إشكالية المواطنة في إرتريا

بقلم الأستاذ: النور محمود

المواطنة كما هو معلوم تقوم على الحقوق المتساوية لمواطني الدولة المعنية حيث يجب أن يعاملوا من قبل النظام السياسي على قدم

المساواة وأن ينظر إليهم هكذا من غير تمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون وأما إذا إختل هذا المفهوم كأن يكون هنالك مواطنون من الدرجة الأولى وآخرين من الثانية... الخ سواء كان ذلك قائما على أساس الدين أو العرق أو اللون فإن هذا من شأنه أن يطعن الوحدة الوطنية في مقتل، وإذا لم يتم تداركه بإقتلاع مثل هذا النظام من جذوره ومن ثم إرساء نظام سياسي عادل ينظر إلى مكونات مجتمعه بمنظار العدل يكون مصير مثل هذه الدولة التفكك والأنشطار بغض النظر عن الماضي.

إن المجتمعات في هذا العصر قد أدركت حقوقها الأنسانية الأساسية وتعلم تماما ما عليها من واجبات تجاه دولتها الوطنية وأمتها ولم يعد ينطلي عليها خبث حكامها فيما يضعوه من برامج خبيثة تخدم مخططاتهم العنصرية أو الدينية وأخرى ملهية تلهي الفئات الحية في المجتمع حتى لاتلتفت لعوار النظام مما يطيل بقاءه في الحكم الوطن الإرتري وجد بشكله الموحد وبحدوده الجغرافية هذه بواسطة الإستعمار الإيطالي، وطوال فترة الإستعمار الإيطالي كانت تسود مكونات هذا الكيان الوليد علاقة هادئة مصحوبة بالريب وتتخللها بعض المواجهات العنيفة في بعض المواقع إلا أنه وعندما جاء الإنجليز وحشر النظام الأثيوبي أنفه في الشأن الإرتري ظهر ضعف الروابط التي تجمع بين هذه المكونات حيث حصلت الإستقطابات وتبعا لذلك المواجهات السياسية ثم المسلحة مما زاد الثقة بين مكونات المجتمع الإرتري ضعفا وتجلى ذلك في ظهور زعماء أكلي قوزاي وهم ينادون بدولة تجراي تجرنيا، وزعماء وقساوسة الحماسين ومعظم شعبهم ينادون بالإنضمام والوحدة مع أثيوبيا وتكوينهم مجموعات الشفتا والتي باشرت الإغتيالات للمخالفين لهم وخصوصا زعماء المسلمين الذين رفعوا شعار الإستقلال الكامل لإرتريا أرضا وشعبا ومن خلفهم شعبهم، كما قام الشفتا بنهب أعداد كبيرة من الثروة الحيوانية للمسلمين.

وأخيرا إنتهى الأمر بالمسرحية الهزيلة بضم ارتريا الي إثيوبيا بما سمى بالفدرالية وكان أبطالها الأثيوبيون والمسيحيون الإرتريون والإنجليز وهكذا أدخلت ارتريا في نفق مظلم إلى أن لاح في الأفق النور بإعلان الثورة على يد القائد الفذ حامد ادريس عواتي ورفاقه، وقامت الثورة وترعرعت وقوي عودها على أكتاف المسلمين وفي مناطقهم وبالتالي قاسى شعبهم من ردة الفعل الأثيوبية والتي تمثلت في القتل الجماعي وحرق القرى والمدن مما أعقب اللجوء والنزوح ومن ثم الفقروالجهل وعدم الاستقرار وتشتيت الأسر. وطيلة الخمسة عشر عاما الأولى كان قادتها ووقودها هم المسلمين ماعدا القليل من أبناء المسيحيين الذين إلتحقوا بالثورة بعد عام 1965م، وإنخرط السواد الأعظم منهم في أجهزة النظام الأثيوبي القمعية مثل البوليس والكوماندوس والذين تم إستخدامهم ضد الثورة، وحالما أدركوا أن الثورة كادت أن تحقق أهدافها إلتحقوابها وعندها رحب بهم المسلمون وعاملوهم كما يتعامل الإخوة بل قدموهم عليهم بحجة أنهم متعلمون ولم يتوجسوا منهم مما يدلل على حسن طوية المسلمين نحوهم وحرروا الوطن معا.

ولكن هل هذا هو الوطن الذي حلم به الإرتريون عموما والمسلمون خصوصا ؟ هل سرقت مجهودات المسلمين وأحلامهم ؟ هل ارتريا الحالية دولة يتمتع فيها المسلمون بحق المواطنة الكاملة ؟ هل ارتريا الحالية دولة للمسيحيين فقط ؟

التوطئة السابقة كان لابد منها لمعرفة خلفية ما نود التحدث عنه وهو الواقع الحالي في ارتريا ولتبصير الأجيال الناشئة بدور المسلمين الإيجابي في صنع ارتريا الحرة المستقلة أرضا وشعبا قديما من خلال الرابطة الإسلامية وكفاح زعمائهم داخليا ضد حزب أندنت وخارجيا ضد أطماع أثيوبيا ومن كان وراءها،وحديثا بتأسيسهم الثورة وتحمل تبعاتها بعد فشل الجهاد السلمي وكانوا وقودها حتى حققت أهدافها،ودور المسيحيين السلبي قديما من خلال التحالف مع أثيوبيا ضد أبناء وطنهم والدعوة للوحدة معها ومحاربة المسلمين بشتى الوسائل، وحديثا إلتحاقهم بالثورة وممارسة التخريب الممنهج للنسيج الاجتماعي للمسلمين عقب هيمنتهم على الثورة ومقاليد الأمور في ارتريا الدولة.

وللإجابة على التساؤلات السابقة نقول أن الوطن الذي حلم به الارتريون وضحوا من أجله هو الوطن الذي تسوده العدالة والحرية الكاملة للفرد بدءا بالحرية في الحياة بكرامة والتنقل والتملك والتجمع والتنظيم والرأي والمشاركة في السلطة والتعليم والعمل وغيرها من حقوق الانسان المعروفة وهو الوطن الذي يكون مواطنوه متساوون في الحقوق والواجبات ولايتم تقسيمهم إلى مواطنين من الدرجة الأولى يتمتعون بكافة الحقوق وآخرين من الدرجة الثانية مهمشون محرومون من الحقوق الأساسية مع أدائهم لواجباتهم وأزيد، وتهميش تنمية مناطقهم.

وأما بالنسبة للمسلمين على وجه الخصوص فالوطن الذي جاهدوا من أجله منذ الأربعينات وحتى الاستقلال علاوة على ما سبق هو الوطن الذي يتمتعون فيه بالمواطنة الكاملة على قدم المساواة مع شركائهم من المسيحيين من خلال المشاركة الفعلية في السلطة وفقا لثقلهم الحقيقي في ارتريا وتنمية لمناطقهم التي حرمت منذ الاستعمار الأوروبي ثم الأثيوبي بسبب الحرب، ثم التمييز الطائفي للجبهة الشعبية ونظامها المسخ الذي وجد، والذي لايشبه الشعب الارتري.

وبالتالي يمكن القول أن مجهودات المسلمين في الوحدة الوطنية وإيجاد الوطن المستقل من قبل ذلك ثم إعلان الثورة وإنخراط المجتمع المسلم بكلياته فيها أينما وجد ورفدها بالغالي والنفيس حتى حققت هدفها الرئيسي في جلاء الاستعمار الأثيوبي البغيض يمكن أن نقول أنها سرقت بواسطة مجموعات إندست في الثورة وكانت وراءها جهات خارجية وإنحرفت بالثورة عن مسارها الوطني من خلال الإنحراف الفكري والثقافي بعد أن تمكنت من التسلق إلى قمتها وبالنظر إلى الوضع الحالي في ارتريا فإن واقع المسلمين الحالي يقول أنهم مواطنون من الدرجة الثانية في وطنهم وطن آبائهم وأجدادهم عبر التاريخ، الوطن الذي أوجدوه هم بالدرجة الأولى عبر التضحيات التي ذكرناها على إمتداد تاريخ ارتريا الحديث، الوطن الذي رووه بدمائهم الغالية الوطن الذي حلموا به أن يكون بوتقة جامعة لكل مكونات المجتمع ويسوده العدل والتنمية المتوازنة والحريات وتسوسه سلطة تنظر لشعبها وتعامله على قدم المساواة . ولكن الوطن الحالي أصبح طاردا للمسلمين لأنهم لايجدون فيه أنفسهم، كل شيئ فيه غريب، اللسان ليس لسانهم العادات والتقاليد الاسلامية السمحة حوربت وحلت بدلا عنها عادات وتقاليد وثقافة غريبةعلى المجتمع كما أستهدف الدين الاسلامي بدءا بالمشايخ والدعاة ثم المؤسسات الاسلامية من خلال إغلاق بعضها والتضييق على الآخر ثم فرض التعليم بلغة الأم التي لاتجدي نفعا بل تكرس الجهل في المجتمع، وأخيرا عدم قبول إعادة اللاجئين من المهجر إلى وطنهم حتى لايحدثوا تأثيرا على برنامج النظام الطائفي وإختلالا بالتوازن الإجتماعي الذي بنت عليه الجبهة الشعبية سياستها في خلق دولة يهيمن عليها المسيحيون وزيادة على ذلك أن مناطق المسلمين حرمت حتى الآن من التنمية الحقيقية والخدمات مع كونها مصدر الموارد كافة في ارتريا (زراعة، تعدين، ثروة سمكية، ثروة حيوانية) أما المشاركة في السلطة فحدث ولاحرج حتى في مناطق المسلمين الموظفون الصغار من المسيحيين ناهيك عن الكبار، وإن وجد مسئول من أبناء المسلمين في منطقة ما تجده منزوع الصلاحيات حيث تجد تحته مباشرة مسيحي لديه صلاحيات أكبر منه وإذا تجرأ المسلم وحاول فرض شخصيته بإتخاذ قرارات يتم تغييره أو بتلفيق تهمة عليه وإيداعه السجن.

كل هذه المعطيات تدل على أن المسلم في ارتريا يعتبر عملياً مواطنا من الدرجة الثانية مطلوب منه أن يؤدي كل الواجبات المفروضة عليه ولا يعطى من حقوق المواطنة إلاَ النذر اليسير وللإجابة على التساؤل الأخير أقول : نظرة فاحصة ودقيقة ومتأنية للواقع السياسي في ارتريا الحالية تؤدي إلى نتيجة مفادها أن دولة ارتريا الحالية دولة للمسيحيين فقط، أو الواقع الراهن يكرس لذلك ويتجلى ذلك بالنظر في مفاصل الدولة المختلفة، مثلا: في المجال السياسي أكثر من 70% تقريبا من الوزراء والدبلوماسيين وحكام الأقاليم من المسيحيين، وفي المجال العسكري والأمني حدث ولاحرج أكثر من 80% من المسيحيين، ويسيطر المسيحيون أيضا في مجال الاقتصادعلى شركات النظام والحزب، علاوة على حصر الرخص التجارية للاستيراد والتصدير على التجار المسيحيين بنسبة تفوق الـ 90%، مع الإشارة إلى أن البنك العقاري مخصص لإقراضهم، وفي مجال الخدمة المدنية والخدمات بنسبة 60%أو أكثر للمسيحيين.

توصلت إلى هذه النسبة التقريبية لهيمنة المسيحيين على مفاصل الدولة من خلال متابعتي لوسائل الإعلام المختلفة للنظام خلال السنوات الثلاثة الماضية، وكنموذج يمكن ذكر الآتي : تابعت في الفترة من أول يناير إلى نهاية ديسمبر 2009م النشرة الرسمية بالعربي للتلفزيون الارتري بشكل شبه مستمر وكنت أسجل اسم كل مسؤول وصفته ومجال ومكان عمله، ومن ذلك في إقليم القاش بركا 46مسؤولا من حاكم الإقليم إلى مسؤول ضاحية 9منهم فقط مسلمون !! والحال أن غالبية سكان الإقليم من المسلمين.

والقضية الأخطر تتمثل في توطين المسيحيين على أراضي المسلمين والاستيلاء على مزارعهم ومراعيهم بل وبيوتهم في المدن حيث تنزعها سلطات النظام تحت ذرائع مختلفة لتعطيها لمسيحين بحجة أنهم مستثمرون إذا كانت في موقع إستثماري في السوق أو بالقرب منه وغيرها من الأساليب التي تجعل المسيحيين يشكلون الأغلبية في السوق أو في المدينة، وكل ذلك وفق سياسة مرسومة وممنهجة من قبل الجبهة الشعبية قبل الاستقلال تهدف إلى تهجير المسلمين إلى السودان بشتى الأساليب وتوطين اللاجئين في السودان والحيلولة دون عودتهم وإعادة توطين المسيحيين في أراضي المسلمين وتمليكهم ناصية الاقتصاد بالإضافة للسلطة والأمن وبالتالي تغيير الخارطة الديمغرافية للبلد لتكون لصالح المسيحيين، وفي سياق آخر هناك التغيير الجغرافي للأقاليم حيث ضمت الجبهة الشعبية مناطق من إقليم سرايي وحماسين إلى القاش بركا لتدخل قرى مسيحية فيه وبالتالي تضمن غالبية للمسيحيين ويكون مبررا للتوطين والنزوح، وكذالك فعلت في إقليم عنسبا، وضمت إقليم سمهر إلى الساحل الشمالي، وكل ذالك لأغراض هيمنة المسيحيين.

ومن المظاهر التي تدل على أن الدولة للمسيحيين : الإعلام حيث 90% من البرامج تقريبا تمثل ثقافة المسيحيين وتقدم بلغتهم، واللغة العربية التي أقرت في البرلمان الارتري في الخمسينات لغة رسمية مع التقرنية محاربة لأنها تمثل لغة المسلمين، حتى في المؤسسات الرسمية يقال لك تحدث بالتجرنية أو إئتي بمترجم !! بل ويستغرب الموظف إذا قلت لاأعرف التجرنية بقوله: ألست إرتريا؟ كيف لاتعرف التجرنية ؟ وحتى المواطن المسيحي العادي يقول ذلك !!

ومن المظاهر البارزة الجمعية الطوعية الصحية تسمى (الصليب الأحمر الارتري)! وكأن سكان ارتريا كلهم مسيحيون !! في حين جبهة التحرير سمتها في وقت مبكر (الهلال والصليب الأحمر الارتري) تجسيدا للواقع الارتري.

ومن المظاهر: الاحتفالات الرسمية للدولة حيث نلحظ الطابع المسيحي الذي يطغى عليها والصورة التي يعكسهاالاعلام للعالم الخارجي والتي توحي بأن الدولة مسيحية وأبرز مظهرهوأن اللغة الرسمية للنظام هي التجرنية، أيضا بناء الكنائس الجديدة في مواقع بارزة من المدن والقرى دون قيود حتى التي لم يكن بها سكان مسيحيون، وبالمقابل تفرض القيود والأغلال الصعبة على بناء المساجد.

كل هذه وغيرها كثير تجعل المسلمين الارتريين يشعرون بأنهم أمام وطن للمسيحيين فقط، هم المهيمنين على مفاصل الدولة والحياة الاقتصادية والاعلامية والتعليمية، ووحدهم أصحاب الحظوة بالخدمات كافة والتنمية، وثقافتهم هي المفروضة على الكل والخلاصة أن المسلمين مواطنون من الدرجة الثانية وإذا لم يعجبهم هذا الوضع فليبحثوا لهم عن وطن آخر غير ارتريا إسياس وزمرته وبذلك تكون الوحدة الوطنية قد ضربت وبالتالي النسيج الاجتماعي المترابط سوف يتفكك والمواطنة ستتلاشا إذا لم يتدارك العقلاء من الارتريين المخلصين من الطرفين لإيقاف هذه الحالة بإنهاء نظام الجبهة الشعبية ومحو آثاره السيئة على الوطن والمواطن وإعادة الإعتبار للمواطنيين عموما والمسلمين خصوصا حتى تستقيم الأمور وتأخذ كل مكونات المجتمع الارتري حقها حسب حجمها ونسبتها الحقيقية من جملة السكان بعد السماح بعودة اللاجئين المنتشرين في دول الجوار والعالم وإجراء إحصاء سكاني بصورة علمية ودقيقة.

Top
X

Right Click

No Right Click