ذكريات وتجارب - الحلقة الرابعة والاربعون

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

لقد استفادت المباحث من الخطأ الذي ارتكبته عندما اعتمدت كليا على نتائج تعليمات ممثل الامبراطور اسراتي كاسا الى القاضي

واكتفت بانتظار صدور الاحكام ومعرفة ومدى تطابقها، في وقت كان فيه الاخ محمد سعيد بشير والمحامي اماوئيل مبرهتو يجريان اتصالات حثيثة على ضوء معرفة الضغوط التي مورست على القاضي توصلا خلالها الى اتفاق مع رئيس الهيئة العليا للقضاء على تكليف القاضي تيليرو بتولي رئاسة محكمة الاستئناف.

لهذا، عندما تحركت المباحث لإعداد سيناريو يمكنها من تثبيت الحكم، كان الوقت قد فات، ولم يكن امامها سوى نقلنا الى سجن اديس اباب في محاولة يائسة لنقل القضية الى محاكم اديس ابابا تحسبا لما قد يصدره القاضي الايطالي فوقعت في مأزق اكبر ورطت فيه ادارة سجن اسمرا وادارة سجن اديس ابابا. ولما لم تفلح مساعيها اضطرت الى اعادتنا الى سجن اسمرا، ولكن وفقا لمخطط محكم تمثل ليس في حمل احد القاضيين على الغياب من جلسة الحكم فحسب بل واعدت بديلا لرئاسة محكمة الاستئناف.

يدعى القاضي قبريهويت من قومية تقراي من اشد العناصر المتعصبة كانت تنادي بالوحدة مع اثيوبيا وفي هذا كان له ثأر شخصي مع اهالي حرقيقو. فإبان الانتخابات البرلمانية عام 1962 ورفض الاهالي المشاركة فيها تمسكا بالهوية الوطنية، كان قبريهويت مدير اقليم البحر الاحمر. فعقد في ساحة المدرسة اجتماعا جماهيريا كبيرا حاول فيه اقناع الشعب بأهمية وضرورة المشاركة في الانتخابات زاعما انه لم تعد هناك دولة تسمي ارتريا بعد ان عادت الى حضن امها مما دفع الامور الى غير المنحى الذي كان يأمله اذ هاج الحضور ولولا اطفاء الانوار في الوقت المناسب لما عاد قبريهويت وصحبه الى اهلهم سالمين.

فاذا كان من الطبيعي ان نتوقع منه الاسوأ وفعلا دخل القاعة المحكمة ولسان حاله يقول ’اني ارى رؤوسا اينعت حان قطافها‘ على قول الحجاج، وذكر ا في مستهل افتتاحه الجلسة انه عين للنظر في الاستئناف المقدم من قبلنا الى المحكمة، ثم طلب من المدعي العام والمحامي انهاء ما لديهما من مرافعات ودفوعات في هذه الجلسة على ان تكون الجلسة التالية خاصة بإصدار الاحكام. وبأسلوب فكرر كل منهما بأسلوب يفتقر الى الحماس والجدية ما كانا قد قالاه امام القاضي السابق لتنتهي الجلسة في اقل من ساعتين. فلا غرو والحال هذا في ان تعقد الجلسة الثانية والاخيرة في اجواء مشحونة ادراكا لما ستتمخض عنه. قال قبريهويت في كلمة موجزة جدا تعمد خلالها عدم الالتفات الينا كما لم نول ما كان يقوله أي اهتمام عله يشعر اننا، أيا كانت قساوة احكامه، سنظل على نفس الايمان والعزيمة، موقف تناغم معه الاهالي بجدارة وان تسللت من عيون بعضهم دمعات. تخلصت كلمته في مصادقة المحمة على الاحكام الصادرة ليسدل عليها الستار نهائيا.

كنا في نفس الغرفة الصغيرة التي بتنا فيها ليلة مغادرتنا الى سجن اديس ابابا اما المجموعة الثانية والعم عبد الله محمد صايغ والاخ طه ابراهيم فقد تم نقلهم الى عنبر يتناسب مع احكامهم المخففة وضم الينا بدلا منهم المناضلان محمد عثمان ابراهيم طمبار وادم ادريس سكر. كانت الغرفة ملاصقة لجدار نسبيا منخفض يفصل القسم عن بقية الاقسام وملاصق من الجهة الخلفية بالسور. ناقشنا ذات يوم وبشكل عفوي عن امكانية الهروب من خلال تسلق الجدار والوصول الى السور عبر السطح في بضعة دقائق في جنح الظلام في اللحظة التي يحتمي فيها الحارس بقبة على السور اذا ما توفرت مساعدة لوجستية خارجية، وهذا اذا استطعنا اقناع الحارس يدعى محمود على نسخ مفتاح الغرفة على قطعة شمع يمكن طباعتها في الداخل او الخارج، وكان محمود هذا وطنيا ونوعا ما متعاونا. علما ان المفاتيح تظل نظاما في عهدة الشاويش ولكنه في بعض الاحيان ولظروف طارئة يسلمها للحراس لقفل الابواب بعد دخول من تبقى من المساجين.

غضون فترة لا تتجاوز الشهر من هذا الحديث، فوجئنا بزيارة شخصية معروفة بارتباطها مع الحكومة، فقبل الوصول اليها اتفقنا على ان يتولي الاخ صالح جابر وراك، باعتباره اكبر المجموعة سنا، الرد على ما تقوله. كان اللقاء في مكتب اخلاه لنا نائب المدير، وسرعان ما بدأت الشخصية وهي تذرف دموعا لم نصدقها تقديم اعتذارات متكررة لعدم تمكنها من زيارتنا قبل هذا وانها كانت تتابع تطورات قضيتنا عن قرب والكثير من عبارات التدليس التي يتقنها امثالها، الى ان تساءلت وهي تتصنع البراءة وحسن النية عما نفكر فيه بعد ان اقفل امامنا باب القضاء مع التذكير والتأكيد على عدم الاستسلام وانها على استعداد كامل للمساعدة في لإنجاح اية خطوة نراها مناسبة، ثم قالت بما يشبه المداعبة ’إلا دارتكم مشلقي الاباني!‘ بما معناه ’اليس في داركم هذا – تعني السور – مكان يتم النفاذ منه‘ وبهذا تأكدنا انها جاءت تستقصي عن شيء محدد سواء كان مرتبطا بالمناقشات التي جرت بيننا او لهواجس كثيرة كانت تعصف بالمباحث. وسألتنا وهي تغادر اذا كانت لنا اية احتياجات لتحضرها معها في يوم الزيارة القادمة ولكنها لم تعد.

عندما كنت افكر واعد نفسي لتوطين نفسي على تحمل قساوة السجن لم اضع في اعتباري مدى قدرتي واستعدادي للتعامل والتفاعل والتعايش مع كل شخص حولي حسب اخلاقه واخلاقياته ونفسياته بحكم ان السجين بصرف النظر عن الالقاب والمسميات والاعمار بشر يخضع لظروف قاهرة تؤثر على تفكيره وسلوكه الارادي والغير ارادي حسب تقبله للواقع، وبالتالي لم اكن مهيأ لهذه الناحية وذلك لمحدودية التجربة والمعرفة ايضا. على عكس مما كان ينبغي، خلطت بين التربية الدينية والاجتماعية والعلاقات الانسانية فكونت موقفا سلبيا مسبقا من المجرمين من لصوص وقطاع طرق الذين يشكلون غالبية نزلاء العنبر مع اتخاذ موقف اخر لم يختلف عنه من حيث النتيجة وهو الحرص المبالغ فيه في التعامل مع زملائي في القضية تقديرا واحتراما لسنهم ومكانتهم بحيث لا اختلف او اعترض على رأيهم ناهيك مجادلة أيا منهم أيا كانت وجهة نظري الشخصية حتى في امور حيوية تهمني بذات القدر خشية الا يتسع لها صدر بعضهم بصرف النظر عن الصواب او الخطأ.

الهروب الى قسم العزل والعقاب كان اخر ما توصلت اليه. فبدلا من ان ينقل رئيس العنابر يدعى ودي زرئي طلبي الى مدير السجن، نقله الى الزملاء ما وضعني في موقف محرج جدا اعجزني عن تقديم تبرير واحد يقنعهم حتى اقترح بعضهم اعفائي عن ’خدمتهم‘ اعتقادا انها السبب، مع انني، حتى لو اعتبر ما كنت اقوم به خدمة فكان بقناعة وطيب خاطر. استدعاني مدير السجن الميجر تخلي مستفسرا ثم ناصحا للعدول عن الفكرة وخصوصا أنه لا يستطيع وضع شخص برىء في مكان مخصص للعقاب. ومن باب المؤاساة والتشجيع سمح باستلام كتب كان قد رفضها ضمن اشياء اخرى عندما عدنا من اديس ابابا في المستودع على امل ان يعاد النظر في منع ادخال الكتب، وفعلا احضرها الاخ الاستاذ محمد سعيد بشير بعد ان احتفظ بها طوال الوقت في منزله في اسمرا.

ذكرت مشكلتي للصديق احمد صالح كيكيا الذي لم ينقطع عن زيارتي فبدأ امدادي بنسخ من نشرة The Psychologist المتخصصة في المسائل النفسية اعتقد كان يحصل عليها من المكتبة الامريكية ثم عددا من اصدارات الكاتب الامريكي Dale Harbison Carnegie منها "How to win friends and "influence people - كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس" و "Stop worrying and start living” - دع القلق وابدأ الحياة وكانت ذات فائدة كبيرة جدا لكونها عبارة عن تجارب حقيقية تستحق القراءة لمرات عديدة. ولعلى احدى القصص التي يمكنني القول انها غيرت نظرتي تماما، تتعلق بعروس ثرية نقل زوجها الضابط الى صحراء نيفادا وسرعان ما بدأت تتذمر من العيش في بلدة جل سكانها من قبائل الهنود الحمر، فكتبت الى والدها تناشده بعمل المستحيل لإعادة زوجها الى مكانه السابق، فكان رده في جملة واحدة : ’دأب احد السجناء على قضاء يومه واقفا خلف الشباك يتابع المارة‘. اعتقدت في البداية انها مجرد مزحة ولكن بعد التفكير المتأني والتأمل أدركت انه يحثها على التعايش مع من حولها بدلا من التطاول الى من لا تصل اليهم. فأسرعت بالنزول الى السوق وعلى غير العادة بدأت تبادر بالسلام على من يقابلها من الاهالي بوجه يشع من الحب والاحترام فلأول مرة شعرت انهم فعلا بشر مثلها وانهم طيبون لهم قيم ومشاعر، وخجلت من نفسها اكثر عندما اهدتها عجوز تبيع فخارا قطعة اثرية!

فعلى ضوء اعادة التفكير والمراجعات التي قمت بها، ادركت بدوري ان المتسبب الحقيقي في وجود معظم هؤلاء النزلاء على مختلف تهمهم انما هو الواقع الاستعماري ولولاه لكان كل منا في مكان وحياة افضل، فتخليت عن الحواجز والتحفظات التي منعتني من التعاطي معهم بإيجابية وخصوصا ان بعضهم ومنذ اللحظة الاولى ابدى عطفا وتعاطفا تجاهي بسبب حداثة سني اذكر منهم، على سبيل المثال، تخليت واخر يدعى ابرهلي اللذين استمر تواصلي معهما حتى بعد نقلي الى سجن عدي خوالا والى تأريخ اعدامهما.

تعود علاقتي بالصديق احمد صالح كيكيا الى فترة الصبا ثم المدرسة حتى بعد انتقاله الى اسمرا للدراسة، وعرفته شهما وفيا ومن الصفات التي تميز بها انه كان مرهف الحس. قبل اعتقالي ببضعة اشهر، كنا، انا والصديق حسن امير، في مهمة في مدينة قندع عندما اتصل احمد يدعونا للحضور الى اسمرا ولو ليوم واحد نلتقي فيه جميعا وفي نفس الوقت نحضر حفلة تقيمها فرقة سودانية بقيادة الفنان محمد وردي والفنان ابراهيم عوض. في منزله وبحضور الصديقين علي سيد عبد الله واحمد طاهر بادوري قضينا يوما ممتعا استعدنا فيه الذكريات ونحن نحس اننا على وشك افتراق قد لا نلتقي بعده. ما اثار استغرابي في هذه اللحظة ان الصديق بادوري لم يدخل الحفلة معنا بالرغم من حضوره متأنقا ومتألقا مستعدا لها ولسبب ما ظل هذا الموقف عالقا في ذاكرتي طوال السنين وتحديد الى ان اهداني الصديق بادوري مشكورا باكورة كتبه ’رحلة مع الذاكرة‘ قرأت فيه انه فعلا دخل الحفل ولكن مع شقيقاته، فضحكت كثيرا وقلت ’هذا احمد الذي عرفته!‘.

وما لفت نظري في الكتاب المذكور ان الصديق احمد لم يوف والدته الخالة زهرة عثمان يمني حقها من التعريف من عدة نواحي اولها انها كانت ابرز الشاعرات اللواتي تناولن شخصيات مهمة واحداث من حروب وغزوات محلية والحربين العالميين فضلا عن ثورات عالمية، وكانت منافستها في هذا الخالة سعدية منتاي مع اختلاف الاسلوب والمواقف في بعض الاحيان طبقا لشخصية ورؤية كل منهما. فبينما كانت الخالة زهرة تتسم بقوة الشخصية وشجاعة ادبية تنتقي عبارات قوية ومباشرة، كانت الخالة سعدية لينة هادئة تعتمد أسلوبا سلسا رقيقا. ووفقا لهذه الخصائص، مع ان كلاهما ايدت وتغنت بالثورة المصرية في بداياتها تضادت مواقفهما تماما اثر انقلاب جمال عبدالناصر على الرئيس محمد نجيب و اعتقاله فأيدت احدهما الانقلاب واعتبرته الاخرى انقلابا على الشرعية ومن هنا جاءت عبارة كانت متداولة ’محمد نجيب لأبي لحتيت لقبأ وكربي‘. للأسف، لم نسمع من كل هذا الرصيد الثقافي الا شذرات ثم اندثر.

التقيت بالصديق بادوري بعد التحرير في اسمرا وتجاورنا في السكن وتطورت علاقتنا الاسرية نتيجة زواجه من الابنة الفاضلة امنة حسن نائب، من ناحية، ومن ناحية اخرى لصداقة قديمة بين والدتي ووالدته لم نسمع عنها حتى هذا الوقت. ومن حسن الحظ كانت تحفظ والدتي اكثر معظم الاشعار التي قالتها الخالة زهرة والخالة سعدية وان كانت تميل الى الثانية. فحول جبنة العصرية الاسبوعية كانت لنا جلسة تثار فيها سبب كل قصيدة والرد عليها بشكل فاق تصورنا حتى اقترحت الابنة امنة ضرورة تسجليها كل جلسة، ولكن بينما نمني انفسنا بالاستقرار لإخراج المشروع بالشكل المناسب، جاء عدوان نظام وياني فاختلفت الاولويات وتبخر ما حفظ.

ما كان يهمني الاشارة اليه في هذا المقام، موقف الخالة زهرة يمني الشجاع عندما وقفت امام الامبراطور هيلي سلاسي في بداية السبعينيات عندما ذهبت الى قصره على رأس مجموعة من نساء اعتقل ازواجهن. شاهد الامبراطور عند خروجه من باب القصر اعدادا كبيرة من الرجال والنساء بين ركوع وسجود، جاء بعضهم يستجدي والبعض الاخر يحمل شكاوي، وفي الركن مجموعة نساء محتشمات شامخات. استثاره الموقف فأوقف سيارته امامهن وامر سكرتيره ان يسألهن عما جاء بهن. ردت عليه الخالة زهرة انهن جئن يسألن عن ازواجهن. فقال لها الامبراطور ’ما بهم هم‘ فقالت له ’انما جئنا لنسأل هذا السؤال، انهم اخذوا من منازلهم في جنح الظلام، فاذا كانت الحكومة هي من اخذهم، فمن حقها ان تعتقل وتسجن ايضا ولكن في وضح النهار وعلى مرأى من الجميع، اما اذا كان الفاعل غيرها فعليها حماية المواطن، ولهذا نطالب الحكومة بسرعة اعادتهم الى عوائلهم‘. وبفضل من الله ثم بفضل شجاعتها تم اطلاق سراح جميع المعتقلين. قيل انهم اعتقلوا بسبب التحاق ابنائهم بالثورة والصحيح لانهم علموا ابناءهم معنى الكرامة. كم هو جميل ان يتحلى المرء بالشجاعة والجرأة في القول والفعل امام الصديق والعدو على السواء.

كان الصديق احمد صالح كيكيا الوحيد من بين المجموعة الذي لم يلتحق بالميدان، ولكنه عندما استدعى الموقف الشهادة كان اهلا لها . فقد اورد الصديق بادوري في كتابه في هذا الخصوص، عندما علم الصديق احمد وهو في مصوع ان جيش العدو ينكل بأهالي بلدة امبيرمي التي لا تبعد عنه اكثر من عشرة كيلو مترات، فما ان رأى العشرات بين صريع وجريح من ضمنهم اخواله وجنود العدو مستمرين في القتل والتنكيل بالأبرياء من النساء والرجال، انتزع رشاش قريب منه وقتل به اثنين قبل ان يسقط شهيدا. وكما توقع احمد كان ذلك اللقاء اخر لقاء له مع بقية المجموعة.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click