ذكريات وتجارب - الحلقة الرابعة عشرة

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

فشلت محاولتنا للعبور الى الاراضي السودانية للانضمام الى الجبهة، كما ورد في الحلقة السابقة، فعدنا ادراجنا كالعبد الابق لا نعرف

كيف نفسر او نبرر فعلتنا امام اسرنا، ولان مشاعر الامومة والابوة التي لا ندرك معناها الا عند ما نصبح في ذات الموقف، لم تترك مجالا للعتاب والمؤاخذة. اما موقف المدرسة، لأسباب موضوعية يمكن تقبلها وتفهمها، كان مختلفا اذ طلبت توقيع اولياء امورنا بالا نكرر الغياب وضمنيا محاولة الهروب. وتدريجيا نسى الناس امرنا كما تناسيناه بعد ان اصبح همنا الاول تعويض ما فات من دروس.
قد يستفيد الانسان، في بعض الاحيان، من اخفاقه اكثر توفيقه، فلقد اعطتنا رحلة تسني درسا غير من مفاهيمنا في مقدمتها اننا نصارع اخطبوطا موجود ويضرب في كل مكان وفي كل اتجاه وينبغي التعامل معه على هذا الاساس وليس بالضرورة من موقع محدد.

وترسخت لدينا هذه القناعة عقب لقاء رسمي مع الاستاذ صالح عبد القادر بشير شارك فيه – علي سيد عبد الله، حسن حمد امير، محمد سعيد محمد عمر برحتو وشخصي وكان اول واخر اجتماع نحضره معه بشكل جماعي. اما الزميل محمود عثمان حمد فقد اضطرته ظروف عائلية الى الابتعاد لبعض الوقت. اوضح لنا الاستاذ صالح صراحة انه عضو في تنظيم جبهة التحرير الارترية مع شرح مفصل ومفسر للاهداف الوطنية التي نشأت من اجلها وتطورات الساحة تنظيميا سياسيا وعسكريا فضلا عن تزويدنا ببعض المطبوعات. ومنذئذ اعتبرنا انفسنا جنودا مستعدين لأداء أي واجب او مهمة تطلب منا. في البداية اقتصرت مهمتنا على التحرك في اوساط الشباب وخصوصا الطلبة والعمل لكسب ثقتهم بدون التطرق او الاشارة الى نواحي سياسية ناهيك تجنيدهم، وملاحظة تحركات العدو وكل ما يثير الشبهة او ريبة من قول او فعل ثم توزيع المنشورات بين الاعضاء.

بناء على هذا التكليف والاستفادة من تجربتنا السالفة الذكر والادوار التي تعرضنا لها بدون ان نحس، اتفقنا على التقليل من لقاءاتنا الشخصية الى ادنى حد مع تحديد اسلوب وطريقة تبادل المعلومات فيما بيننا، ومع مرور الوقت عرفنا وتعاملنا مع معظم قيادة الجبهة في منطقة البحر الاحمر التي تتكون من:

• الاستاذ صالح عبد القادر بشير -- رئيسا
• الشيخ عثمان احمد هندي -- حطملو
• الاستاذ عبد الله محمد سعيد صايغ -- عداقة
• الاستاذ عبد الله محمد صايغ -- عداقة
• الشيخ محمد هريشاي -- عداقة
• الحاج احمد شري -- قندع
• الشيخ سعيد سفاف -- قندع

وهي نفس الشخصيات التي خاضت النضال الوطني منذ مرحلة تقرير المصير، وكل منها يشرف على لجان محلية في منطقته، فعلى سبيل المثال، تكونت لجنة حرقيقو من الاستاذ محمود صالح سبي، الاستاذ ابراهيم جابر حسب الله، الشيخ سليمان شيخ حامد، الشيخ صالح ابوبكر بشير. كان من المقرر ان يتم العمل بسرية مطلقة وفي اضيق الحدود خشية ان يستنفر العدو ادواته قبل وصول القوة العسكرية التي كان متوقع وصولها في فترة وجيزة وتوفير ملاذا امنا لمن تحاول الحكومة اعتقاله.

لهذا كانت تسير الامور بالرتابة التي ارادتها القيادة، على الاقل في حرقيقو، الى ان بدأت عناصر معينة الجدال باسم الوهابية ثم ان اصبحت تنادي بالجهاد بشكل ملفت للنظر ’الجهاد فريضة، واعدوا لهم، قاتلوهم حيث ثقفتموهم، وليجدوا فيكم غلظة‘ وكلما نصحها احد بالكف عما تقوم به ازدادت تطرفا. صحيح انه لم يكن هناك من يستمع اليها، ولكن لمن لا يعرف حقيقتها يعتقد ان هناك تعبئة دينية منظمة. وجدت القيادة نفسها عاجزة عن التعامل مجموعة لا يمكن التفاهم معها ليستمر الحال على ما عليه الى ان جاء المناضل الزميل ادريس سيد محمود. استمع الى كل ما كان في جعبتها وهي تحسبه مؤيدا لها. فقال لها انها على حق وان الجهاد فعلا بدأنا وحاول تسليمها مسدسه مع الوعد بتلبية طلبها من الاسلحة. لم تكن تعرف انه التحق بالجبهة وانه في مهمة وان الموضوع اصبح جديا، ففزعت منه ودفعت اليه مسدسه بحجة انها ستستلم الاسلحة دفعة واحدة. وخلال فترة وجيزة غادر العنصر الرئيسي الى السعودية واعتزل الثاني السوق بحجة الاعتكاف في مسجد قريب من داره.

لم يستمر الهدوء طويلا حيث جاء شخص من السعودية في زيارة اهلية. ومنذ الوهلة الاولى التي وطأت فيها قدامه ارض الوطن عاد الى ما كان عليه في ايام الشباب، والاسوأ، انه تحول الى كادر سياسي يقول ما يشاء وكيفما شاء واينما كان بلا تحفظ او تحرج او خوف وكأنه يقول ’ها ذا انا خذوني‘. لعله كان في الاسبوع الاول من قدومه، كنا في قهوة طرم ومعنا الزميل عثمان عبد المنان نائب عندما انضم الينا بلا استئذان واستولى على الجلسة متحدثا وهو يتنقل ببصره من جهة الى اخرى ويسمع القاصي والداني عن القتال والنضال الحاصل في الميدان، وفجأة ضرب الطاولة بعصا بشكل افزع الجميع ثم قال ’أتخافون من ضربة عصا، فما انت فاعلون عندما ينهال عليكم الرصاص وتتساقط على رؤوسكم القنابل، الشباب في الميدان تأكل النار وتأكلها .. الخ‘.

وظل يكرر نفس الموال اينما ذهب اما ذا كان على غير وعي فحدث ولا حرج بشكل ارعب القيادة حيث كان احد القيادات في جدة قد كلفه بشىء بسيط وخطورته اذا تناهى الى مسامع الحكومة. فبينما كان متجها الى المحطة ليركب باص الثامنة مساء المتجه الى حرقيقو همس في اذنه احدهم ان المباحث يبحث عنه في المحطة ونصحه بالاختفاء فورا. انطلق صاحبنا الى بيت يسكنه عمال الميناء ولبس غيار احدهم ودخل الميناء ضمن عمال الرصيف الذين يساعدون الباخرة على التحرك وبجرأة غير عادية تسلق بحبل وصعد الباخرة بعد ان سحب منها السلم. شاع في حينه خبر سفره متخفيا، ولم اعلم انها كانت عملية ابعاد قسرية دبرتها القيادة الا عندما سمعت حديثا جرى بهذا الخصوص بين الاستاذ صالح بشير والاخ صالح جابر وراك الذي كان يعمل في الباخرة وتولى اخفاءه.

من المواقف الطريفة التي واجهتها اثناء توزيع منشورات في مصوع، لففت بضعة اعداد حول ساقيّ فوقها جورب طويل تحت سروال من (سوتو كرودو) قماش خشن يظل مكويا حتى لو حتى لو تم غسله. تجاوز منطقة اعتبرتها خطرة اعطاني شعورا بالطمأنينة والثقة حتى اصبحت خطواتي اكثر اتزانا وثباتا الا ان صوتا غير مألوف من الخلف اربك عقلي ورجلاي على حد سواء. انه كان مخبر معروف جدا في مصوع يدعى ألم، لم استطع ان اخطو نحوه بعد تسمرت قدماي الى ان مد الي يده مصافحا وهو يبتسم، بادلته السلام وانا عاجز عن تفسير وجوده وسبب ابتسامته. ذكر ان شقيقته، مشيرا الى فتاة لم الاحظها من شدة الخوف، اخبرته ان شخصا تعرض لها في الطريق وانك تدخلت فأحببت ان اشكرك شخصيا على هذا الموقف النبيل. تذكرت الموقف ومع هذا لم اصدق انه السبب الحقيقي، فقلت له كلاما مناسبا لروح الزمالة والشهامة الخ. ومع انه مضى على سبيله واختفى فعلا من امامي كنت اشعر وكانه ما زال يقتفي اثري وانه بصدد الامساك بي. الشىء الغريبة، ان كل ما في الامر كنت مع زميل او زميلين نسير من عداقة الى مصوع بعد انتهاء الدوام المسائي مشيا على الاقدام، ولاحظنا ان شخصا غريبا استوقف طالبتين احداهما طالبة جديدة هي الاخت رشيد ياسين من مدينة علي قدر، وكان احد الزملاء من فصلها اوصانا بها خيرا ولم تكن بيننا معرفة. وقفنا على بعد خطوات منهم وسواء اكمل الشخص موضوعه او لأنه لاحظ وجودنا تركهما وواصل طريقه، ولم اعرف لماذا كانت المبالغ من قبل شقيقة المخبر الم. ولكن ربى ضارة نافعة، اكتشفت من هذا الموقف اننى لم احضر أي جواب في حالة القبض علي وكيف سأدافع عن نفسي، وضرورة اختيار الطرق والاوقات الي يجب ان اتحرك فيها في مثل هذه الحالة. التقيت بالأخت رشيدة بعد هذا عام 1976 عندما زرتها مع الزميل عبده علي في مستشفى الولادة في القاهرة حيث انجبت ابنها البكر عثمان ادريس عثمان قلايدوس، وكانت مناسبة للتعارف واستعادة الذكريات.

خطورة المخبر المتطوع، في بعض الاحيان، اخطر من خطورة الجواسيس والمخبرين الرسميين. زارني في احد الايام وفي وقت متأخر من الليل شخص تربطني به صلة قرابة بعيدة بعض الشيء. ابدا فرحا مفتعلا عندما وجدني وحمد الله حتى استغربت. جاء ليخبرني ان الزميلين علي سيد عبدالله وحسن حمد امير قد تم اعتقالهما، ويطلب مني التواري عن الانظار لان الحكومة غلطت وهي تبحث عن شخص اسمه ’عثمان احمد‘. ذكرته ان اسمي عثمان بدوي وان الحكومة تعرف عمن تبحث، فذكرني ان والدي اسمه وان بدوي مجرد كناية!‘. حاولت التماسك واصررت علي كلامي، وبعد جدال عقيم قال انه حتى لو كان اسم والدي بدوي ايضا علي التواري طالما تم اعتقال علي وحسن!

اولا لم يكن هناك من يعرف حقيقة اذا كانت الاسماء المطلوبة ثنائية ام ثلاثية وهل فعلا تم البحث عن شخص اسمه عثمان احمد، وثانيا انه غير معني بمن اعتقل ومن لم يعتقل، واذا القصد توجيه نصيحة كان عليه الحضور في اوقات الزيارة المتعارف عليها حتى لا يثير شكوك الجيران فيأتي في الصباح المبكر من يحاول الاطمئنان.

قضى الزميلان علي وحسن في احد معتقلات اسمرا بضعة ايام ثم تم اطلاق سراحهما بدون تحقيق او توجيه تهمة محددة. سمعنا فيما بعد ان شخصا هرب من مكتب الجبهة في كسلا هو من احضر او سمع هذه الاسماء او ما يشابهها. ذكر لي الاخ الاستاذ سليمان عباسي في ما يتعلق بهذا الخصوص ان طقي مدهن مدير مدرسة الامير مكنن في عداقة قال عندما سمع اشتراك الزميل علي سيد عبد الله في العملية الفدائية التي جرت ضد طائرة اثيوبية في مطار كراتشي في باكستان عام 1969 انه زود الحكومة بمعلومات استخباراتية عن خطورة علي سيد عبد الله الا ان الحكومة لم تأخذ بها.

من التصرفات العفوية التي كانت وما زالت سائدة الرد بأكثر مما يجب. طلب مخبران من شخص معتبر ان يرافقهما الى مركز الشرطة لأمر يخصه. سألهما عن السبب فاخبراه انهما لا يعرفان وان عملهما احضاره فقط. فقال لهما ’اذا كان الموضوع يتعلق بالسياسية فالشخص المقصود هو شقيقي فلان، هو من يتعاطى بالسياسية اما انا لا علاقة لي بها‘ وحاول اقناعهما بهذه الحقيقة مصرا ان اخاه يمارس نشاطا سياسيا. وعندما مثل امام الضابط المسئول اكتشف ان كل ما كل استدعي من اجله لتقديم افادة او ما يشبه الشهادة في موضوع اجتماعي. المشكلة ان كل ما كان يعرفه عن نشاط شقيقه السياسي لم يكن اكثر من الاستماع المنتظم لإذاعة لندن، ليس الا!.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click