كنت شاهدا - الجزء الرابع

بقلم الأستاذ: أحمد فايد - كاتب وناشط سياسي ارتري

الإستفتاء - تحقيق حلم ميلاد الدولة واغتيال رمزها:

قد يكون حديث اليوم ذو شجون، يحمل بعض المرارات لدى البعض منا،

وقد يراه البعض الآخر خارج نسق الواقع؛ وعليه أستسمح الجميع بأن ما ستقرأونه هنا ليس إلا ملاحظاتي ومشاهداتي في مرحلة ما، لها معطياتها ولدي أدلتها وقرائنها الكاملة. كما أدعوا الجميع إلى أنه إن كان لكم رأي مغاير أو إضافة ضرورية فلتعملوا على تدوينها ولنعمل سويا على استكمال بناء حكايتنا.

حلم الدولة المستقلة والوعي الشعبي:

سأبدأ بكلمة قالها لي أحد رجالات إرتريا المخلصين عبر التاريخ الممتد من الرابطة إلى سباعيات الحركة فما بعدها. هذا الكبير رحمة الله عليه وجزاه عنا جميعا خير الجراء، قال لي في إحدى لحظات عنفواني العاطفي، وفي أول أسبوع من التحرير:- "يا بني، هذه الفرحة التي لا حدود لها مستحقة، وانتظرها الشعب الإرتري كثيرا. ولكن الفرحة الكبرى ستأتي حين يكون صوت هذا الشعب هو صاحب الحل والربط." واستكمل حديثه بالقول بأن "إساياس إذا سلم الحكم للشعب الآن فسيسجله التاريخ جنرالاً عظيماً، محرراً للوطن ووجيهه ورمزه" قالها بأسلوب السرد الإرتري التقليدي المعروف، رافعاً رأسه ويده إلى أعلى وكأنه يدفع شيئاً ما ليظل شامخاً. ثم توقف الكبير لبرهة وقد وجه ناظريه الى رأس عصاه التي بدأت تخط على تراب الأرض شيئا ما، فيقول "أما إذا لم يفعل..." ثم أخذ نفسا عميقاً ولم يكمل بعدها؛ فلربما أرادنا أن نكمل المشاهد مما نشاهد.

كان لهذا الكبير حلم أن يرى دولة، ولم يكن لذاك الشاب السطحي المتهور (ومعه السواد الأعظم...) أن يرى أبعد من لحظة تمكنه من اقتحام قواعد الجيش الإثيوبي، وأن يعيش الإثارة حين أضحى باستطاعته جمع ومطالعة بعض قصاصات الورق والوثائق التي كانت مبعثرة هنا وهناك داخل القواعد العسكرية، والتي حملت بعضاً من مضامين الحالة المأساوية التي عاشها الجيش الإثيوبي حينها، مما عزز إحساس هذا المتهور بالإنتصار.

كان سعيداً بواقع أن "لا حقول ألغام بعد اليوم"، وأن "لا مناطق عسكرية يمنع الاقتراب منها"، وأن "لا نقاط تفتيش بين كل كيلومتر وآخر يضطر فيها للتعامل مع عسكري لا يعرف أصله وفصله"، وأن "لا حاجة لتصريح للتنقل بين قرية وأخرى مدينة وأخرى"، ثم أنه "لا هرب ولا لجوء ولا دوي الإنفجارات وقد ذهب العدو الإثيوبي إلى الأبد".

بالنسبة لأخينا (الشاب المتهور) تحقق الحلم، وانتهت المأساة وبانتهاء كل أسبابها، كما تحقق له انفتاح باب الأمل في مستقبل أفضل على مصراعيه، فالوطن الذي ظل يأمل فيه ويستبشر به قد أصبح واقعا ملموساً بجلاء الإحتلال الإثيوبي.

أما كلمات ذاك الكبير (ترجمتها تكاد تكون حرفية، وتخيل من لدنك نبرة الصوت)، كانت أعمق بكثير من أن يستوعبها أحد مثلي، يعيش حالة من الإثارة والسطحية، وغارق في العاطفة المتفجرة لا يرى الإ ما يلامس تفاصل يومياته، وقد تحقق له حلم انقشاع الغمة، واختفاء مصدر الرعب (الـ"طور سراويت") من المشهد، ثم أنه رأى العلم الإرتري رأي العين يرفرف على كل سارية في قلب العاصمة أسمرا.

حلم الدولة المستقلة والأمم المتحدة:

الحديث في الأوساط الإجتماعية كان عن تحقيق حلم الإستقلال الرسمي الذي بدأ يقترب باقتراب الإستفتاء والذي سيتبعه إعلان الإستقلال الرسمي وتحقيق الحكم الدستوري في مهرجان تعلوا وترتفع فيه (كدرا حبر سما). وسيكون للأمم المتحدة صوت سيرفع (መለይ) في أعلى سارية فيك يا بلد!! ويتم بذلك الإعتذار من قبل الأمم المتحدة للشعب الإرتري عن تواطؤها في العبث بمستقبله وزجه في وضع دفع ثمنه غاليا عبر عشرات السنين.

الأمم المتحدة حاضرة إذاً، وأمينها العام شخصياً في أسمرا ليشهد بأم عينيه رغبة الشعب الإرتري، الذي أٌخرجَ عن بكرة أبيه للترحيب به في العاصمة أسمرا. ولروعة حظي ولجميل المفارقة فإن أقرب منطقة لي للمشاركة في هذه المسيرة الترحيبية والتي كان سيمر بها موكب الأمين العام "بطرس غالي" كانت بجوار مدرسة الجالية العربية في الشارع الذي كان يحمل اسم الدبلوماسي البوليفي ادواردو أنزي ماتينزو الذي كان على رأس بعثة الأمم المتحدة التي عملت على مهمة إجهاض حلم الشعب الإرتري في وطنه المستقل منتصف القرن الماضي.

مرّ الموكب بسلام وعاد الجميع مبتهجاً، ولكن كان الملاحظ أن سكان مدينة أسمرا أخرجوا من منازلهم إخراجاً بالرغم من أنه إذا تم إبلاغهم بما سيجري سلفاً كانوا سيخرجون بشكل أكثر جمالاً وأفضل تنظيماً. وفي الواقع أنه تم إبلاغهم في ذات اليوم وسارت مجموعات من الجنود في الشوارع تأمر الناس بالتوجه إلى مسار الموكب، في استمرار للظهور التدريجي لملامح الدولة البوليسية التي كانت بدأت بالتغلغل من خلال الإعتقالات الإنتقائية، والتهاون والتقليل من وعي الشعب وامكانياته، ومن ثم اتخاذ القرارات المصيرية بالنيابة عنه ودون علمه، تلك الحالة التي آلت بنا إلى ما نعلم ونعيش من دكتاتورية اليوم.

الإستفتاء ورفع العلم:

صناديق الإقتراع المعبرة عن إرادة الشعب الإرتري في الاستقلال سارت في احتفالية وطنية شارك فيها كل الفرقاء الإرتريين بكل مشاربهم وانتماءاتهم وفي كامل التراب الإرتري وعموم بلاد المهجر والشتات، بتاريخ 23 ابريل 1993، وقال فيه الشعب الإرتري كلمته بنسبة تجاوزت 99.8% لصالح الإستقلال التام. وأصبح الجميع بانتظار رفع العلم الإرتري وإعلان الأمم المتحدة قبول إرتريا الدولة المستقلة عضوا بهاً.

الإستعداد للمهرجان ولرفع رمز الدولة الإرترية المستقلة عاليا في الاحتفالية كان يتم في كل مكان، وكان الجميع في حالة ترقب لرؤية علم الإستقلال الذي طال انتظاره ليرتفع أعلى سارية الإستقلال الرمزية. وكان الجميع يستعد للمشاركة في هذا المنعطف التاريخي الأساسي.

أسمرا في ذلك الوقت كانت تتزين بعلم الجيش الشعبي وعلم الدولة الإرترية آملة انتهاء المرحلة الإنتقالية والبدء في الحياة الدستورية تحت علم الدولة الإرترية.

رفع علم الجيش الشعبي وسقوط علم الدولة:

في ميدان الأول من سبتمر الذي كنا نعرفه حينها بـ (أدباباي) بحسب تسمية الإحتلال الإثيوبي، وفي ظلمة الليل الحالكة حين انتصف ليل 23-24 مايو 1993 إذا بشاب ممشوق القوام قوي البنية في كامل هيئة المناضل المتعارف عليها؛ يرفع علم الجيش الشعبي على سارية عالية بدلاً من علم الدولة الإرترية (رووت) إيذاناً بإعلان إرتريا الدولة المستقلة، ويغرق الجميع في البهجة بالإعلان وتعلوا مكبرات الصوت لتكشف النقاب عن إعتراف دول العالم بإرتريا المستقلة الواحدة تلو الأخرى.

في مهرجان الأفراح بتحقيق حلم الاستقلال؛ لم يرتفع العلم الأصل الذي تم انزاله رسميا من قبل هيلي سلاسي في مشهد كان يعلن به انتهاء حلم الاستقلال.

هذا العلم الذي سقط جميع شهداء التحرير الإرتري و حلم الاستقلال يراودهم والامل يحدوهم أن يرتفع يوماً في قلب أسمرا معلنا تحقيق حلم الاستقلال. أسقطه إساياس وأبدله برمز وشعار الجيش دون العودة إلى الشعب صاحب الحق في كل شيء.

كان إحساساً مختلطاً يمكن وصفه بالذروة في البهجة بإعلان الإستقلال وتتابع اعتراف الدول بإرتريا، ثم الحزن والأسى لبقاء شعار الجيش الذي كان مأمولاً أن يزين ناقلات الجند والمدرعات ولافتات مداخل معسكرات الجيش الخ... ثم اختفاء العلم الأصل الذي كان مأمولا أن يسود أرجاء البلاد ولم يبق له أي أثر، حتى أنه لم يتم إزاحته واستبداله باحترام كما تفعل باقي الأمم.

نواصل بإذن الله... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click