كرن تودع احد ابنائها البررة يستحق لقب (حمامة المسجد) تاريخه النضالي ناصع

بقلم الأستاذ: عبدالقادر شيخ حسين شيخ زايد - أبو رأمي

فقدت كــرن صباح الامس احد مشاهيرها واحد اعيانها واحد اقدم المناضلين واحد مثقفي جيل الستينات.

سليمان موسي حاج

بالرجوع لسيرة الراحل العم سليمان فقد كان من مواليد 1937 وما لايعرفه الا القليلون عنه انه كان من مواليد مدينة القضارف السودانية حيث قدم الى كرن وعمره لايتجاوز الثلاث شهور قد يستغرب الكثيرون من هذه المفاجأة في ولادته والسبب في هذه الولادة بالقضارف السودانية ان والده موسى حاج (رحمه الله) كان من اقدم من خدم في الجيش السوداني وذلك في عام 1919 وبذلك يكون سبق جيل الرعيل الاول من مناضلي الثورة الارترية في الانضمام للجيش السوداني وحتى انه كان اسبقهم بالعودة للوطن ومازالت شهاداته ونياشينه محفوظة حتى اليوم ويحكي لي الاخ ياسين نجل الراحل سليمان موسى ان جدته عندما قدمت لارتريا في تلك الحقبة كانت شديدة الحرص على وثائق زوجها خوفا من وقوعها في يد الاحتلال وكانت قامت بدفنها فترة اقامتها بإرتريا حتى انها عندما عادت للسودان اصطحبتها معها وبروزتها وزينت بها رسومات بيتها في القضارف.

كان العم سليمان رجل الاخلاق والطيبة والصبر والاناة والحكمة.

اذا دعي في مجلس للشوري او للتفاكر في مايخص المدينة او مجلس الاوقاف او مجلس صلح فمن طبعه عدم التسابق في التحدث يصغي اليك بكل جوارحه بتروي وتؤدة وعندما يرفع يده مستأذنا للحديث يكون حديثه مسك الختام.

الكرم والتواضع والشهامة كانت من سماته يقول عنه اقرب الاقربين اليه ومن المقربين منه جدا الاخ (بشير طعدا) ما لايعرفه عنه الناس انه كان رجلا كريما في الاعمال الخيرية وكثيرا ماتبرع للخلاوي لاسيما تبرعه لمسابقات القرآن الكريم الرمضانيه التي كانت تقام كل عام باشراف لجنة الاوقاف الكرنية.

ومن فترة لأخرى كان يدعم المعاهد واعماله الخيرية اكثر من ان تحصى ولكنه كان رجلا. يعمل في صمت بعيدا عن اعين المراقبين لان عمله كان خالصا لوجه الله.

وهذه الاعمال ان لم يحكها لي قريبه بشير طعدا لظلت في طي الكتمان.

وعندما نذكرها لايقصد منها التباهي بها ـ فالله اعلم بالسرائر ـ ولكن حتى يقتدي بسيرته الاجيال ومن ينوي فعل الخير والسعيد هو من يقتفي اثر هؤلاء.

وكان تبرعه ودعمه ايضا لصيانة المساجد في الريف بما ملكت يداه.

وكانت آخر اعماله الخيرية كما يحكي بشير حيث قام ببعض الصيانات في جامع الصحابة اثناء جائحة كـرونة ويعرف الجميع ان الجامع كان في حوجة لبعض الصيانات.

جعل الله هذه الاعمال الخيرية في موازين حسناته.

منذ مدة والمرض يفت في عضده ولكنه كان يقاوم ولم يحصل ان افطر في رمضان ـ رغم اصابته بمرض السكر منذ سنين طويلة ـ إلا في هذا العام حيث احس بإنخفاض وزنه ولكنه اصر على الصيام وبدأ صومه بالفعل ولكن بعد خمسة ايام عندما بدأ جسده يفتر اضطر ان يفطر.

وهو في هذه الحالة معذور رغم انه لم يكن راضيا عن نفسه ـ لانه اضطر ان يفطر غصبا عنه.

هكذا هم عظماء النفوس يضغطون على انفسهم رغم مابهم من موانع واعذار مقبولة شرعيا.

حكى عنه الاخ الفاضل (محمد بركت) قائلا كان رجلا عظيما بكل المقاييس علما وفهما وثقافة ولطافة وحصافة ويقول عنه الاخ محمد بركت دعني اعطيك مثالا مما كان يتميز به عن الآخرين (اذا جلس مع جماعة ووجدهم يتحدثون عن فلان اوعلان او يغتابون فسرعان ما ينسحب عن ذاك المجلس وبهدوء).

انها تربية فريدة قل نظيرها في هذا الزمان.

كانت علاقتي بالعم سليمان كعلاقة الابن بأبيه او ان شئت قل علاقة التلميذ باستاذه يسودها الود والاحترام.

عندما اقابله لايمكنني تجاوزه وهوكذلك لابد ان نسلم على بعضنا.

رجل يجبرك على ان تحترمه وتقدره حق قدره يتسم بالهدوء في حديثه وونساته تخرج الحكمة من احاديثه واستشاراته ويشهد في مااقوله مكتبه العقاري والاستشاري وكان من مايتميز به في مكتبه انه كان يحمل رخصة التوكيل والتخليص وقد وثق به الجميع بالداخل لاسيما المغتربين واوكلوه عقاراتهم.

كان لهم خير امين ورجل يتسم بالاخلاص في عمله مما جعلهم يفدون اليه الناس زرافات ووحدانا.

كرن برحيله فقدت احد اعمدتها او فناراتها التي كانت تضيئ ليل نهار ليخبوا هذا النجم يوم امس بعد سنوات حافلة بالبزل والعطاء والنضال وخبرة الحياة التي عركته فجعلت منه رجلا لايستهان به.

وسليمان عندما توجه للميدان في ستينيات القرن الماضي كان قد اكمل المرحلة الثانوية وكان يحمل دبلوما من (TTI) في العاصمة اسمرا ولكنه لم يمارس مهنة التدريس بل انخرط مع والده في مهنة التجارة حيث كان والده من مشاهير تجار تلك الفترة بكرن.

مستوى سليمان العلمي اهله ليكون احد زعماء ورواد تلك المرحلة النضالية لأن {العلم نور}.

وعندما قرر الانضام للثورة الارترية في عام 1967 جراء المضايقات التي عاناها في كرن لعمله الثوري بالداخل كان هو ورفيقيه علي محمد صالح وعثمان زرؤوم ـ رحم الله الاثنين ومد في عمر رفيقهم العم علي ـ مسؤولي الامن في قرية وازنتت بأرض اهلنا البيت جوك.

كان رجلا كثير الاطلاع والقراءة ـ العربي والانجليزي والتجرينية. اضف اليها لغات اخرى كلغة امه البلين.

وارى نفسي غير مؤهل للتحدث عن ارثه النضالي ودرايتي بسيطة لان هناك من يعرفونه عن كثب فهم اولى منى وعلينا ان نوثق لمثل هؤلاء رجال.

العم سليمان بعد التحرير استقر في كرن مرتع صباه وفتح مكتبه ونجح فيه كان ومازال هذا المكتب يؤدي دوره الى يومنا هذا واتمنى ان لايتوقف بعد رحيله فللعم سليمان بنين وبنات هم خير خلف لخير سلف والشبل من ذاك الأسد في اقتفاء اثر والدهم.

العم سليمان كان رجلا ربانيا شديد التعلق بالمسجد وشديد التعبد ولحسن حظه كان جارا ل {مسجد الصحابة} ويفصل بينه وبين المسجد شارع حيث المسافة بينه وبين المسجد ثلاثون مترا او اقل.

فكان لاتفوته الصلوات الخمس في مسجد الصحابة ولن تجده الا في الصفوف الامامية وان اردتُ التحديد فمكانه الصف الأول دوماً يقول الحبيب المصطفى (ص) (اذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان).

فالسعيد في هذه الفانية من تزود منها لآخرته منتهجا الوسطيه (جعلناكم امة وسطا) وهكذا كان العم سليمان.

اذكر له موقفا انسانيا قبل ثلاثة اعوام سمع بوفات خالي في حي عد حباب (ابراهيم حامد نور) احد مناضلي الرعيل الاول ومن اخذ التدريب العسكري في سوريا بصحبة المناضل رمضان محمد نور عندما سمع بوفاته ابت له نفسه الا ان يشد الرحال لخيمة العزاء رغم وضعه الصحي ترحم على خالي وحكى لي عن ايامه معه في كرن وفي الميدان.

هكذا كان سليمان موسى حاج رجلا هميما وخلوقا وعظيما.

اما وفاته فكانت حديث القاصي والداني فرغم نحول جسده الا ان ذاكرته كانت قوية ويتحدث معك ويسألك عن الصغيرة والكبيرة ان كان يعرفك ورحل بهدوء صباح امس الخميس.

وبالعودة ليوم رحيله حكيا لي ابنيه (ياسين ومحمد) قالا لقد صلى الفجر وكان وضعه مطمئن ولم يكن يشعر بضيق او علامات توحي بدنو اجله ولكن بعد ساعة ونصف لم يرق الامر لابنائه فاستأذنوه لاخذه للمستشفى ولكن طلب منهم ان لايذهبوا به للمستشفى وكان يتحدث معهم ويسمعونه ولكن ابنائه اصروا فوافق على مضض ومع وصولهم لبوابة المشفى كانت روحه صعدت لباريها فكان لزاما اعادته للبيت وفي خلال نصف ساعة قاموا بتجهيز الجنازة وكان قصدهم عدم ابلاغ الناس جراء جائحة كرونا ومراعات التباعد الاجتماعي.

العجيب والاغرب في الامر لحظة خروج الجنازة كان الشارع يكتظ بالمشيعين يصعب حصر اعدادهم وحتى لحظة وصولهم للمقبرة كانت اعداد المنتظرين في مقبرة دعارب لاتقل كثرة عن الذين حضروا مع موكب الجنازة.

كان رجلا عظيما بحق والحضور خير شاهد واسائل نفسي لو الجنازة حدد لها ان تدفن بعد ثلاث او اربع ساعات لما وجد الناس موطئ قدم في المقبرة.

من سعادة هذا الرجل ان ابنائه وبناته قدموا من رحلة الاغتراب ليطمئنوا على وضع والدهم فحمدوا الله انهم كحلوا اعينهم برؤيته والقرب منه وبوص يده صباح مساء وهو في آخر ايامه حتى ان ابنته الصغيرة (آخر العقود) كانت آخر المحظوظين برؤيته والجلوس معه ومتابعة وضعه عن كثب.

وعند دنو اجله وخروج روحه كانت نفوس ابنائه راضية كل الرضا بقضاء الله وقدره ولانهم كانو معه ولم يبتعدوا عنه (مُوتْمَا مِنْ يِيمَرئِيتْ أبَوَا) لِتْبَهَلْ.

توفى بعد ان ناهز من العمر اربعة وثمانون عام.

ودعته السماء مساء امس بمطر طالما انتظرناها ان تهطل منذ مدة.

رحم العم سليمان واسكنه فسيح الجنان وجعل قبره روضة من رياض الجنة بصحبة النبيين والشهداء والصالحين.

واعزي بدوري لبنيه وبناته واقاربه ومحبيه بهذا المصاب الجلل وانا لله وانا اليه راجعون.

Top
X

Right Click

No Right Click