إريتريا.. بين رمضاء السلطان ونار النسيان

بقلم الأستاذ: علاء الدين محمد سيف المصدر: مدونات الجزيرة

الحرية صنوان الحياة، فالحياة لا تحلو لحي بدونها، بل إن الحياة بدون حرية كأرض دون ماء؛ جدباء قاحلة سرعان ما تضمر كل

أحيائها حتى تموت. كما أن الحرية معنىً من معاني التّنفس، ومكوناً رئيساً من مكونات الأوكسجين.

العصيان المدني والمظاهرات السلمية

لمّا أدرك الإريتريون أنه لا حائل بينهم وبين حريتهم إلا خوفهم الذي يترعرع عليه الطغيان، خرجوا إلى شوارع أسمرا غصاباً

على مرِّ الزمانِ كان قدر الطّغاة أن يقفوا في طابور الأجل ليعبروا إلى حتفهم، برغم ظنهم أن بإمكانهم إطالة أعمارهم التي نسجوها من أنفاس ضحاياهم. فقد طغى فرعون حتى بلغ طغيانه به أن يدعي الربوبية (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى)، وترك بدنه لمن خلفه من الطغاة آيه. وطغى والنمرود حتى ادعى أنه يحيي ويميت، فسلط الله عليه أضعف مخلوقاته فأهلكه شر هلاك. ومثلهما كان مصيرا نيرون وصاحب الأخدود اللذان أحرقا شعبيهما، وصحائف التاريخ محبرة بغيرهم من العتاة والجبابرة الذين هلكوا. هكذا مضت سنة الله في الطغاة في كل زمان وعلى أي مكان (ولن تجد لسنّة الله تبديلاً).

والإشكال يكمن في أنّ الطغاة اللاحقين لا يتعلمون من سابقيهم، بل يسيرون وفق سيرتهم ويهلكون بذات هلاكهم.

لقد كتب الله على كثيرين أن يلاحقوا الحياة بحثاً عن حريتهم بدلاً عن العيش في قاع الخنوع وكنف الطغيان، فكانت لهم أرض الله واسعةً ليهاجروا فيها. فقد كان أول من هجر لأجل حريته في تاريخنا الإسلامي فراراً من الظلم والطغيان جمع من الصحابة الكرام بقيادة جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة، لم يهاجروا إليها بملكهم ولكن بإشارةٍ من نبيهم الكريم الذي قال لهم عنها: (إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه)، فعاشوا في كنفه حياة ًمليئةً بالعدل والحرية والتعايش والدعوة. وقد وصفت أم المؤمنين أمّ سلمةَ هذه الهجرة فقالت: (فخرجنا إليها أرسالاً (جماعات) حتى اجتمعنا به، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً).

ومع مرور الزمان وتقلب الأيام شاء الله أن تطوى سيرة الملك العادل والعدل ليصبع على أرض إريتريا -وهي جزء من مملكة الحبشة إلى جانب ماجاورها من دول- طاغية جديد تنكب لكل سنن الكون وأعراف الرجولة وتاريخ الأرض وأحكام السياسة.

قام هذا الطاغية (أسياس أفورقي) بمثل ما قام به أعداء الأمة قبله؛ فجعل أهل إريتريا شيعاً، وهمّش التعليم الإسلامي وحاربه، وزج بالعلماء وطلاب العلم في السجون والمعتقلات رغم كون المسلمين أغلبية في البلاد بما يزيد عن سبعين في المائة، كما ضيّق على اللغة العربية رغم اعتبارها لغة رسمية للبلاد، وملأ معتقلاته العلنية والسرية بالمسلمين من نشطاء ودعاة وساسة، كثير منهم دخلها تحت أطرٍ غير قانونية، بل إن كثيراً منهم لم يخرج منها إلا إلى قبره بسبب التعذيب وسوء المعامله.

يمِّم وجهك نحو أي أرض الله شئت، سترى فيها إريتريون يبدعون في شتى مجالات الحياة، إعلاميون ورجال أعمال ودعاة وغيرهم ممن ضاقت بهم بلادهم التي ملأها الطغاة ظلماً وهضماً. لك أن تتخيلَ أن من كانوا يوماً مضيفي خير أهل الأرض يصبحون دون أرضهم، فتجدهم يتلمسون الحياة في مخيمات اللجوء في السودان واليمن وغيرهما. بل تخيلهم - وقد كانوا ذوي اليد العليا - و هم يرقبون يد الإحسان أن تمتد إليهم حين ترق أفئدة أصحابها، فلا تمتد إلا بالقليل الذي لا يغني من فاقة، فقد زاحمت قضيتَهم قضايا أخرى كثيرة.

مع أن الظلم ليس وقوعه بدعاً على إريتيريا دون غيرها من أمصار العالم، ففلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وبورما كلها وغيرها تعاني ذات الأمر، إلا أن الأمر هناك بقي طي النسيان، فتُرك الإريتريون بين رمضاء طغيان السلطان ونار النسيان.

ولمّا أدرك الإريتريون أنه لا حائل بينهم وبين حريتهم إلا خوفهم الذي يترعرع عليه الطغيان، خرجوا إلى شوارع أسمرا غصاباً ولسان حالهم.

لا بد للشّعب والأحداث تأخذه *** من غضبةٍ تفزع الأفلاك والشُّهُبا

وهم بذلك يدركون ما أشار إليه شوقي من ضرورة من التضحية في سبيل الحرية.

وللحريةِ الحمراءِ بابٌ *** بكلّ يدٍ مضرّجةٍ يدقُّ

عسى الله ألا يخيبّ آمالهم !

Top
X

Right Click

No Right Click