ذكريات وتجارب - الحلقة التاسعة عشرة

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

ذكرت في الحلقة السابقة رفض القيادة العسكرية مناقشة فكرة العودة الى المنطقة الغربية التي اقترحتها عليها اللجنة حتى من حيث

المبدأ لحيثيات تم توضيحها، وان الطرفين نقلا وجهة نظريهما الى الزعيم عثمان صالح سبي. جاء رد عثمان مشددا على اهمية تثبيت القوة في المنطقة مهما كانت الصعوبات وبلغت التضحيات والنظر الى الموضوع من منظور استراتيجي بعيدا عن ردة فعل على تصرفات البعض ونظرتهم القاصرة لان اخلاء المنطقة أيا كانت الذرائع سوف يتيح للعدو وحلفائه الغربيين عمل المستحيل لمنع العودة اليها، وذكر انه وجه مكتب الجبهة في جدة للتعاون مع اللجنة في هذا الخصوص.

وبدوره بعث مكتب جدة رسالة يؤكد فيها بذل اقصى ما يستطيع لشراء ما تيسر من ذخيرة من السوق السوداء وارسالها مع المناضلين العاملين في بواخر تجارية ولو بكميات بسيطة. العامل الوحيد في باخرة تعمل في خط جدة - مصوع في هذا الوقت كان الاخ صالح جابر وراك، وكانت ترسي الباخرة في الميناء كل ثلاثة ايام تقريبا ولا تمكث فيه اكثر من ثمانية ساعات ما يعنى ان العملية ستستغرق شهورا بينما السباق مع الزمن يعد بأيام ان لم يكن بالساعات، ولهذا طلب الزعيم سبي من الاخ الكابتن احمد شيخ ابراهيم فرس التحول الى هذا الخط بأسرع ما يمكن. وبفضل انتقال احمد شيخ تضاعفت الكمية وبالتبعية تضاعفت معها المخاطر سواء من ناحية سرعة اخراج الذخيرة او الاسلحة من الميناء ومن مصوع ايضا بل ومن حرقيقو. وجدت اللجنة نفسها امام وضع دقيق للغاية لا يمكن التراجع عنه، وكان كل ما كانت تتمناه الا ينكشف امرها قبل الوفاء بما التزمت به.

وعلى ضوء توجيه عثمان سبي وتأكيد مكتب جدة، تم الاتفاق على خيار صعود القوة الى منطقة ريعوت التي تتمتع ببيئة اجتماعية امنة وجبال وغابات تساعد على الاستقرار وإعادة التنظيم والتدريب.. ولكن شريطة استعادة الجرحى والمرضى عافيتهم وتوافر كل الاحتياجات السالفة الذكر بالنظر الى وعورة المنطقة وبردها القارس. ولهذا، وفي جو لم يخل من مشاعر حزن عميقة على من استشهدوا والاعتزاز بافتتاح المنطقة رغم كل التحديات وتحت شعار ما يمكن تسميته ’لا تخون حرقيقو ثورتها ولا تخذل ابناءها‘، تم سحب المرضى والجرحى الى داخل البلدة والمناطق القريبة منها بحيث يحصلون على علاج وغذاء يمكنهم من العودة الى وحداتهم بأسرع وقت ممكن.

لقد شاركت في هذا النفير اسر عديدة، للأسف، لا استحضر، بل لا اعرف، اسماءها لعدم علاقتي بالموضوع مباشرة ولكنني اذكر الدور الكبير الذي كانت تقوم به الاخت فاطمة صالح سبي زوجة العم حسين سعدو - الشقيقة الكبرى للأستاذ محمود - من حيث التنفيذ والتنسيق. فهؤلاء الامهات الرائدات لم يقتصر دورهن في هذا المجال وفي هذا الظرف فقط، فعندما استدعت الضرورة فقد كن من اوائل من دفع بفلذات اكبادهن الى الميدان. فمن حقهن علينا اليوم ان نذكر ونفتخر بهن وبما قمنا به والا ننسب كل شيء الى الرجل، واهيب في هذه المناسبة بكل من يتذكر شيئا في هذا الخصوص التنويه والتعريف به حتى تدرك الاجيال الصاعدة دور المرأة في الثورة.

اما مهمة امداد من تبقى من القوة بالمؤمن في موقعهم بالنظر الى افتقار المنطقة الى غطاء طبيعي وبشري بسبب فصل الصيف، فقد تم اسنادها الى الاخوين عثمان اسماعيل سبي وجابر محمد على حرك من العناصر الوطنية النشطة وكان لكل منهما دكان يمكن من خلاله شراء الاشياء المطلوبة من مصوع بكميات تلبي الحاجة، على ان يتولى الاخوة سعيد صالح عكا، علي قعدر، علي طاهر وعثمان برح مهمة النقل والتنقل بجمالهم من والى بالتنسيق مع الاخ حسن سيد موسى.

كانت الامور، في نظر الجميع، تسير بشكل مرضي حيث تم توزيع المهام، تحديد طريقة الاتصال بين الاعضاء بصفة عامة، اجراء الاتصالات مع بعض الشخصيات المهمة في البلدة بسلاسة، شراء بعض الاحتياجات الاولية، بداية وصول ذخائر، تماثل معظم الجرحى والمرضى للشفاء، والاهم من كل هذا، عدم ظهور ما يشير الى تحركات امنية، ولكن سرعان ما تحركت الرمال وتسارعت الاحداث.

على ما يبدو، اعتقدت الحكومة طوال الفترة السابقة تقارب الشهر منذ المعارك السابقة انها تمكنت من رد القوة على اعقابها، الا انها ومع مرور الوقت واعادة تقييم الموقف تيقنت ان هناك فعلا من عبر، فبثت العشرات من جواسيسها ومخبريها نقبوا المنطقة جبالا ووديانا وبلدات توصلت من خلاله الى تقدير الاماكن التي قد تتواجد فيها هذه العناصر.

كنا في منزلي عندما سمعنا في احد الايام حوالي الساعة الرابعة مساء ضجيج سيارات عسكرية قادمة من مصوع فاستنفرت القيادة خشية ان تؤدي الى محاصرة البلدة وتفتيشها وظللنا نتابعها من خلال ثقب في الدار حيث لم يبعد الطريق عنا اكثر من كيلو متر، استمر في طريقها حتى لاح غبارها بعيدا على طريق زولا، ومع حلول الظلام غادرت القيادة بعضها للحاق بالقوة والبعض الاخر لسحب كافة المقاتلين من المرضى والجرحى وتجميعهم في مكان واحد.

في غمرة هذه الأجواء المقلقة جدا، ابلغنا الاخ حسن سيد موسى تعليمات القيادة بدخولنا فورا في دورة عسكرية مكثفة في (ودق غسلت - في منطقة مرد معي). كنا خمسة: علي سيد عبد الله، حسن حمد امير، رمضان عثمان اولياي، عثمان عبد المنان وشخصي، اشرف عليها المناضلون رمضان محمد نور، عثمان عبد الله حرك وحسين ادريس باري واستمرت لمدة اسبوعين تولى فيها الاخ حسن النواحي الامنية. كانت مرهقة ومفيدة جدا تدربنا فيها على اهم الاعمال القتالية والفدائية واستعمال اهم الاسلحة.

استنتجنا من اقامة الدورة في هذا الظرف وبهذه العجالة وفي وقت كان فيه العمل بحاجة ماسة الى تواجدنا حسب التكليفات او، على الاقل، بعضنا، ومن اللقاءات التي اجرتها القيادة مع الاخوين ابراهيم عافة - من فرقة المظلات في القوة البحرية - وعلي ادريس انرعلي - بوليس حربي في القاعدة البحرية - ان القيادة تخطط لجعل مواجهتها مع العدو، ان وقعت، في عملية استشهادية مشهودة داخل القاعدة البحرية وليس في الجبال والادغال، وخصوصا انها كانت قد طلبت مني، وربما من بقية الزملاء، محاولة الدخول الى القاعدة البحرية والتعرف على مداخلها ومخارجها وفي اسرع وقت ممكن. لم اعط هذه التعليمات في حينه الاهمية الواجبة، وبالتالي، اول شيء قمت به عندما فتحت المدرسة (مدرسة الامير مكنن) كان تقديم طلب لضمي الى الفريق الذي تم توأمته مع فريق القاعدة البحرية بعد ان كنت قد رفضت العرض في السنة السابقة كما ورد سابقا الا ان مدير الفريق الاستاذ جرما رفض طلبي بسخرية واضحة.

وتأكيدا لصحة هذا الاستنتاج، ذكر لي الاخ صالح بشير فيما بعد في هذا الخصوص، ان القيادة كانت تسعى في لقائها بالأخوين ابراهيم عافة وعلى انرعلي الحصول على معلومات تتعلق بالتقسيمات الداخلية للقاعدة البحرية، وفي نفس الوقت التعرف على مدى استعدادهما للتعاون معها من الداخل في حالة قيامها بمهاجمة القاعدة، واغلب ظنه كان ان الاخ ابراهيم كان موافقا بينما طلب علي ان يكون ضمن المهاجمين خشية الا تتاح له فرصة القيام الدور المنوط به او الاضطرار الى مقاتلتهم ولهذا ابدا استعداده للالتحاق بالميدان في اية لحظة.

بدأ الجيش بتمشيط المنطقة ابتداءا من وادي حداس شبرا شبرا بالتنسيق مع جيش مماثل انطلق من منطقة دماس وذكرت معلومات وردت من لجنة عدي قيح ان جيشا تحرك من هناك لنفس الغرض لحرمان القوة من التسلل الى منطقة اخرى وحصرها في دائرة ضيقة وتصفيتها، ولهذا كانت المواجهة الاولى بعد عدة اسابيع عندما وصل الى موقع القوة في منطقة عقمدة حيث جرت معركة ضارية تمكنت القوة خلالها من اختراق الحصار والافلات بأعجوبة بعد ان قدمت شهيدا. كان هذا في الوقت الذي كنا فيه في الدورة.
عندما عدنا الى حرقيقو وجدناها على غير ما تركناها فيه بعد ان سمع الاهالي ولاسيما في الجزء الغربي دوي القذائف والاسلحة التي كانت تنطلق اثناء المعركة، فاصبح ما كان سرا ولا يقال الا همسا معلوما لدى الجميع الا انحن حيث لم نعرف حقيقة ما جرى الا عندما واجهنا بأسئلة تنم شكوك حول سبب غيابنا ومكان تواجدنا ما لم نعهده من قبل. الجميع يريد ان يعرف ماذا حصل واين من حصل ومن حضر، وكان اول المستفيدين من هذا الحدث القادمون من المناطق المحيطة من بائعي حليب وحطب حيث بدأ التسابق اليهم وشراء ما لديهم بغير حاجة وبأي سعر بغية الحصول منهم على اخبار، وهكذا تحول بعضهم الى مراسلين حربيين يصرحون ويروون عن اشياء لم يروها او يسمعوها ليستشهد كل واحد بما ويختلط الحابل بالنابل.

وفي ظل المعلومات المتضاربة التي تأتي من هناك والقلق المتزايد حول ما يؤول اليه الوضع العسكري والانشغال بأمور ظاهرية، كان الثعلب الكابتن محمد ابراهيم ومجموعته يسرحون في البلدة ويمرحون دون ان يتنبه اليهم احد، وعندما حصل كان بمحض الصدفة. في غمرة هذه الاجواء التي يصعب فيها التمييز بين من هو فضولي ومن الخلايا النائمة، حسب التعبيرات الحديثة، اثارت تصرفات احد الاهالي شكوك كبيرة الى درجة تكليف القيادة المناضل صالح جابر بتحذيره وانذاره وكلفت انا بإرشاد صالح الى مكانه.

كان هذا في اوائل شهر رمضان المبارك. تحركنا بعيد صلاة التراويح وصالح يسير خلفي بمسافة معقولة الى ان اختفى فجأة عندما وصلنا دكان احمد سيد رمضان في مدخل السوق. اعتقدت انه مر خلف الدكان تفاديا لأنوار المصابيح التي احالت الليل نهارا وعندما لم يظهر ثانية بحثت عنه وجدته ملتصقا بشجرة نبق كبيرة امام عد محمد جابر تبدو عليه علامة التوتر. بادرني بالسؤال عن شخص كان مع مجموعة من الناس كانت تتقدم نحونا عندما وصلنا الدكان. اخبرته انه خال النائب عبد الكريم محمد نائب. قال ’هذا ليس خال عبد الكريم انما هو الثعلب الكابتن محمد ابراهيم جاء يطاردنا‘ وانطلق مسرعا طالبا مني اللحاق به. وجدت القيادة في المنزل وهي تستعد للمغادرة بعد ان ابلغها صالح الخبر وطلبت مني موافاتها بمكان تواجد وتحركات محمد ابراهيم.

ذهبت في الصباح الى عد نائب بحجة زيارة ابنة عمتي فاطمة علي كيكيا زوجة النائب السابق حسن محمد نائب. كان الدار كبيرا يقع المجلس الذي تحول الى بيت لاستقبال وقامة الضيوف بعد ان كان في عهد النائب محمد يعج طوال الايام بالأعيان والاهالي حيث تناقش قضايا المجتمع وشكاويه. كان خاليا تماما من اية حركة، واثناء الحديث مع الاخت فاطمة اشرت بشكل عابر الى هدوء المجلس وخلوه من ضيوف فذكرت انه كان طوال الاسبوع ضيوف ولكنهم غادروا في وقت مبكر من صباح نفس اليوم. وبهذا عرفنا ان الثعلب كان هنا ولم يكن وحده واغلب الظن انه غادر فجأة بعد ان لاحظ او شك في استدارة صالح السريعة خلف الدكان.

مما ذكره لي المناضل صالح جابر عن الكابتن محمد ابراهيم، انه كان ذكيا ويقظا جدا حارب الجبهة في المنطقة الغربية بشراسة ونجا من عدة محاولات لاغتياله. فنزوله ضيفا على النائب عبد الكريم وتشبهه من ناحية الملبس واللكنة باهل المنطقة الغربية وتعمده الظهور في السوق مع عبد الكريم لإيهام الاهالي انه من اخواله تؤكد مدى حنكته، وفعلا انطلت الحيلة على الجميع وتناقلها الكثيرون اعتمادا على المكانة والثقة التي كان يتمتع بها عبد الكريم فقد. لعل اول من نقل وجوده في الحي ويصلي في مسجد عد نائب كان (القنصل) الاخ احمد محمد سعيد شنيتي من اشبال فرقة الكشافة.

على ضوء التحريات التي جرت حول تحركات محمد ابراهيم اثناء اقامته في البلدة والاشخاص الذين كان يلتقي بهم وهوية المجموعة التي كانت ترافقه او تعمل معه، تبين انه كان يقضي معظم وقته في دكان العم عثمان سيد رمضان، وبالاستفسار من الاخ محمد لوبينت الذي كان يعمل في الدكان اتضح انه التقى بمعظم زعماء قبائل المنطقة من الناطقين بالساهو وانه كان يجزل عليهم الهدايا والعطاءات مع التحذير والتهديد من مغبة التعامل مع الجبهة حتى لا يتعرضوا للمتاعب والدمار الذي حل بالمنطقة الغربية، وعلمنا ان المخبرين عمر كارتو وشخص اخر يدعى رمضان (لا اذكر اسمه الكامل) كانا يحرسانه بدون ان يظهرا معه.

بالإضافة الى هذا، ذكر بعض الاهالي من العاملين في شركة AGIP الواقعة بين حرقيقو ومصوع انهم شاهدوا مرارا سيارة تنزل عشرات الاشخاص في نهاية الاسفلت بعيد حلول الظلام وتنقلهم فجرا من نفس المكان، وبالمتابعة تبين ان هذه المجموعة كانت تنقسم الى فريقين احدهما يتجه غرب البلدة لمراقبة المداخل من الخلف والثاني يتسلل الى داخل الاحياء لرصد الحركة. وبناء على هذه المعلومات صدر قرار تصفية الكابتن محمد ابراهيم فورا وتم تكليف الفدائي صالح جابر بتنفيذ العملية.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click