قراءة في برتكولات ضواحي لندن - الجزء الاول

بقلم الأستاذ: محمد قناد

البعض منا يصف بعض احلامه بالفكرة، والفكرة لا يبدأها حلم، لكن الحلم يؤسس علي الفكرة، والفكرة كمنتوج لحالة عقل خصيب،

ونوع من التزاوج بين الذاكرة وعنان الخيال، ينجب وليد هو شرعي ينتمي لبيئة العقل، بشرط ان لا تحمل الفكرة داء البيئة المسببة لموت العقل، ولان اخذ سوالب المحيط في الفكرة يعني خلقتها منقوصة، وستكون حركتها في اطار اللاشعور المجتمعي يسوقها منهجية القطيع، وتصبح تابعه، وهذه ليست فكرة، ولا تملك محددات الفكرة، ولا يمكن تسميتها فكرة.

وما نريد قوله وصياغه هنا عن الفكرة ككل او خاصة، في ظل اشكالياتنا كمجتمع وطني قبل ان نكون مناطقي، وعندما نفكر بأدوات فرضت علينا بدرايتنا او دون علمنا، سنحمل حينها داء فنائنا ونهاية عصرنا، وسننتهي الي ذات نقطة المأساة التي دعتنا للتفكير في الخلاص منها، فكيف يا ترى نفكر دون ادوات التفكير التي اهلكتنا، و اوصلتنا لهذا الدرك السحيق من الرجعية المناطقية، والتفكير اللامبالي بالوطن ككتلة جامعة توحدها استمراريتنا وتشتتها مهدد ومحفز لزوالنا.

ومن الغرابة ان البعض منا لا يخرج من دائرة الواقع المأذوم، يدور حول نفسه داخل الحلقة ذاتها، ولا يحاول الخروج من الدوامة والنظر من خارجها للإشكاليه، وممارسة الكشف الحقيقي الكامل لطبيعتها، فيختار ان يكون جزء من الدوامة، رغم انه ينكرها، لكنه مستعبد لفكرها بوعيه او بجهله، واكثر عبيد الواقع الفكري يجعلون عمق عبوديتهم الفكرية اكبر من عبودية الجسد، فيمارسون التعمق علي سطح التحليل الزائف للمشكلة، ومن ثم انتاج جنين فكري مشوه لن يستطيع السباحة في امواج النقد، فيصبحوا بين خيارين، اما ان يمارسوا النقد، علي ذاتهم، ويعودوا لرشدهم، وهذا مستحيل، حسب ما تعلمنا من نماذج التاريخ الارتري، او لنقل نادر حدوثه، او ينزلوا تحت الارض، ليمارسوا ابشع انواع العمل والفكر علي مدى تاريخ البشرية (العمل السري) وهذا فعلاً ما سيحدث وسيختاروا، كإثبات للذات المريضة بالقراءات السطحية وشعارها (اما انا او العدم)...

فالفكرة التي نحن بصدد مناقشتها الان، قد اشبعت نقدا وتحاملاً علي اصحابها اكثر منها، رغم حداثتها الخطابية وقدمها التاريخي، وهذا متوقع، لان ما حدث من ربكة للساحة الوطنية تستوجب رد فعل غير مدروس في لحظته الاولى، لان الفاجعة كانت اكبر من أي تخيل، ولذلك قررنا سبر اغوار هذا العقل المنتج لتلك الفلسفة، ولن نسلك الالتواءات في تحليل هذا العقل، وسنكون اكثر وضوحاً معه، وشفافين في رسم خارطته، مع تفكيك البناء الواقعي اللاطبيعي الذي يقف عليه، والذي يتخذه كمسوق ومبرر ودافع لنهجه الجديد، النهج الذي يظن اصحابه بان مشروعيته تستمد من الواقع وهذا طبيعي، لكنهم لم يسألوا انفسهم هل هذا واقع طبيعي ام واقع غير طبيعي، لان الكل متفق عداهم انه غير طبيعي، فكيف يسندوا فكرهم لواقع غير طبيعي، إن ثبت لهم ذلك وهذا هو المعروف بداهتا، وهل ردة الفعل التي حدثت نحوهم، كان يمكن حدوثها ان كان الامر طبيعي وما هو اللاشعور الذي حرك الاقلام ضد ما يسمى سيمنار المنخفضات.

يقول هيقل فيلسوف الحداثة، ان التاريخ هو تحالف بين الموضوعية و اللاموضوعية ومن ثم خروج اللاموضوعية من الموضوعية ثم تحالف اللاموضوعية مع الموضوعية وهكذا ...الخ، وليس بعيد عن ذلك التحليل الخلدوني للتاريخ ودورته، وكما تتبناه المدرسة الفلسفية ككل، وبمعيار هيقل وادواته قد نؤسس ونخلق دائرة ضوء علي اهم حدث تاريخي، سيذكر ويقرأ عند كل منعطف في عمر الوطن، ولانه منعطف اجتماعي يتموضع بين الموضوعية واللاموضوعية، نشاذ وتفرد في قباحة المنظر، فموضوعيته انه يقف علي رصيف خطاب سياسي وانساني تأسس نتيجة لظلم اجتماعي لا شك ولا ريب فيه ولا يمكن انكاره او المزايدة عليه، اما عدم موضوعيته او اللاموضوعيه التي يقف فيها، انه يخلق من هذا التراكم التاريخي القريب جدا، مسوق وسبب و اداءة، تخفي خلفها معاول هدم، ان كانوا يعلمون او يجهلون، ولماذا نقول يجهلون وهم يكتبونها واضحة في وثيقتهم، ويقولون بوضوح ان مهمتهم هي وأد المشروع الوطني الكبير، او الحلم الذي سكب من اجله الدماء، و الغريب ان هؤلاء يقولون بانهم يؤمنون بهذه الدماء، ويقولون بانها مقدسة، ولا اعلم كيف اصبحت الارض التي سقيت هذه الدماء غير مقدسة، وقابله للتفكيك و التشرزم.!

وطبيعياً... إن الانسان ما لم يكن جرئ بما فيه الكفاية لن ينتج منتوج فكري صحيح، او يبادر بما عجز عنه الاخرون، والعقل مشارك في هذه المؤامرة ضد صاحبه، لأنه يركن لقول - قال فلان - وقال سلفنا- لكنه لا يستطيع تحمل ثمن قوله لأنه باهظ جدا يتطلب التضحية بالنفس احيانا، والكثيرين رغم علمهم بمشروعية قولهم لكنهم يفضلوا عدم المواجهة، والشجعان اصحاب الضمائر الحية المتقدة بالتفكير الصحيح هم من يتحملون عاقبة واثر اقوالهم، ومنتوجهم الفكري دون زحزحة، ونعترف ان لهؤلاء جراءة في طرح خطابهم الذي نختلف معهم فيه لأسباب سنذكرها في سردنا، وهي التي دفعتهم لهذا النوع من التفكير إن صح وصف تمركزهم بانه تفكير، لكن السؤال هل سيصمدون في ما ذهبوا له من طرح، هنا يبقى المحك للأقلام الناقدة لفكرة المنخفضات، إن كان يأملون في تراجع هؤلاء عن ما ذهبوا له حفاظاً عن الوطن، عن كيف يسوقوا مبررات نقدهم للفكرة.

فالورقة التي خرج بها سيمنار ضواحي لندن، هي محاولة احتجاج اكثر من انها تكون فكرة متسقة مع الواقع، وتحمل بين حديها تناقض فكري، يعجل بموتها المؤكد لكل من تأمل التاريخ وسيرورته، وشخصياً عندما قرأت وثيقة لندن بدأت اقول اين أين قرأت هذه السطور من قبل اين أين حتى وصلت لضالتي وذاكرتي الشاردة عني، فقد كانت هذه الفقرات هي ذاتها التي حملتها الورقة المسماة (الاصلاح الاجتماعي بشرق السودان) ومن سخرية القدر ان ورقة شرق السودان قدمت لعراب اسياس الذي يعارضه هؤلاء (يماني قبر اب) فهي هي، اذ لا فرق في الطرح ولا اختلاف في مضمون وجوهر الرسالة، فكلتيهم يحملان اهتزاز عقلي، وتمركز لا موضوعي يقف علي تناقد اللاواقع، فالكل او اثنيهم يبحث عن دولة العنصر الواحد واللغة الواحدة والدين الواحد والثقافة الواحدة، والتي عرضت علي شاشاتنا لأكثر من عقدين، في اكبر خراب اجتماعي يحدث بمقديشو ذات العنصر والدين واللغة الواحدة، وعندما توحدت شبه جزيرة العرب من حيث اللغة والون والدين والثقافة والعرق، اصبحت القبيلة هي المبرر لأي هجمة بربرية، وكذلك في الصومال، فمن اين نأتي لهم بنموذج يعضد موقفهم، ويشد من ازر رسالتهم، ويقف خلف اطروحتهم الباهته بهاتت تاريخ عصبة اسمرا.

و وثيقة لندن التي تتخذ من الواقع المجروح حصان طراوده، لطرح نقاطها ومبرراتها تنسى وتتناسى جرح الوطن الكامل، وتلتف علي الواقع لتصنع وتعرض واقع مبتور، يدعم منهجيتها في الطرح، فبين اعتراضهم علي سيادة التقرنية كقومية ولغة، تبطن الوثيقة مبرر لم اجد له في علم الاجتماع البشري والفلسفة السياسية والتاريخانيه اثر واضح، فلا يمكن ابدا اعتبار الدين المسيحي عقيده للديكتاتورية الحاكمة في اسمرا، لان الحكم عبر ازمانه يبتدع العقيدة التي يتدثر بها ليحمي السلطة، والسلطة دائما ما تستخدم كل ما هو متاح دون مراعاة، وتمتاز بالانتهازية اللأخلاقيه، ولا اعلم ماذا يكون موقفهم لو اسلم اسياس ودخل في شريعة محمد (ص) تارك شريعة عيسى(ع) المتهمة من قبلهم بهذا الظلم الاجتماعي، وبقى علي نهجه رغم دخوله في الدين الجديد، حينها هل يحق للمسيحين استبطان انه حكم اسلامي، مع العلم ان وثيقة (الاصلاح الاجتماعي بشرق السودان) تشكوا من حكم اسلامي يتحدث العربية في السودان وهي ذات القومية التي تعيش في منخفضات ارتريا التي تئن من ظلم البشير لها، البشير المسلم البشير الذي يتحدث العربية بطلاقة عرابه حسن الترابي المفكر المجدد في عوالم التراث الاسلامي، صاحب اضخم سفر في السياسة والحكم، هكذا السلطة لا تعرف دين معين ولا تدين بشريعة معينة غير دين وشريعة السلطة.

وهكذا بمحاولة تفكيكيه، لنص الوثيقة يمكن الوصول لنوعية العقل الذي برر وجودها في الساحة، فهي شاهد علي طبيعة نمط التفكير البدائي في تناول الاحداث وترجمتها وعرضها وتحليلها وفق ادوات اعتباطية، تؤسس لخطاب بدائي مبدأه الاول القبيلة، او هكذا يقرأ سفرا في ضواحي لندن من تورات الكهنة السبعون الجدد المضللين للناس والأمة، ومن يغفر لهؤلاء فعلهم البدائي هذا، لمجرد انهم مناضلين وابناء شهداء كما يفعلون ويزايدون بدم السالفين، والذي سكب من اجل الوطن الموحد، شاهدين علي عجزهم واستسلامهم الفكري في مواصلة مسيرة اسلافهم ومصير الشهداء، فليبحث كل مؤيد لهم عن عقله الذي رحل الي عصور الظلام والبدائية القبلية.

اما نحن سنغني خلف رسول الاغنيات وجذوة النضال ادريس نورس الساحل وايقونة الثورة

ينكافلا وينسلم ايدينا افوتو اب ثورتنا تلهينا
نتكريا ثورتنا وات قبيها نبلسا
اندي ينبل متاحت واندي ينبل كبسا

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click