رحيل المناضل علي سيد عبدالله أول خطوة في عالم ما بعد الموت

بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح - لندن المملكة المتحدة

باغت الموت االمناضل الراحل علي سيد عبدالله، وزير خارجية إرتريا، إذ توفاه الله في منامه، بسكتة قلبية،

والله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى“.

والموت هو القدر المحتوم على كل مخلوق، لا يملك أحد التحايل عليه، ولا الفرار منه، مهما عظم مكانه، وإذا ما استهدف كائنا ما، أنشب عليه أظفاره، بياتا، أو نهارا، ولو كان في بروج مشيدة ”إن الموت الذي تفرون منه، فإنه ملاقيكم، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئكم بما كنتم تعملون“.

وهو ليس فنآء محضا، وإنما هو جسر عبور، من عالم إلى آخر، وما رحيل المناضل علي سيد عبدالله، إلا أول خطوة له، إلى عالم ما بعد الموت، حيث القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وحيث سؤال الملكين له، عن الرب، هل عبده ؟ وعن الدين، هل اتبعه ؟ وعن النبي، هل أطاعه ؟ ثم بعد ذلك بعث ونشور، إلى مثواه الأخير، فريق في الجنة، وفريق في السعير.

والمؤمنون وإن كانوا شهدآء الله، في الأرض، إلا أنه لا أحد من الناس يحق له الشهادة لأحد بالجنة، أو النار، إلا لمن شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله وحده يقضي بين الناس بالحق، يوم يلقونه، فيما كانوا فيه مختلفين، ولكن يرجى للمحسن الثواب، ويخاف على المسيئ العقاب، وما ربك بظلام للعبيد.

رحل المناضل علي سيد عبدالله، وهو الآن وحيد، فريد، بين يدي ربه، مجرد من كل نفوذه، وسلطانه، ليس معه إلا ما أسلف من عمل، في الأيام الخالية، ولا يسعنا إلا أن نقول: إنه عبدالله، وابن عبدالله، قبضه ربه إليه، وهو أعلم بحاله ساعة قبضه إليه، وسيعامله بعدله، ويجازيه بما هو له أهل، فهو القاهر فوق عباده، وهو أعدل العادلين، غير أننا نسأله تعالى أن يبارك في نسله، وأن يلهم أهله الصبر على ما حل بهم من مصيبة الموت، وأن يجعل من أبنائه هداة مهدتدين.

ومهما كان الموقف منه، فلا يشك أحد في أنه كان أحد أبرز من عرفتهم الثورة الإرترية، من أبطالها الأشاوس، خاض غمار حرب التحرير الإرترية، بروح متفانية، وخطى شجاعة، آمن بعدالة قضيته، وأحقية شعبه في الحياة الحرة الطليقة، عن إرادة المستعمر الإثيوبي، ورغباته الشيفونية، خرج إلى الثورة وهو يحمل هموم الثقافة التي نشأ عليها، منذ نعومة أظفاره، وانتمى إليها من جذور أجداده، ولكن ياللأسف وجد ذاته في نهاية المطاف مخطوفة، عن ثقافتها، عارية عن خصائصها، محاطة من كل جانب بهيمنة ثقافة أحادية، ووجد مسار نضالاته مجيرا لأهداف شيفونية.

إنه بنآء على اسمه، وكنيته، قرشي، هاشمي، من نسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لم يستطع أن يجد للغة العربية، لغة بني هاشم مجالا في دواوين وزارته، لقد مات وهو يعمل ضمن سياسة شيفونية قاهرة، قد لا يكون عنها راض، ولكن بلا شك كان لها منفذا، في عهد رآسته لوزارة الداخلية اختطفت الأجهزة الأمنية خيرة دعاة إرتريا، خريجي الجامعات الإسلامية، ومعلمي المعاهد الدينية، وأخفتهم عن الوجود والشهود، لا يعلم أحد أين هم ولماذا خطفوا ؟

إن عظيم نضالات الراحل علي سيد عبدالله، لا يعفيه عن المسؤولية التاريخية، عن كل ما جلبته هذه السياسة الشيفونية، من آلام ومآس للشعب الإرتري، بشكل عام، ومن إجحاف وتهميش متعمد في حق المسلمين السياسي، والثقافي، على وجه الخصوص، كما أن مسؤوليته التاريخية، لا تعني بأي حال من الأحوال إلغآء مآثره النضالية، ومواقفه البطولية.

ماذا بعد رحيل علي سيد:

لو لم يجير استقلال إرتريا لنزعة شيفونية، لكان أول إنجاز وطني تشهده الساحة الإرترية، بعد استقلالها هو مؤتمر المصالحة الوطنية، ولكن غالبا ما تجري الرياح، بما لا تشتهي السفن، إذ تجاهلت قيادة الجبهة الشعبية عقد هذا المؤتمر، وأبت ألا تتعامل إلا بروح الإقصآء، ورحل المناضل علي سيد عبدالله، وسياسة الإقصآء ممسكة بكل خيوط الحزب، في قبضتها المحكمة، ومهيمنة على كل حبال الدولة، ومفاصلها، لاتنفي من هو خارج فصيل الجبهة الشعبية فحسب، وإنما تقمع أيضا كل صوت إصلاحي داخل الجبهة الشعبية نفسها، متهمة إياه بالعمالة، وبهذا أقحمت الشعب الإرتري في حالة من التنافر، نتيجة إحساس أطراف منه بالظلم القومي، والسياسي، والثقافي، والاقتصادي، وما كان الراحل يحد من نفوذ هذه السياسة الجائرة، وقهرها، لسبب وآخر، إذ ألقت برفاق نضال له، إلى ما ورآء القضبان، رفاقه الذين شاركوه كفاح التحرير، لكن غيبوا في غياهب السجون، فما استطاعوا تشييع جنازته، وإلقآء آخر نظرة عليه، لأنهم في عالم المجهول، ولا يدري المرؤ عما إذا كان الراحل صانعا لهذه السياسة، راضيا عنها، ومباركا لنهجها، أم كان عاجزا عن ردعها، خائفا على نفسه من بطشها، ذلك ما ستكشفه الأيام اللاحقة.

وإذا كان من مطلب ينشده الإنسان الإرتري من كل مناضل غيور، أيا كان موقعه القيادي، وإطاره التنظيمي، يقدس نضالاته، ونضالات من مضوا من رفاقه، فليس هو إلا العمل من أجل التخلص، من هذه السياسة الخرقآء، والتحرر من تأثيراتها، والدفع نحو عقد مؤتمر مصالحة وطنية جامعة، لا يستثنى منها أحد، تنهي حالة الاحتراب الداخلي، وتعتمد منطق المحاورة والمسالمة، مكان منطق الاعتقال، والاغتيال، وتغلق ملفات كل مخلفات أحقاد، وضغائن، ما قبل الاستقلال، في سبيل توريث الأجيال الإرترية الناشئة، والقادمة، وطنا آمنا مستقرا، ناعما بالخيرات، يأتيه رزقه رغدا.

وعلى القيادات المسؤولة في نظام الجبهة الشعبية، من رفاق علي، وشركائه، في صناعة القرار، وصياغته، أن يدركوا، أن الموت الذي خطف رفيقهم عليا، وتخطاهم إليه، لا محالة أنه لهم بالمرصاد، وأنهم معه على موعد، فلابد من يوم يداهمهم فيه، من غير إنذار مبكر، واحدا بعد الآخر، وإنه لخير لهم أن يجعلوا من رحيل رفيقهم علي، عظة يتعظون بها، ومناسبة تاريخية لإحلال السلام، وبسطه، في كل أرجآء الوطن، بين كل الشعب الإرتري، كفاكم إلغآء للآخر، وكفاكم تجاهلا لإرادة المواطن الإرتري، ولا بد لكم من مبادرة جريئة، تنتشلون بها هذا الوطن الجريح، من أزمته الخانقة، وتدخلونه في مصالحة وطنية جامعة، مستفيدين من التجربة السودانية، ومن كل التجارب المماثلة، فهل من سبيل إلى هذه المبادرة ؟ الإجابة عند من يملك القرار، ويحتكره، وقديما قال العرب: وعند جهينة الخبر اليقين.

صبرا آل علي:

أما أنتم يا آل علي فما عليكم إلا الصبر، فما من قوم حل الموت بدارهم إلا وغشيتهم معه الكآبة والحزن، غير أنه لن تموت نفس في غير أجلها، فصبرا لكم في مجال الموت صبرا، فما نيل الخلود بمستطاع.

تذكروا أنكم مسلمون، وثقافة المسلم في مواجهة الموت الاسترجاع ”إنا لله وإنا إليه راجعون“ ثقافة ربما محاها النظام من أذهان كثير ممن قدر لهم الوقوع تحت تأثيره الثقافي، ولكن أحسب أنكم أهل لاستذكارها، ومراجعتها، وإحيائها في أنفسكم مرة بعد أخرى، وتذكروا أن أباكم كان يحمل اسم أعظم شخصية في تاريخ الإسلام ”علي بن أبي طالب“ وإن صلته بهذه الشخصية ليست قاصرة على الاسم فحسب، وإنما هي صلة تمتد إلى النسب، لتصلكم ببني هاشم، فأنتم هاشميون، من نسل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، أم السبطين، الحسن، والحسين، وزوج علي بن أبي طالب، ولعله من حسن التقدير أن يكون اسم أبيكم عليا، واسم أمكم فاطمة، ومما يحسب لأبيكم، ويحمد عليه، أن سماكم بأسمآء إسلامية، وللإسمآء مدلولها، وغاياتها، فهي لا تختار هكذا عبثا، وإنما من ورائها أهداف حضارية، ودوافع ثقافية، فإحدى البنتين منكم سماها (علوية) نسبة إلى البيت العلوي، وسمى الإبنين عبدالله، وأحمد، وإن هذا بلا شك مما يعمق فيكم مشاعر الانتمآء إلى الإسلام، وثقافته، فلا تجعلوا من هذه الأسمآء النبيلة مجرد أسمآء خالية من مدلولها الحضاري، والثقافي، بل اجعلوا منها اسما على مسمى، وكونوا أحرص الناس على التشبث بمدلولها الثقافي، واستمسكوا بقيمكم الإسلامية، وارتبطوا بمصادر تغذيتها، ما بقيتم، واحموا انفسكم من الثقافة الانحلالية، التي استهدفت قيم شعبكم، من أجل التحكم على رقابه، وتجنبوا بكل ما لديكم من قوة، مجالس الفجور، والفسوق، من حولكم، واعلموا أن لكم على أمكم واجب الرعاية الإسلامية، وإنها عنكم لمسؤولة، كما أن لأمكم عليكم حق الطاعة بالمعروف، ما حييتم، وليس الفتى منكم من يقول كان أبي، وإنما الفتى من يقول ها أنا.

الله يحسن عزاءكم، ويتولاكم برحمته، وينبتكم نباتا حسنا، ويجعل منكم أهل بر وتقوى، فكل نفس بما كسبت رهينة، والعاقبة للمتقين.

Top
X

Right Click

No Right Click