قصة الاستعمار الإيطالي لأرتريا
بقلم الأستاذ: ود عد
إن الموقع الجغرافي لإرتريا على أبواب الجزيرة العربية وضفاف باب المندب جعل منها معبرا لحركة الشعوب المتباينة في هجراتها
التاريخية عبر العصور المختلفة. وتركت تلك الشعوب سماتها الواضحة في المجموعة البشرية التي تسكن القسم الغربي من سواحل البحر الأحمر بما فيها شعب إرتريا الذي تتمثل فيه التزاوجات التاريخية بين العناصر السامية والحامية والزنجية حتى يبدو وكأنه موزاييك للأجناس بمختلف قبائله ومعتقداته ولهجاته وألوانه.
ويعتقد كثير من المؤرخين أن قدماء المصريين هم من أصول سامية قدمت من الجزيرة العربية عبر باب المندب وارتريا واستقرت في وادي النيل.
وفي عهد دولة سبأ باليمن وماتلتها من دول وعهود توالت هجرات السبأيين والحميريين إلى الشاطئ الغربي من البحر الأحمر. ونقل النازحون الجدد قبل ثلاثة آلاف عام حضارة جديدة إلى المرتفعات الإرترية والمناطق المتاخمة لها فيما يعرف الآن بإقليم "تجراي" داخل الإمبراطورية الأثيوبية. ونظموا الزراعة على شكل مدرجات في سفوح الجبال على غرار نظام الزراعة في وطنهم الأصلي بهضبة اليمن الخضراء. وكانت أكسوم حاضرة مملكتهم، ولاتزال المسلات المشهورة شاهدة على عظم حضارتها في مضمار البناء والتعمير.
وفي عهد البطالسة (أي قبل ألفين وثلاثمائة عام) أقام التجار المصريون البطالسة مرفأ عظيما عرف بأسم "عدوليس" على بعد 60 كيلو مترا جنوبي ميناء مصوع الحالي، ويصفه المؤرخ الإنجليزي "باذل دافيدسون" في كتابه (إفريقيا تحت أضواء جديدة)، بقوله: كان هناك مجتمع منظم أزدهر في هذه المدينة الكبيرة ذات المباني الجميلة والمعابد والحمامات والشوارع الواسعة والصواري. وقد كتب مؤلف "الكشاف البحري" يعجب لكثرة السفن العربية على الساحل الإرتري ويشيد بقدرة العرب على العيش مع الآهلين، يتزاوجون فتختلط الأنساب، ولايجد الخصام سبيلا بينهم وبين القوم، تجيء سفنهم من الجزيرة العربية ومن كل صوب في المحيط الهندي بالخناجر والرماح والزجاج، وتقلع تحمل العاج وقرون الخرتيت وجلود السلحفاة، ورأى الرحالة الإغريقي في عدوليس في القرن الأول الميلادي عيشا رافها آمنا بعضه من بعض.
ولما غزا أبرهة الأشرم، ملك الحبشة، اليمن لإنقاذ نصارى نجران من أيدي اليهود بناء على طلب الإمبراطور جستانيان عاهل الإمبراطورية الرومانية البيزنطية، أستأجر السفن من ميناء "عدوليس". وظلت عدوليس مزدهرة حتى دمرتها قبائل البجة الحامية التي رفدت بأعداد كبيرة نتيجة الضغط العسكري عليها من جتوب مصر وشرق السودان بعد الفتح الإسلامي.
وفي القرن السادس الميلادي وبعد ظهور الإسلام في مكة المكرمة، أشار الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة بعد أن تعرضوا لأذى كفار قريش. فخرج من مكة المكرمة في أول الأمر أحد عشر وقيل اثنا عشر , أربعة منهم متزوجون، معهم نساؤهم. وعلى رأس هؤلاء عثمان بن عفان رضي الله عنه وزوجته أم كلثوم ابنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. وفق الله لهم ساعة جاءوا سفينتين للتجار حملتاهم لقاء نصف دينار ورست بهم السفينتان في بلدة "معدو" في الشاطئ الإرتري ومن ثم ساروا إلى الحبشة حيث أحسن النجاشي استقبالهم. ولم يكن هؤلاء الخمسة عشر إلا طليعة الموكب إذ تتابع المهاجرون المسلمون بعد ذلك حتى أكتمل منهم عدد ليس باليسير في كنف النجاشي الصالح.
وفي القرن الثامن الميلادي أحتل الخلفاء الأمويون العرب جزر دهلك وتبعا لذلك مدوا نفوذهم إلى المنطقة وتوسع داخل منطقة شمال شرق إفريقيا بأسرها.
يقول جسمان جسلو في كتابه (غرائب أثيوبيا) أن مصوع والموانئ القليلة على البحر الأحمر أصبحت إسلامية في وقت مبكر، وبعد تدمير "عدوليس" ازدهرت حضارة أسلامية في جزيرة "دهلك" بالقرب من مصوع في مستهل القرن الثامن.
وكانت المسيحية قد انتشرت في القرن الرابع الميلادي وعن طريق الكنيسة "الاكسومية" في المرتفعات الارترية على أيدي قسيس سوري من صيدا أسمه "فرمنتيوس" وبمساعدة شقيقه "أديسيون" اللذين نجيا من سفينة يونانية غرقت على شاطئ "عدوليس" وأخذهما التجار إلى حاضرة أكسوم، ونصبه بطريك الإسكندرية مطرانا على تلك البلاد، ومنذ ذلك الحين ظل معظم مسيحيي ارتريا يتبعون المذهب الأرثوذكسي القبطي.
وفي القرون الوسطى كان معظم أراضي ارتريا تحكم بواسطة الزعماء المحليين للعشائر والأقاليم. ويقول أسبنسر ترمنجهام في كتابه " الإسلام في إثيوبيا (أسست قبائل البجة خمسة ممالك مستقلة في غرب وشمال وشرق البلاد، وكانت "باضع" أو "مصوع" ميناء بحريا له اتصالات تجارية مع سلاطين مصر).
وعرفت المنطقة لدى المؤرخين العرب بأسماء مختلفة منها (بلاد الطراز الإسلامي) "تطرز الساحل الأفريقي بالدين الإسلامي بينما الدواخل على غيره" كما يقول المسعودي في كتابه معجم البلدان، وعرفت أيضا ببلاد الزيلع وبلاد "الجبرتة" واليها ينسب عبدالرحمن الجبرتي.
وفي عام 1557م وكنتيجة مباشرة للاعتداءات البرتغالية على موانئ البحر الأحمر تمركز الأتراك العثمانيون في "مصوع" بعد أن هزم القائد التركي سنان باشا الأسطول البرتغالي الذي كان يقوده دون جوان دي كاسترو، وفرضوا نوعا من الإدارة على الامتداد الشمالي للسهل الساحلي، وتوغلوا إلى المرتفعات الإرترية وبنوا القلاع التي لاتزال قائمة في " دباروا " في مدينة سراي.
وفي نفس القرن بسط سكان "الفونج" في سنار بالسودان نفوذهم على مناطق "القاش وسيتيت" ومنخفضات "بركة". بينما كان "رؤوس تجراي" يمارسون ظلا من النفوذ على بعض أجزاء الهضبة الإرترية.
وبعد فتح قناة السويس في عام 1869م أصبح البحر الأحمر أحدى الطرق البحرية الرئيسية في العالم، وخلفت مصر الخديوية الأتراك العثمانيين وحلت محلهم على طول ساحا البحر الأحمر. ورفع العلم المصري بدلا من العلم التركي في (مصوع وكرن) ومنخفضات (بركة والقاش وسيتيت) وكذلك في "قرع" و "قندت" في الهضبة الأرترية.
وفي غضون الثورة المهدية في السودان انسحبت معظم القوات المصرية من ارتريا لكي تعزز مركزها العسكري في السودان ولكي تحمي مصر نفسها من الغزو البريطاني. وفي عام 1885م أحتل الطليان "مصوع" بتشجيع من بريطانيا التي رأت ـ خوفا على مصالحها الاستعمارية ـ أن تطور النفوذ الإيطالي في البحر الأحمر سيكون معاكسا للنفوذ الفرنسي الذي تمركز في ذلك الوقت في جيبوتي. وفي نفس الوقت ساوم البريطانيون إمبراطور أثيوبيا "يوهنس" لكي يساهم في إخماد ثورة المهدية في السودان مقابل "مصوع" و "كرن"، حتى يتمكن من فرض سيطرته على إرتريا. ولكنهم خدعوه لصالح ايطاليا بينما قتل هو في معركة "المتمة" على أيدي المهديين في عام 1889م.
وفي أول يناير "كانون الثاني" عام 1890م وحد الإيطاليون جميع أراضي ارتريا سموها ارتريا نسبة إلى الاسم اليوناني القديم "سينوس أرتريوس"، أي البحر الأحمر، وظلت تحت حكم ايطاليا حتى هزيمتها عام 1941م في الحرب العالمية الثانية. واحتلت ارتريا قوات الحلفاء وظلت تحت الإدارة البريطانية حتى عام 1952م عندما فرض على ارتريا الدخول في اتحاد فيدرالي مع أثيوبيا بناء على قرار هيئة الأمم المتحدة.