إزالة الإشكال بين مفهومي الحرية والاستقلال

بقلم الأستاذ: ياسين حامد - أبو يـزن

العلاقة بين بين الاستقلال والحرية هي علاقة الوسيلة بالغاية، وغاية المرء هي أن يعيش حراً،

فما دامت الغاية نبيلة فالوسيلة مشروعة. فالحرية كانت ملازمة للإنسان منذ أن وجد، وعندما جاء الاحتلال أوالاستعمار ـ كما يحلو للبعض أن يسمه ـ مؤخراً فسلب بعض الشعوب حقوقها وقيد حرياتها، سعت إلى الاستقلال لاستعادة حرياتها. لذا لم يكن للاستقلال وجودًا في معاجم اللغة العربية القديمة ولحداثته ألحق بالمعادم الحديثة بمفهومه الحالي (السياسي).

فالاستقلال يعني استكمال الدولة سيادتها وانفرادها بتدبير شؤونها الداخلية والخارجية بنفسها - لا تخضع في ذلك لوصاية أو رقابة دولة أخرى عليها - معترف بها دوليًا بحدودها القائمة، وتعامل معاملة مثيلاتها على قدم المساواة في الأعراف الدولية بغض النظر عن حجمها. فهو نقيض الاحتلال والوصاية الأجنبية على بلد ما.

عيد الاستقلال هو يوم تحتفل فيه الشعوب والدول باستعادة السيطرة على الكيان والكينونة من محتل أجنبي أو وصاية خارجية، ويهدف إلى تذكير المواطنين بهذه القيمة، والعرفان للآباء المؤسسين للوطن بما أنجزوه.

ولكن مالم ينل الفرد حريته فلا معنى للاستقلال الذي كان الغاية منه تحرير الإنسان لا التراب الذي قيمته من قيمة المواطن، وما لم ينل فيه الإنسان قيمته فهمو بلا قيمة. فالاستعمار يظل هو هو، سواء كان المستعمر من أبناء الوطن أومن الأغراب. يقول الشاعر عبد الله البردوني في مقطع من قصيدة طويلة في هذا الشأن:

فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري وهل تدرين يا صنعاء من المستعمر السري!!

ترقـى العـار مـن بيـع إلـى بيـع بــلا ثمن ومـن مستعـمـر غــاز إلـى مستعمـر وطني.

فالاستقلال كما يصفه مصطفى علوش: (هو حالة جمعية ولا علاقة له بالفرد، وليس بالضرورة أن تنعكس قضية الاستقلال منفعة للمواطن الفرد، لا بل على العكس، فباستثناء بعض الدول النادرة التي تحوّلت بعد استقلالها ديموقراطيات تحترم حرية الفرد، نرى في وضوح أنّ معظم مواطني الدول التي استقلت في النصف الثاني من القرن العشرين صاروا يترحّمون على زمن الاستعمار الجميل، بعد أن اختبروا الحكم الوطني والحكّام الوطنيين. فبعض المستعمرين كانوا يتبعون القوانين، أما مع الحكام الوطنيين فلا قانون لهم، وإن وُجد فهم فوقه، وإن طُبّق فاستنسابياً. صحيج أنّ معظم المستعمرين فرضوا ثقافاتهم ولغتهم على المستعمرات، لكن هذه الثقافات في غالب الحالات كانت وسائل تواصل شديدة الإيجابية على الفرد والمجتمع في الدول المُستعمَرة).

أما الحرية فتعني تحرر الفرد داخل المجتمع من القيود القمعية التي تفرضها السلطة على أسلوب حياته أو سلوكه أو آرائه السياسية أو طريقة تفكيره أو معتقده سواء كانت قيوداً مادية أو معنوية والتخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما.

وهي كما قال جان جاك رسو: لا تعني استطاعة المرء فعل كل ما يريد بل ألا يرغم على فعل ما لا يريد.

فالحرية بمعناها الشائع هي أن يتمكن المرء من فعل كل ما يريد، لكن هذا التعريف البسيط يفشل تطبيقه على أرض الواقع نظرًا الى إرادة المرء ذاته والتي قد تكون إيجابية أو سلبية وللتمييز بين الإرادتين يقع الإنسان السوي في صراع بين عقله وهواه، يقول الفيلسوف الفرنسي أندري لالاند: "إن فكرة الحرية المطلقة التي يمكن أن ننعتها بالميتافيزيقية، وخاصة في تعارضها مع الطبيعة تقتضي وجود فعل إنساني محرر من جميع العلل"، أي أن الحرية المطلقة هي استقلال المرء في اختياره لفعل كل ما يريده، وترك ما لا يريده بغض النظر عن الظروف والإكراهات الخارجة عن سيطرته.

والواقع ان حرية الإنسان ليست مطلقة في فهم كل الشعوب ومنطق كل الأمم - وإن بدت كذلك نظريًا - على الأقل عند ممارستها على أرض الواقع، فهي مقيدة بقيود شرعية أو وضعية أو عرفية، تحدد مساره في الحياة بشكل أو بآخر. وهذه القيود في الغالب ضرورية لتصونه ومن حوله من جور الحرية المطلقة، والتي إن أطلقت سينتهك الفرد بموجبها حدود الشرائع والقوانين والأعراف والتي سينتج عنها تعديه على حقوق وحرية الآخرين والعكس صحيح. وعندها ستتحول الحرية إلى الانحلال والهمجية والفوضى والتي سينعكس أضرارها على الفرد والمجتمع.

مفهوم الحرية في الإسلام:

حرية المرء في الإسلام أولى أولوياته وأوجب حقوقه بل وضعها بعض المفسرين مقام الحياة من الموت. ولها صور عدة سنورد فيما يلي بعضا منها:-

أ) الحق في العيش حرًا: كما جاء في خطبة الوداع: "إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا، ألا هَلْ بلَّغْت". وما روي عن عمر بن الخطاب قوله: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".

ب) حُريَّة التملُّك للفرد: أو ما يُسمّى حُريّة المُلكيّة للفرد. يتضح أيضًا من حديث خطبة الوداع أعلاه

حُرية المعتقد: فقد كفل الإسلام للفرد الحُريّة في اختيار عقيدته، ولكنَّ المُسلم يُذعن للقانون الربّانيّ وعبوديّته لله -تعالى-، وقد قال الله -تعالى-: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ). وقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر).

ج) حرية الفكر والتعبير:

كفل الإسلام للفرد الحرية في أن يكون له آراء أو تصورات مستقلة عن آراء الآخرين حول موضوع ما. و هذه الحرية تعد أساس كل الحريات الأخرى، وتقوم على الحوار العقلي بين الناس. وقد أورد الله صورًا لهذا النوع في القرآن، إذ يقول مخاطبًا إبليس: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين).

كما أجاب سبحانه وتعالى طلب نبيه موسى عليه السلام عندما أراد رؤيته بلوغًا لليقين ، فقبل منه الحوار وآتاه سُؤْله. قَال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي...)

واقعنا.. بين الوسيلة والغاية!!

الحلم الذي كان يسعى وراءه أسلافنا لم يظل مؤجلًا، بالرغم من أن السعي وراءه يسحق العناء وربما يرى النور في وقت ما إذا وجدت الأسباب، كما حصل مع حلم الاستقلال.

أحترم الاسقلال وأقف إجلالًا ليوم إعلانه إذا كان يقود إلى الحلم الحقيقي وهو الحرية بإنشاء حكومة للشعب، من قبل الشعب، ومن أجل الشعب - تضمن الحرية والعدالة للجميع، لا الاستقلال بصورته الراهنة يقمع الشعب ويصلب حريته ويصادر ممتلكاته ويهجر أو يغيب قسرًا تحت مظلته!! تبًا لمثل هذا الاستقلال و تبًا لمن يصفق له ويرقص على أنغام أوتاره.

كلنا سمع إن لم يكن رأى مظاهر العنصرية والمتمييز المنظم والتحيز ضد فئة من مجتمعنا الإرتري بعد ما يسمى الاستقلال، فقد زج بكل ذي بصيرة ووعي وإدراك في السجون وربما تم تصفيته هناك في غياب المساءلة القانونية، ناهيك عن العدالة، وكل من سنحت له الفرصة فر قبل أن تطاله يد الغدر تاركًا الأهل والبلد دون أمل رجعة.

فالحرية بمفهومها الصحيح هي الإرادة الحرة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمفاهيم المسؤولية الأخلاقية، والاحتكام إلى اللوائح التوافقية التي ارتضى المجتمع للاحتكام إليها، والتي نشأت على أساس النصيحة والشورى والمجادلة والإقناع، تضمن للفرد القدرة على التصرف بإرادة حرة خارج حدود التاثيرات والرغبات الخارجية وبموجبها يستحق المرء الثناء أو اللوم على أفعاله.

أنا شاهد عيان لكلا المرحلتين الاحتلال والاستقلال ولا مجال للمقارنة إذا ما نظرنا إلى الانتهاكات الجسيمة التي عاناها ـ ولا زال ـ شعبنا في كلا المرحلتين مع قياس الفارق. ففي المرحلة الأولى وإن كان المتوقع من المحتل في مجمله هو القمع والظلم إلا أنه بقارنته بالثاني فكان عادلًا منصفًا. وإن وقع ظلم فله مبرراته، فالمواطنون كانوا ثائرين ضد الاحتلال يحاربونه علانية وسرًا فمن البديهي أن يكون لنظام الاحتلال ردات فقعل على أنشطة المناضلين ضده وتعاطف الشعب معهم، فقد تكون هانك اعتقالات تعسفية في وضح النهار لا اختطاف الأبرياء تحت جنح الظلام وإخفائهم قسريًا، فقد كانت هناك محاكمات ومرافعات ولو صورية، عكس ما يجري الأن!! ولم يكن هناك حرب على الهوية بالصورة الماثلة أمامنا من الواقع المريرالذي نعيشه اليوم. وكل من عاش المرحلتين يدرك الفرق. وما حال المعاهد الإسلامية التي تم إغلاقها وعلماء الدين وغيرهم الذين تم إخفاؤهم قسراً في ظروف لا إنسانية وحرمانهم من من أبسط حقوقهم وتجريم السؤال عنهم عنا ببعيد، بل لهو خير دليل على أن حال المواطن انتقل من سيء إلى أسوأ، وولسان حاله يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما دفعت الثمن الذي دفعته لأجل هذا النوع من الاستقلال. فالظلم ظلمات ولكنه يكون أشد وقعًا عندما يأتي من حيث لا يحتسب!! وفيه يقول الشاعر طرفة بن العبد.

وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةًعَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّد

ومما سبق يتّضح لنا أن الاستقلال السياسي يتعلق بالشعوب والأوطان، ولم يكن للأمم الحاجة للتعرف حتى دعت إليه الحاجة (الاحتلال) وسعت للخلاص منه ومن ثمّ وُجد المصطلح، عكس الحرية فهي قديمة قدم الإنسان، وهي أساس ما يميّزه عن باقي الكائنات وهي الحق الذي لا يجوز التنازل عنه، وما كان السعي إلى الاستقلال إلا لتحقيق الغاية (الحرية).

إضاءة:

فهم الفرق بين الاستقلال والحرية، ينعكس على نسق حياة الفرد، والخلط بينهما يؤدي إلى تشويش الفكر وإرباك المسير. وهذا ما نشاهده اليوم في واقع حياتنا من التصادم بين أصحاب المفهومين. و المؤسف في الأمر هناك فريق في خانة المتفرجين وكان الأمر لا يعنيه (ترك الحلبة للخصم ليقوم بالإحماء فيها وإعلان الفوز) واستكثر على نفسه شرف النزال.

Top
X

Right Click

No Right Click