلامنا.

وكانت سعاده سليمان، المُصورة في التلفزيون، شابة ذات إيقاع خاص. سمراء بجمال وروح صلبة، اكتسبتها ربما من مجاورتها لطبيعة جبلية، شامخة المعاني والصخور.. بنت سنعفى.

تلك المدينة التي ستحمسني سعاده، لزيارتها، لاكتشافها، لتوثيق ما أمكن من عادات وطبائع سكانها.. من تاريخهم.

الساهو. واحدة من المجموعات السكانية الارترية ذات الملمح الأثني، اللغوي، الجمالي المتميز..

جبليّون بسطاء، كرماء، معتقون في جينات الحماسة والصراحة والفعل السريع قبل القول.
حمقى في التصدي لقيمة الكلام الصريح. بعيدون كل البعد عن دبلوماسية القول المنمق والمجاملة المفرغة من معناها..

قالت لي، وكنّا وقتها، ندور في اللاجدوى من البحث عن مواد تلفزيونية مثيرة وممتعة، تدهش المشاهد وتثير اهتمامه، في زمن الحرب والخراب والانتظار :
ما رأيك لو أخذتكُ الى مكان أعرفه، ثري وممتع ويستحق مغامرة سحبه من الهامش الى مساحة من الضوء، في هذه العتمة !
..عرضٌ مغري، في ذلك الوقت الرتيب..

وكان أن.
قطعنا الطريق، سعادة سليمان وآدم عتيل، الزميل المصور التلفزيوني وأنا، الى سنعفى.

قطعنا المسافة من اسمرا، مروراً بدقي امحري، عدي قيح، وصولاً الى سنعفى.

متعبون دون إرهاق كبير. استقبلتنا والدة سعادة في بيتهم. أسرة ككل الأسر الارترية، مرحابةٌ، مضيافةٌ، تسبقها الابتسامات الواسعة قبل الكلمات.

وكان الوقت، منتصف النهار.
غسلنا أيدينا ووجوهنا من تعب الطريق، وأسندنا ظهورنا الى آرائك حميمة، في غرفة أكثر حميمية.
دخلت علينا والدة سعاده، امرأةٌ، أم، تسبقها صينية معدنية متوسطة. وضعتها أمامنا، بكل الود.
جرادٌ مشويّ، وعسلٌ صاف. مقبلاتُ الضيافة الجبلية في معناها.

ومن جهلي وربكتي ودهشتي قفزت ونفرتُ. اختلط على إحساسي بين الاحتفاء بهذا الكرم العفوي، التقليدي، اللطيف، وبين استنكاري لفكرة، عرفتها لأًول مرة حينها، في متعة الضيافة بجراد زراعي،محمص بعناية، لا تفقده قيمته كمقبلات غنية الفائدة والمعنى..

فالجراد الذي وعلى ما يبدو كثيف التكاثر والتواجد في تلك المناطق الجبلية، المحاطة بمنحفضات سهلية، زراعية خصبة، يتغذى على ما يتاح له من بقايا محاصيل القمح والذرة. تماماً، كصغار الدجاج، المغذى على الذرة الصفراء فقط.

ولكن جهلي ونفوري، كانا أكبر من أن يمداني بالعزيمة والجرأة على تذوقه.. ضحك آدم عتيل، الرجل الهادىء، الصامت غالب الوقت، والمجامل بما يكفي، لتقبل الدعوة وتذوق القليل من جراد محمص، مغموس في عسل صاف.

ولأن سعاده، كانت في حالة حماسية، متحفزة لاستثمار كل الوقت في رحلة اكتشافنا لعوالم،تعرفها وتعتز بها، رتبت لنا، و سريعاً، برنامج رحلتنا الى عمق جبل امباسيرا مع مرافق من أهل المنطقة.

وامباسيرا، جبلٌ بقمم عالية. وهو الأكثر ارتفاعاًفي ارتريا وفِي منطقة الهضبة.

ومن بداية سطح الجبل، قادنا دليلنا الى المنطقة، بسيارتنا اللاندكروزر، الى منتصف الطريق.. حيث التعرجات الجبلية واسعة نسبياً، وتحتمل المغامرة.. سائقنا، ربما كان ايضاً، مثل سعاده وآدم من مقاتلي حرب التحرير.. هم وحدهم من يصادقون الوعورة بأريحية واضحة، ويتصالحون في هدوء تام مع الصعوبات والإرهاق، دون خوف ولا قلق.

فالمقاتلون لا يقلقون. هم يذهبون إلى مهامهم في صمت وقبول، يوحيان بالانتصار المحتم.

هم المؤمنون، دون صلاة ولا تردد. إيمانهم صادق وأبدي. لا أسئلة تقلقهم ولا عذابات، عن ؛ ماذا لو أن، كيف، ومتى، والى أين !!؟

وفي منتصف الطريق الجبلية، أوقفنا السيارة التي لم تعد قادرة على تحدي المنعطفات في اصرارها على دحرنا، واحباط عزيمتنا على مواصلة رحلة الاكتشاف هذه..
ولكن هيهات.. من يسكن الجبال، لابد وأن يعرف مسالكها.

تركنا السيارة في المنتصف، بايعاز من دليلنا ومرشدنا، ابن المنطقة وعارفها، واعتلينا ظهور الحمير. آدم بكاميرته التلفزيونية الثقيلة، وسعاده بحماسها الكبير، وأنا بفضول وتعب كبيرين.
وصلنا بعد وقت، الى ما يشبه قرية صغيرة، وسط الجبل.

شيءٌ غرائبي، تصيبني استعادته الآن بدهشة متجددة و حية.

بيوت بُنيتْ، بل بالأصح حُفرتْ من الصخور، وبينها.
مجموعات بشرية تعيشُ في اعتياد وسلام، يستعصيّ فهمه واستيعابه على القادم من طرقات وعوالم أخرى، قد يعتبرها "عادية، وسائدة".

استقبلتنا أحدى الأسر، مع بدايات الليل. احتفاءٌ مبالغٌ فيه.. وسعاده تحدثهم، بلغتهم، لغتها، تشرح وتفيد عن أهمية وجودنا ونُبل هدف عملنا وزيارتنا التي ستأتي بالجبل الى المدينة، في وثائقي يحكي عن حياتهم وعاداتهم ولغتهم وأغانيهم وحتى جرادهم المُعسل.

فاض الكرم الجبلي. ذبحوا لنا أفضل ما عندهم من الغنم. راحة الشواء والانتظار ونظرات نتبادلها آدم وأنا.. أنا تعبة ومرهقة جداًفي وقت متأخر من الليل. وآدم، هادىء، مجاملٌ لبق ومقاتل يعرف احتمال التعب والطريق..
ننتظر العشاء. وعينايّ على سرير، رحب، يوحي براحة مشتهاة، في زاوية الغرفة الجبلية. تلبي تماماً رغبتي في الاستسلام ودون مقاومة للارتماء، و دون اَي اكتراث لا بالعشاء ولا إغراءات الشواء الشهي.

ولكن عيب العيب، أن تنهار بينما رفاقك المقاتلون صامدون، نفس التعب، نفس الطريق، ونفس المسافة. وكل ما كان ينقصني، ومازال، على ما اعتقد هو ذلك الإيمان الصادق بحتمية الصمود وحتمية الانتصار.

وجاءت الرحمة الألهية. اخيراً. صينية العشاء، من لحم غنم طازج وطري، مع صحن من العسل الصافي. يقول الجبليون ويعتقدون، بأن غمس قطع اللحم المشوي، والطازج في العسل، ضروري وصحي !!
جراد في العسل وشواء في العسل.
وعسل الحديث الذي لا يكتمل الا بمفاجأة جبلية أخرى. يُدير شاب من الأسرة المضيفة لنا، شوكة المذياع الصغير، الذي يحمله قريباً من أذنه بجدية وانصات دقيق، باحثاً عن محطة محددة..

هنا لندن، هيئة الإذاعة البريطانية. نشرة الأخبار.
ستظلُ تلك اللحظة، من أكثر اللحظات التي عشتها، ادهاشاً !

أتابعه. ومن ثم أسأله بدهشة وحماس، انسياني لبعض الوقت تعبي، ورغبتي في الارتماء كقتيل في النوم!!

تسمع الإذاعة البريطانية ! كيف ذلك..

يتحدث عدد كبير من أبناء تلك المنطقة الجبلية، من قومية الساهو، باللغة العربية، ويُجيدونها. انها لغةُ دينهم.

يقول لي، الإذاعة البريطانية، كانت منذ زمن حرب التحرير ضد نظام منغستو، مصدرنا الوحيد وصلتنا الأكيدة مع العالم. نتصيدُ فيها الأخبار. كان أبي يسمعها وأنا الان أسمعها مثله.

لم تكن تلك المفاجأة، آخر حالة الادهاش التي استمرت لليلة ويوم آخر، في رحلتنا التوثيقية لعادات وحيوات أهل الجبل..
ولَم يكن لدي من قدرة على مقاومة التعب والنعاس، سوى الارتماء حقيقة على ذلك السرير العريض والمغري في زاوية الغرفة، والذي تصور لي وكأنه سرير الخُلد والرفاهية، حتى ليصتدم جسدي المرهق، بحجر صلب، مصقول بعناية فائقة، ومغطى بشرشف نظيف، كالعسل على لحم طازج وجراد محمص، لا يغري جوعي للنوم ولا يكف عن ادهاشي، ولكنه ايضاً لا يهزم إيماني الذي اكتسبته في الصمودحتى الانتصار لنوم هادىء ومريح على سرير صخري، في غرفة كريمة في قمم امباسيرا الشامخة. وهذا ماكان.

Top
X

Right Click

No Right Click