ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة العشرون

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

الفيلم المشترك: سرحت ُ بخيالي كثيراً، إلا أن الوقت قد مرّ سريعاً، ودون أن أشعر قطعنا القضارف.

ارتريا من الكفاح المسلح الي الاستقلال 2

وأصبحنا على مشارف مدينة كسلا وعندما وصلت إلى مدينة كسلا كان الوقت مساءً.

ذهبت إلى فندق توتيل أي الزهرة، وكنت أنزل فيه سابقاً وأصحابه يعرفونني، ونمت تحت المكيف من شدة الحرارة، وفي الصباح وكنت عادة أستيقظ في الخامسة، أما في ذلك اليوم فقد كانت السابعة.

بعد الدوش السريع نزلت من الفندق وتجولت في سوق كسلا وعندما يتجول الإنسان فيها يجد نفسه في إحدى المدن العربية القديمة، هذا ما يخيّل له، ولا ينقذه من حلمه إلا أصوات السيارات الكبيرة اللوريات، وصوت أجراس الجمال، ثم رأيت بعض الرجال يحملون السيوف الطويلة، والنساء في لباسهن الوطني والصبايا الفاتنات والحنة المنقوشة على أيديهن وأقدامهن، والتي تعطي أشكالاً مختلفة.

والصبية السودانية عندما تتزوج يرسمون على يديها وقدميها أشكالاً هندسية جميلة، ورائحة العطور المحلية تفوح منها، وأما اللباس الذي ترتديه فيعطيها مهابة وجمالاً سحرياً، إن الإنسان دائماً يبحث عن الخفايا وعن المجهول، هكذا هي الحسناء السودانية.

كل أنواع الحضارة متوفرة، الملوخية، الباميا، الفاصوليا والليمون الصغير والبطيخ الكبير، وعندما وزنت احاهما كان وزنها 20 كغ، الله يبارك، ثم القرين والمنكه، الشوارع مكتظة ودكاكين التوابل والبخور والقماش، ونداءات الباعة وترحيب أصحاب المطاعم وهم يدعونك للجلوس، والطعام لذيذ وطيّب، وهو من جميع الأنواع والألوان، الجو مقبول حتى الآن وكسلا تابعة إلى محافظة بورسودان إنها منطقة غنية بالبساتين والزراعة والمياه، وفيها يمر نهر القاش وعطبرة وهذا يأتي من الحبشة وارتريا، فنهر عطبرة يسمى في أثيوبيا تكازي وفي ارتريا يسمونه بركة وفي السودان عطبرة، وأما السودة والكبدة فتشوى بطريقة غريبة، النار أو الجمر توضع فوقه أحجار ملساء، من حجارة الشواطئ والأنهار وتوضب (السودة) أو الكبدة فوقها، بهذه الطريقة وكثيراً من الأحيان توضع فوقها الشّطا الحارة جداً، مع صحن شوربة عدس ولا مانع من أن يقّطع الخبز ويوضع في الشوربة، ويسموّن هذا الخبز الناشف القرقوش وهات يا أكل ويا ماء بارد، وأنا لم أشبع من الكبدة فطلبت صحناً آخر منها، وأحسست بيد تغمّض عيني.

من الخلف وصوت يقول: احزر من أنا يا أبو سعدة؟

عثمان أبو شنب.

وهات يا عناق ويا قُبل وكيفك يا زول؟ أي يا رجل كيفك؟ كيف سورية؟ .كيف الأهل؟ والسؤال يتردّد كثيراً، ومثال على أنواع الأسئلة والأجوبة هذه يقال لك: كيف العائلة؟ أولادك أخوتك بلدك... أمك... أبوك... ويعاد السؤال مرات عدة - وتقول باختصار: بخير وتمدّها.

وهكذا لا نعرف متى ينتهي السؤال لأن شاربيه كبيران، وكثير لا يعرفون اسمه الثاني، وهو رجل عسكري كان في الجيش السوداني، وهو زميل لمفجّر الثورة حامد عواتي.

عثمان أبو شنب يسكن في كوخ من الطين والقش، وهو الذي قاتل الأثيوبيين، وأعدّ الثورة وجاب السول والجبال على مدى عشرات السنين، وهو الذي لا يعرف إلا الحق وكلمة الحق.

درّب مئات الشبان عسكرياً، وهو الذي يسكن في كوخه، كوخ الطين والقش، ولا تجد على وجهه إلا الابتسامة والدعوة والعمل لنيل الاستقلال، وأبو شنب لا يتكلم إلا العربية وباللهجة السودانية، وعندما ذهب إلى اسمرا بعد الاستقلال ضمن وفد من الرعيل الأول، عاد ليستقر في كسلا في كوخ من الطين والقش.

بعد جولة مع المناضل عثمان في كسلا التقينا فيها بكل من الأخيّن أبو طيارة وأبو عجاج، والحقيقة لا أعرف الأسماء الأولى لهذين المناضلين التسمية أتت لأن المناضل الأول كان سريعاً في المشي، ومن لا يعرف ارتريا لا يعرف أن المشي هو الوسيلة الشائعة للتنقل، وخاصة في الريف.

أما أبو عجاج فمن شدة قوته وبأسه سمّي بهذا الاسم، لأنه كما يقولون عندما يتحرك ينتشر الغبار من حوله. وهذان المناضلان من مؤسّسي قوات جبهة التحرير الشعبية.

ودّعت أبا شنب وقلت له: إن لدي أعمالاً أريد أن أنجزها، وبعد خطوات لحقني وقال: أنت ماشي وين؟

كيف تذهب إلى الشعبية؟ لا..لا أسمح لك بالذهاب إلى الشعبية..!

ضحكتُ وقلتُ: نعم! أريد أن أعيش الثورة، بكل فصائلها.

وقضيتُ أياماُ في كسلا ثم ذهبتُ إلى مخيمات اللاجئين في كل من سمسم والقضاريف.

كان اللاجئون بالآلاف لا أستطيع أن أصف مأساتهم إنهم عراة حفاة، الموت يأكل أطفالهم يومياً، وتنقلت في معسكرسمسم، فصرتُ أسمع البكاء والعويل لا طعام، ولا ماء ولا دواء ولا شيء سوى الموت..!

إنها مجزرة لقتل الإنسان والإنسانية، وهذا ما بقي في ذاكرتي وأعماق نفسي حتى اليوم.

عدتُ إلى دمشق وأنا مفعم بالألم، ما أجمل عيون أطفال ارتريا وما أصعب فراق الأطفال الأبدي، الذي تجسّد في عيني وفي عقلي، وكنت دائماً أتساءل: ربما يكون أطفالي مثل هؤلاء فازدّدتُ تصميماً على أن أعمل وبقوة لنصرة هؤلاء الجياع العراة.. يجب أن يتقدم هؤلاء الأطفال ويسحقون كل أعداء الحياة.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click