الروائي العربي الإريتري حجي جابر أكتب لأترك أثرًا وكي أجد إجابات على أسئلة عالقة

حاوره الأستاذ: أحمد الغر  المصدر: مجلة اليمامة

في مدينة مصوع المطلة على سواحل البحر الأحمر في إريتريا،

وُلِدَ الروائي حجي جابر، قبل أن ينتقل مع أسرته إلى مدينة جدة إبان القصف الإثيوبي لإريتريا، عمل بالصحافة السعودية، كما عمل مراسلاً لبعض الفضائيات الأوروبية، وسرعان ما شرع في دخول عالم الرواية، فتميّز بأسلوبه السلس والممتع، وتناول مواضيع اجتماعية وسياسية مثيرة للاهتمام، ومن بين أبرز مؤلفاته رواية ”سمراويت التي حازت جائزة الشارقة للإبداع في عام 2012، ورواية ”رغوة سوداء الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الخامسة عام 2019، ورواية ”لعبة المغزل، ورواية ”مرسى فاطمة التي تتناول إشكالية عصابات الاتجار بالبشر، تُرجمت بعض أعماله إلى عدة لغات مثل الإنجليزية والإيطالية والفارسية والعبرية وغيرها.

يعتبر جابر واحدًا من الأدباء الذين استطاعوا أن يحولوا تجاربهم إلى أعمال أدبية جاذبة ومؤثرة تلامس قلوب القرّاء، فهو يتمتع بقدرة فريدة على إحياء الذاكرة وجعلها ملموسة من خلال رمزياته السردية وأدواته الفنية، دائما ما يتلمس في أعماله الأدبية حياة الإنسان الإريتري البسيط ويخلد تجاربه وأحلامه وآلامه، وبأسلوبه الفني يجعلها قابلة للتمثيل في خيال القارئ، بفضل هذه الميزة الفريدة ارتقى جابر بمسيرته الأدبية، وحصل على العديد من الجوائز والتكريمات وبات يحظى بشهرة واسعة في العالم العربي وخارجه، وفي هذا الإطار التقته مجلة اليمامة ودار بيننا هذا الحوار:

بين الأدب والصحافة:

قد تبدأ الأشياء بغير مقصد ولكنها تقودنا أحيانا إلى نتائج رائعة وغير متوقعة؛ يُقال إن سفينتك وهي تبحر بين شواطئ الأدب قد رست على يابسة الرواية بمصادفة محضة، حدثنا أكثر عن دخولك في عالم الرواية.

نعم حدث الأمر بالمصادفة حين زرت إريتريا للمرة الأولى فاحتشدت بمشاعر متضاربة لم أجد بدّاً من التعبير عنها عبر الكتابة الروائية، أما لِمَ الرواية تحديدًا؟ فلربما لأني قارئ جيد للروايات بالأساس، فلم أجد صعوبة في التماهي مع هذه التجربة وخوضها دون تردد، وها أنا ذا أجدني أسير في مشروع ممتد منحني أكثر مما كنت أنتظر وأتوقع، اكتشفتُ أني أكتب كي أرمّم داخلي، وأني أكتب كي انتقم من الخيبات، تلك التي تلتصق بجدران الروح كوشم عتيق، وأكتب لأترك أثرًا، وأكتب كي أجد إجابات على أسئلة عالقة، وأكتب لأني تعرّفت من خلال الكتابة على قيمة أن تكون كاتبا؛ أن تخلق عالمًا موازيًا تكون فيه أنت مالك القرار، البدء والرحلة والمآلات. المتحكّم في المصائر والمشاعر، والعارف بها والمسيّر لارتداداتها، هذه الإمكانية بالغة الاستحالة في الحياة، تمنح الكاتب اطمئنانًا ما، وكأنه يُجرّب الحياة للمرة الثانية، تجعله أكثر استبصارًا بما سيحدث بشكل أو بآخر، لهذا وبقدر ما يفرح الكاتب بإنجاز نصه، يتسلّل إليه حزن ما، لأنه سيفارق عالمه الموازي ويعود ليواجه الحياة بالعزلة التي كان عليها.

لا شك أنك استفدت كثيرًا من موهبة البحث ومهارة الاستقصاء في بعض رواياتك، لكن هل كان عملك الصحفي دائما مؤثرًا بشكل إيجابي في إبداعك الروائي؟

خدمتني الصحافة كثيرًا، خاصة فيما يتعلق بطرق البحث والتحضير للأعمال التي تحوي أماكن لم أستطع زيارتها. وكثيرًا ما قلت إني أكتب غالبا عن المكان من خارجه وهذا مرهق ومتعذر لولا المهارات التي قدمتها لي الصحافة، لكن في المقابل أحاول جهدي ألا تتسلل لغتها إلى كتابتي الروائية وتطغى على لغة الأدب.

بين صفحات رواياته:

في ”سمراويت”، رأينا حياة البطل منقسمة في ثنائية متقاطعة، بين جدة وأسمرا، حالة تنازع بين الوطن والغربة، فهل كنت تكتب عن نفسك، أم أن التشابه غير مقصود ومن قبيل المصادفة أيضا؟

كل كتابة في ظنّي هي كتابة بالغة الذاتية مهما أردنا غير ذلك، وبغض النظر عن الموضوع. نكتب عن الآخرين فتتسلل الذات وتستقر بين الأحرف والسطور. لا كتابة تنجو من تطفل الذات. ومع هذا دعني أقول إن ”سمراويت ليست سيرة ذاتية لكنها غرفت مما جرى بالتأكيد، وغرفت مما لم يحدث أيضًا.

في رواية ”مرسى فاطمة؛ كتبت عن أماكن لم تعرفها من قبل، لكنك نجحت ببراعة في إيهام القارئ بأنه يقرأ شيئًا يحدث أمامه بالفعل، فكيف اقتربت من عوالم الإتجار بالبشر وعصاباتها؟

هذا يعيدني لهبة الصحافة لي، وهو أمر بالمناسبة حدث في معظم أعمالي وليس في مرسى فاطمة وحسب، الكتابة عن المكان من خارجه لم تكن لتحدث لولا استنادي على ما علمتنيه الصحافة طوال سنوات، وأخصّ هنا الصحافة الورقية التي كانت بمثابة التأسيس الذي بُنِي عليه كل شيء بعد ذلك.

في رواية ”لعبة المغزل؛ نجحت بمغزلك الحبري في صياغة التشويق وخلقت روحًا أدبية متفردة أخذت القارئ إلى حد الدهشة، أشرت إلى فكرة التزييف الحاصل في كتابة التاريخ مثلما فعلها الإيطالي أمبرتو إيكو في روايته ”مقبرة براغ، هل تتعمد أن تروض السياسة لتطل برأسها عبر أعمالك الابداعية، أم أن السياسة تطغى على كتاباتك بلا قصدية منك؟

حدث الأمر بالمصادفة لكنه استمر كمشروع لكتابتي، فقد وضعت إريتريا والإضاءة على إنسانها وما كان عليه أو يمر به أو يطمح إليه مادة أساسية لحكاياتي. لا أفعل هذا وحدي، بل كلّ الكتّاب الإريتريين. تمر البلاد بظروف صعبة بحيث يصعب على أيّ كاتب أن يتجاوزها إلى قضايا هامشية. لكن من المهم مع ذلك ألا تتحول الروايات إلى منشور سياسي وتفقد الصنعة الأسلوب الأدبي الذي يجب ألا يغيب تحت أيّ ظرف.

في رواية ”رغوة سوداء؛ اخترت قصة لجوء الإريتري إلى بقعة حساسة، إنها أرض فلسطين المحتلة أو إسرائيل، فما الذي دفعك لكتابة هذه الرواية؟ وكيف تلقيت ردود الأفعال بعد نشرها؟

العام 2015، كنتُ متأثرًا بمقتل مهاجر إريتري على يد القوات الإسرائيلية ظنًا منها أنها تقتل فلسطينيًا كانت تطارده. تأثري لم يكن فقط بسبب الحادثة وإنما بما تلاها من ردود أفعال هوّنت من الخبر، بل وتندّرت به، لأنّ القتيل كان مهاجرًا غير شرعيّ. عبّرتُ عن حزني وعن غضبي بكتابة مقال مطوّل أشرح فيه أسباب هجرة الإريتريين إلى فلسطين، لكنّ ذلك لم يكن كافيًا لتفريغ مشاعري، حتى جاءت فكرة الرواية، وكانت الطريقة المثلى لقول كل الأمور العالقة في ذهني. لكن في المقابل لم يكن ذلك سهلًا؛ فقد كان من المهم ألا أنقاد لحالتي الشعورية فأكتب ما يُشبه البيان الغاضب الخالي من الفنيّات. كان مهمًا ألا يغيب الفنّ وأنا أكتب بغضب وحزن، لهذا انتهى بي الحال إلى إهداء الرواية إلى روح الشاب الإرتري القتيل ”هبتوم ولد ميكائيل.

في رواية ”رامبو الحبشي؛ قمت بإعادة الاعتبار لامرأة هررية رافقت شاعر فرنسا آرثر رامبو خلال سنواته الأخيرة في الحبشة، كما أعدت الاعتبار لمدينة هرر، التي كانت بمثابة مكة الإفريقية حيث يحرم على غير المسلمين دخولها، حدثنا عن دوافعك لكتابة هذه الرواية؟

لم يكن يخطر ببالي وأنا أقرأ كتاب آلان بورير ”رامبو في الحبشة أني سأتعثر بين سطوره بفكرة روايتي المقبلة، حتى قابلتني جملة تحكي عن رفيقة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو في الحبشة على لسان أحد أصحابه يقول فيها ”وكانت لديه عشيقة حبشية أحسن معاملتها. أذكر أني طويت الكتاب ووضعته جانباً كي أتفرّغ للأسئلة التي تتقافز في رأسي؛ لماذا لم يذكر اسمها؟ ولِمَ إحسان معاملتها يستحق التنويه، أوليس هذا هو الطبيعي؟ ثم كيف عشيقة لرجل اشتهر بمثليته؟ هنا أدركتُ أني أمام قصة منزوية في الظل تنتظرني لأحملها إلى الضوء، وهو ما أتمنى أني استطعتُ فعله. ما كتبته في هذه الرواية هو تخييل يستند على جانب مما جرى حقيقة، لكنّ الواصل إلينا من معلومات لا يتيح معرفة دوافع الرجل على وجه الدقة. حاولت في الرواية أن أجيب على هذا السؤال بطريقة أو بأخرى، لكنها تظل محاولة روائية تميل لصالح الاحتمال أكثر من المعلومة، وهذا ديدن الفن في اعتقادي.

داخل الوطن وخارجه:

في معظم مؤلفاتك نجدك تكتب عن إريتريا، وقلت عنها يومًا إنها ”الوطن المؤجل الذي أنتظر حلوله كما نشتهي، فهل تفتقد إريتريا؟

أكتب بالأساس لأني مهجوس بفكرة الإضاءة على بلدي إريتريا، الناس والأشياء والشجر وحجارة الطريق. هذا هو مشروعي الذي اخترته من البداية ولا أزال أسير على دربه. صحيح أن الأفكار تتنوّع وطريقة الاشتغال مختلفة في كل مرة غير أنّ الوجهة واحدة. إذن أنا أكتب إريتريا التي أعرف وتلك التي أجهلها. أكتب حبي لها وكرهي أيضا. أكتب ما جرى ويجري وما أظنه سيجري، أكتب كذلك ما أعرف تماماً أنه لن يحدث على الإطلاق.

اخترت العربية دون التيجرية أو الإنجليزية لكتابة رواياتك، رغم أن جميعها لغات رسمية في إريتريا، ألا ينتقص ذلك من رصيد قرائك في الداخل، لا سيما وأنك تكتب عنهم في المقام الأول؟

أكتب العربية لأنها لغة وجداني، وهو ما يحدث مع غالبية الأدباء، دائما هناك لغة للأدب متصلة بالشعور، ولهذا وجدت الترجمة، كي تجعل الأمر يمرّ دون تأنيب ضمير، هناك محاولات لترجمة أعمالي إلى اللغات المحلية في إريتريا ومنطقة القرن الإفريقي، وإن كان الناس هناك في غالبيتهم يقرأون بلغات أخرى كالعربية والإنجليزية.

كيف تقيّم مستوى الأدب والشعر المحلي في إريتريا؟ ولماذا لا نسمع الكثير من الأصوات الأدبية الإريترية في الدول العربية الأخرى؟

الأدب الإريتري تأخر انتشاره لظروف موضوعية كثيرة، أهمها الحرب التي انخرط فيها الجميع إما قتالًا أو تهجيرًا، ثم جاء جيل اصطدم بمخرجات الاستقلال فاحتاج لوقت حتى يفيق من صدمته. ما أقوم به رفقة بقية الكتّاب هي محاولة إعادة الأدب الإريتري إلى مساره من جديد، أسوة بما فعل الأدباء الأوائل. الجيد في الأمر أننا نشهد هذه الأيام توالي الإصدارات الأدبية وهو أمر يُبشّر بمستقبل منتظر.

هناك أسماء معروفة:-

• أحمد عمر شيخ،
أبو بكر كهال،
حنان محمد صالح،
محمد حسان،
هاشم محمود،
وغيرهم.

وكيف تقيّم حضور الأدب العربي (أقصد هنا أدب الخليج العربي، أو أدب بلاد الشام، أو الشمال الأفريقي) في المشهد الثقافي في إريتريا؟

يصعب قياس حركة القراءة في إريتريا وبالتالي مدى وصول وتأثير آداب المنطقة العربية إليها، فإريتريا كما يعرف الكثير تعيش عزلة سياسية وثقافية يصبح من الصعب معها تطبيع الثقافة ووصولها للجميع.

في رحاب الترجمة:

أنشأت دارًا للنشر مختصة بالترجمة من الألمانية والإنجليزية والفرنسية، فما هي العوامل التي تؤثر في اختيار الأعمال الأدبية المراد ترجمتها؟ وهل تعتقد أن هناك أعمالاً أدبية يجب ترجمتها بالضرورة إلى العربية؟

لدينا في منشورات حياة شعار هو بالأساس طريقة تفكير، يقول الشعار ”ننشر الكتب التي نتمنى لو أننا من كتبها. وبالفعل يتم اختيار الكتب التي نشعر بالغيظ لكون الآخرين هم من كتبوها ولا يخفّف من هذا الغيظ إلا نشرها لدينا.

برأيك، أيهما أهم في الفترة الحالية: أن ننقل ثقافتنا وأدبنا إلى الآخرين، أم أن ننقل ثقافة وأدب الآخر إلينا؟

بظني أنه على الدوام ينبغي أن تسري الحركة في الاتجاهين، الأدب عملية حية عبر الزمن ينبغي ألا تتوقف حركتها جيئة وذهابًا.

في عالمه الكتابي:

قلت ذات حوار: ”الكتابة الصادقة تَغْرفُ من الذات لكنها لا تتوقف عندها، فمتى نرى لك كتابات بعيدة عن ذاتك الإريترية، أم أنك تسير على خطى ”نجيب محفوظ” الذي شقّ من المحلية طريقًا صوب العالمية؟

انا أؤمن بفكرة المشروع في كتابة الرواية، وهو الخط المرسوم سلفًا والذي لا يعارض التنوع والغنى لكنه يحدد ملامح الكتابة وصاحبها، كما أنّ فهمي للأصالة يتطلب أن يكتب الشخص عما يعرف ويحب، أن يكتب انطلاقًا من ذاته وليس كصدى لذوات الآخرين، حتى وإن كتب عنهم.

برأيك؛ هل الروائي يُولَد بموهبته، أم أن الأمر يحتاج إلى دراسة؟

لا يخلو الأمر من الحاجة للاثنين، الموهبة أساس الاشتغال الإبداعي، والدراسة والتطوير والتعلّم المستمر ضمان استمراره. بظني أن الموهبة تتيح كتابة عمل أول لكن عملية التطور والبناء هي ما يتيح خلق مشروع إبداعي مستمر.

ما الذي يعاني منه المشهد الروائي العربي؟

هذا سؤال كبير لا أملك إجابته الوافية، تخطر ببالي أزمات عابرة وأخرى استوطنت لبعض الوقت، لكنها في النهاية قد تكون مجرد انطباعات غير مؤسسة. أرى المشهد يعاني من تأثير الجوائز السلبي، ومن غياب الناقد الحقيقي، ومن دخول النجومية كمعيار لمستوى الكتابة إلى آخر تلك الأمور المقلقة أحيانا.

لو عدنا للصحافة مرة أخرى، حدثنا عن الفترة التي أمضيتها كصحفي في المملكة، وماذا منحتك وقد تماهيت مع الوسط الأدبي والاعلامي؟

أدين لفترة عملي الصحفي في السعودية بالكثير، تأسست في هذه المهنة في رحاب صحيفة المدينة، قضيت سنوات مؤثرة في حياتي إلى اليوم، وهي الفترة التي أتاحت لي بداية أكثر سلاسة في عالم الرواية لقربي من العمل الإبداعي في عمومه.

ختامًا؛ أقتبس من روايتك ”سمراويت هذا السؤال: ”هل لابد أن تكون الأمنياتُ عصية حتى يُصبح لها قيمة؟! كي أسألك عن أمنيتك العصيّة على التحقق حتى الآن؟

لا أملك أمنية عصية على التحقق لأن ذلك يعني يأسي من قدومها، لديّ أمنيات كثيرة بسيطة في غالبها وقريبة طالما أنتظرها أو أسعى إليها، عدا ذلك عدلتُ منذ زمن عن فكرة البحث عن المعجزات أو انتظارها حتى!

Top
X

Right Click

No Right Click