الشّعب الإرتري بين مطرقة القُوى العظمى وسُندان عملاؤها في إثيوبيا

بقلم الأستاذ: محمد عمر عبدالقادر - كاتب وناشط سياسي ارتري

راج مُصطلح القُوى العظمى منذ عام 1944م، لوصف كل من الولايات المتحدة الأمريكية

والإتحاد السوفيتي سابقا قبل أن يصبح العالم أحادي القطب بعد تفكك السوفيت في بداية العشرية الأخيرة للقرن الماضي وإعلان نهاية الحرب الباردة.

التركيبة الديموغرافية للولايات المتحدة الأمريكية نتيجة لتعدد مستعمريها من أسبان وفرنسيين وبربطانيين، وكذا جلب السكان السود من غرب القارة الأفريقية للعمل في الحقول الزراعية خاصة في الولايات الجنوبية بالإضافة للهجرات المتتالية للأوروبيين ومن ثم من جميع أنحاء المعمورة جعلت المجتمع الأمريكي عبارة عن فسيفساء بشرية مهدت الطريق لمزيد من الإنفتاح على العالم وقبول كل من وطأت قدمه أرض الأحلام ليكون لبنة من لبنات بناء الأمة الأمريكية، إذ أنّ هذه التركيبة بالرغم من تباينها إلا أنها كانت مصدر قوة أمريكا نظرا لتوفر كم هائل من الكفاءات البشرية ومعلومات لا حصر لها عن كافة دول العالم في بقعة جغرافية واحدة وهي حالة لم تتوفر لغيرها منذ الثورة الصناعية، كما أنّ الإنفتاح غير المعتمد على غزو أراضي الغير للإستيلاء على ثروات الأمم الأخرى بإستثناء حالات نادرة، واعتماد سياسة تطويق الكرة الأرضية بالقواعد العسكرية ما بين ثابتة ومتحركة بالتركيز على شرق وجنوب شرق آسيا بغرض كبح جماح النفوذ الصيني المتنامي، والتوسع في المبيعات العسكرية دون اغفال التفوق الإسرائيلي في الشرق الأوسط، مع تطويع المنظمات الدولية واستخدامها كأداة من أدوات الضغط الدولي للسيطرة على الدول والشعوب، والعمل على إستقطاب ثروات الشعوب الأخرى عبر فتح أبواب الإستثمار في السندات الحكومية أو الشركات العابرة للقارات التي تنشط في قطاع البترول، أو القطاع المالي وأخيرا قطاع التكنولوجيا الذي أصبح يقود اقتصادات العالم، كل ذلك جعل الولايات المتحدة الأمريكية قبلة لثروات الدول أما خوفا من قوتها في جلب المتاعب أو طمعا على عائدات الإستثمار في السوق الأمريكي أو كلتيهما.

بسطت الولايات المتحدة الأمريكية سيطرتها على العالم شيئا فشيئا منذ الحرب العالمية الأولى، وهو ما مهد لها لاحقا بإنشاء إدارة استراتيجية داخل وزارة الخارجية الأمريكية تُمسِك بخيوط اللعبة وتحركها حيث تشاء تجنيدا لمن تعتقد سيكون له شأن ليلبي تطلعاتها ويُنفِّذ أجندتها أو التخلص عن كل من يقف حجر عثرة أمام طموحها ومصالحها المتجددة وفقاً لتجدد رؤيتها وسياستها الخارجية، كل ذلك جعلها تنشط لإختيار رجالها من خلال تقسيم العالم إلى مربعات جغرافية، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا داخل القارة الواحدة وكذلك إختيار زعيم زعماء رجالها من المربعات الجغرافية ليكون مرجعية مؤثرة على بقية رجال العم سام، ومبعوثا يحمل رسائلها خارج إطار دبلوماسيتها للعمل في الظل دون أن يلفت انتباه أحد.

عملت أمريكا عبر تنسيق محكم للإدارات ذات الصلة حتى تلك التي لا علاقة لها هيكليا بوزارة الخارجية، على تحليل الشخصيات المستهدفة خلال فترة سبقت فيها دول العالم في دراسة تلكم الشخصيات والسبل الكفيلة للتحكم فيها في كافة الظروف، بشرط تقديم المصلحة الأمريكية على المصلحة الوطنية لتلكم الشخصيات النافذة بغض النظر عن الإلتزام بخط الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يتم إستخدامها عند الحاجة وفق العرف الأمريكي.

الخلفية التأريخية لإثيوبيا والهالة الدينية المزعومة لإمبراطورها السابق هيلي سلاسي جعل الغرب يتعامل معها بخصوصية غير مستحقة ساعدت إثيوبيا في التعامل مع متغيرات المنطقة بعقلية الوصاية خاصة تجاه الجارة الشمالية إرتريا والتي ظلّت تتعرض للهجمات الهمجية بين الفينة والأخرى منذ منتصف القرن التاسع عشر وتوالت مع كل حكام إثيوبيا إلى عهد الوياني والتي دخلت قصر الحكم في أديس أبابا على ظهر دبابات الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا.

تواطأت المملكة المتحدة بالتعاون مع الحكومة الأمريكية وألحقت إرتريا بإثيوبيا فدراليا كخطوة مبدئية للتمهيد لضمها لممتلكات هيلي سلاسي والذي تم في عام 1952م، إذ تم حرمان إرتريا من حق مستحق في الإستقلال كبقية الشعوب الأخرى في تلك الحقبة، إذ حال كل ذلك من تحقيق إرتريا لحق تقرير المصير.

تغاضى الغرب عن الجرائم المروعة التي ارتُكِبَت بحق الشعب الإرتري من قتل وتشريد وحرق القرى، وسُحِل المُواطنين داخل المدن خاصة خلال فترة هيلي سلاسي حين عانى المسلمون أشد العناء إذ كان يُنظَر إليهم على أنّهم مفجري الثورة وحُماتِها في الريف الإرتري بالإضافة إلى التشدد الديني لدى الإمبراطور الهالك، والنظر إليه بعين التقديس جعله يتصرف بعنجهية غير مسبوقة لِوأد الثورة في مهدها.

لا يخفى على أحد أنّ الشعب الإرتري بدأ نضاله سلميا عبر الحراك السياسي خلال فترة الأربعينات من القرن الماضي حين تحرك نفر كريم من الآباء الأوائل مؤسسي تنظيمات الإستقلال حتى وصل الأمر لمخاطبة الأمم المتحدة ولكن تواصل تواطئ الغرب وأغلق أُذنيه لكي لا يستمع لنداء الشعب الإرتري وأنينه جراء الظلم الواقع على عاتقه، لذا لم يكن هنالك بديل آخر غير تنظيم الوضع وتفجير الكفاح المسلّح رغم علمهم بتكلفتة الباهظة ووعورة سبله ولكن لم يكن هنالك بد مما ليس منه بد، فبدأت الثورة في الفاتح من سبتمبر 1961م بقيادة القائد حامد إدريس عواتي ونفر كريم، فأستبشر بها الشعب الإرتري في البوادي والحضر ودعمها مالا ورجالا فأنطلقت رحلة تحرير تراب الوطن حتى تم المراد.

عندما انقلبت مجموعة من العسكر على الإمبراطور الإثيوبي يممت وجهها شطر الإتحاد السوفيتي مظهرة توجهها الأحمر، فتقاطرت عليها الهبات والمنح من السوفيت وكوبا وحتى ليبيا واليمن الجنوبي، دعما لوجيستيا واستشارات عبر خبراء الحرب، فأختارت الثورة الإنسحاب الإستراتيجي بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من تحرير كامل التراب الإرتري لتتمترس في نقفة الصمود مما ساعدها في إعادة تنظيم الصفوف وتقوية البنية التحتية، وإعادة الكرّة ثانية لطرد المحتل البغيض.

لم يتوقف الدعم السوفيتي للدرق حتى بواكير التحرير، ولكن التنظيم المحكم للثورة ودعم الشعب الإرتري اللامتناهي مكّنها من الصمود وكسر شوكة المستعمر.

بعد التحرير أمسكت جبهة التقراي بزمام الأمر في إثيوبيا وبما لها من علاقات سابقة مع بعض الجهات داخل أروقة الإدارات الأمريكية المتعاقبة ومستفيدة من كون إثيوبيا دولة مقر لمنظمة الوحدة الأفريقية سابقا والإتحاد الأفريقي لاحقا، مضافا إليها نظرة الغرب نحوها، جعلها تظهر بأكبر من وزنها الحقيقي مما جعل الوياني تظهر وكأنها حامية المصالح الأمريكية في القرن الأفريقي، كما أن اندفاع القيادة الإرترية بعد التحرير نظرا لقلة خبرتها الدبلوماسية في معالجة بعض الخلافات مع السودان واليمن وجيبوتي أغرى الوياني في أنّ العالم سيُحمِّل وزر النزاع الإرتري الإثيوبي للدولة الإرترية.

فاقت الوياني من سكرتها بإصدار إرتريا لعملتها الوطنية في نوفمبر 1997م، فبدأت في منتصف العام التالي سياسة جدودها المتمثلة في غزو أراضي الغير بحجج لا تمت للحقيقة بِصلة، إلى أن توغلت داخل الأراضي الإرترية في الحملة الثالثة بعد فشل حملتين سابقتين، وتم ردعها نتيجة لتضافر جهود الشعب الإرتري مع قوات دفاعه الباسلة، واجبار حكومة ملس زيناوي للجلوس إلى طاولة المفاوضات والتحاكم عبر المحكمة الدولية التي حكمت بأيلولة جل الأراضي المتنازع عليها لصالح دولة إرتريا.

رفضت الوياني قرار المحكمة الدولية غير القابل للإستئناف بحجج أن المناطق المتنازع عليها هي مناطق تداخل اثني لذا على الحكومتين الجلوس والبحث عن حلول أخرى وهو ما تم رفضه من قبل الحكومة الإرترية وهو رفض منطقي إذ كان ينبغي الجلوس والبحث عن الحلول قبل اللجوء للتحاكم، وكأن الوياني فطنت لهذه النقطة حين تأكدت من فقدانها للأراضي التي احتلتها نتيجة الموجات البشرية للجيش الإثيوبي، متناسية أنها استقبلت قرار المحكمة في بدايته بأهازيج واحتفالات زاعمة أن القرار في صالحها ولكن عندما عادت لأرض الواقع لم تجد أمامها غير رفض قرار المحكمة الدولية.

المؤسف حقا أن المنظمات الدولية والقارية والأقليمية أصبحت أدوات في أيدي القلة، توجهها حيث مصالحها دون النظر للعدالة الدولية وحقوق الإنسان التي تتشدق بها الدول الكبرى، وهو ما بان حينما رفضت الوياني الخروج من بادمي والمناطق الأخرى.

عندما تم انتخاب ابي أحمد رئيسا لوزراء إثيوبيا خلفا لهيلي ماريام دسالنج، وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه نظرا لتحكم الوياني على مفاصل الدولة الإثيوبية التي كانت تحت امرتهم طيلة سبعة وعشرون عاما، فبدأ بتفكيك اللوبيات وإقالة مسؤولي التقراي من الوظائف الحساسة، فجن جنون الوياني لتتجه شمالا نحو حاضنتها الشعبية وتنغلق على نفسها في مقلي والبدء في رفض القرارات المركزية، إلى أن وصل بهم الأمر تنظيم انتخابات الأقليم دون موافقة المركز، ومن ثم التخطيط للهجوم على القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي والتي تعتبر الأكثر عتادا وتجهيزا، فلم يكن أمام ابي أحمد إلا تنظيم صفوف الجيش وإعادة الهجوم لإستعادة ما فقده نتيجة الهجوم الغادر للوياني.

يعلم المتتبع لمجريات الأحداث حينها أن الوياني تكبدت الخسائر الفادحة سواء كان ذلك على المستوى العسكري أو الشعبي وتم تدمير البنية التحتية للتقراي، ففقدت قيادات مهمة وكان البقية قاب قوسين أو أدنى من الأسر أو القتل، حينها تحركت أمريكا على عجل موعزة لقاعدتها في جيبوتي بإرسال طائرة لنقل وفد الوياني نحو بريتوريا وضرورة توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والتى بموجبها تم الإتفاق على تسليم الأسلحة الثقيلة للوياني وإعادة دمج بقية القوات مع تعيين حاكم آخر بدلا عن دبريظين، إذ أنّ إختيار قيتاشو ردا لم يكن مصادفة بل هو عمل مرتب له ليكون الوجه الجديد القديم لتمثيل الأقليم ومن ثم تسويقه ليجد القبول من الأحزاب الأخرى من خارج الأقليم حتى يكون مشروعا لرئيس وزراء قادم لقيادة إثيوبيا نحو مهلكة جديدة.

وزارة الخارجية الإرترية عليها البحث عن العداء غير المبرر للحكومات الأمريكية المتعاقبة تجاه الشعب الإرتري ودولته، لذا عليها إقامة علاقات وثيقة مع مراكز الضغط لبحث الأسباب المنطقية إنْ وُجِدت والعمل على معالجتها دون الإنتقاص من سيادة الدولة الإرترية التي لم يهنأ شعبها بالإستقرار نتيجة التقاطعات في العلاقات الدولية، مع العمل على إنشاء لجان مشتركة في المجالات التنموية بحيث ينعكس ذلك في تحسين الوضع الإقتصادي للبلد، قد يكون لدى الحكومة الإرترية بعض الهواجس تجاه العلاقات المفتوحة مع دولة كأمريكا والتي تُجِيد التغلغل وسط المجموعة القيادية لأية دولة ومن ثم التلاعب بها لصالح الأجندة الأمريكية، ولكن حماية القيادات من الإختراق والتلاعب هي مسؤولية الجهات المختصة بالأمن القومي، كما يجب عدم إغفال التوازنات الجيوسياسية والتقارب مع القوى الصاعدة والبعد عن الإنكفاء الداخلي الذي أفقر الشعب الإرتري والإستفادة من المهاجرين الإرتريين عبر تسهيل التحويلات المالية الرسمية كجزء من المساهمة في دوران عجلة الإقتصاد بأتمتة النظام المصرفي، وتوفير العملات الأجنبية التي تساعد في استيراد السلع الأساسية بدلا عن البحث عنها في دول الجوار بطرق غير رسمية، كما ينبغي على الحكومة تنشيط العلاقات البينية مع دول المنطقة وتوطيدها، إذ لايمكن أن ننسى ما تعرض له مندوب دولة إرتريا من إهانة عندما تم إخراجه من إجتماع دول الإيقاد بينما تتحرك هذه الدول الآن لإعادة إرتريا إلى المنظمة، لذا لا بد من الإنفتاح على الجميع لكي نتجنب الإصطفاف ضد المصالح الوطنية من قبل دول المنطقة، والإبتعاد عن المحاور المتضادة إلا في حالة الضرورة القصوى، إذ ليس من الصعوبة في عالم اليوم أن يكون لديك علاقات جيدة مع أمريكا وإيران، والصين وتايوان وروسيا وأوكرانيا في نفس الوقت ،إن كنت تجيد الدبلوماسية.

الخطر الوجودي للدولة الإرترية يأتي من الحدود الجنوبية، وهو ما تم ويتم عبر كافة الحِقَب السابقة من غزو سواء كان على سدة الحكم في إرتريا الجبهة الشعبية أو غيرها فالأمر سيان لدى التقراي التي تبحث عن حق غير مستحق مستخدمة ضعاف النفوس من أبناء إرتريا أو بعض التقراي مواليد إرتريا متحدثي التقرنية بلكنة إرترية وإظهارهم بمظهر المعارضة الإرترية، عليه فإنّ الجميع أمام مسؤولية تأريخية للحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع الإرتري والنأي عن المفاهيم الضيِّقة التي لا تخدم إرتريا أرضاً وشعباً.

Top
X

Right Click

No Right Click