ذكريات وتجارب - الحلقة الثالثة والستون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

وبمجرد ان طمنا محمد قيتو كون سعيد صالح شخصية حقيقة في الجبهة، بدأنا نتساءل عما اذا هو فعلا من نتعامل معه

وفي نفس الوقت نازعتنا مشاعر متناقضة. تارة الاحساس بنشوة الانتصار الذى سيزلزل الارض تحت اقدام النظام الأثيوبي وتارة اخرى الاحساس بالخوف والاشفاق من حجم الخسائر التي قد تتكبدها الجبهة في سبيل انقاذنا بينما نحن عاجزون لا حول لنا ولا قوة.

استغلالا للأخبار المتواترة التي كانت تؤكد يوميا توغل الجبهة الى المرتفعات وخصوصا اواسط منطقة سراي وتحقيق انتصارات عسكرية كبيرة في ضواحي اسمرا وطريق مصوع، بدأنا في بث تحليلات وتفسيرات واحيانا اختلاق اخبار مناسبة بحيث يظل هذا الخبر موضوع الساعة في العنبر تمهيدا للتفاعل مع المتوقع اذا وقع بدون تردد. وبما ان السجين بطبعه تواق الى الحرية، كان الجميع يكرر بالليل ما قالوه بالنهار.

وبينما نحن مفعمون بالأمل والرضى لسير الامور على نحو مرضى صدمتنا معلومات تسربت من داخل ادارة السجن تفيد أن الرئاسة العامة في اسمرا طلبت وبصفة مستعجلة ملفات السجناء السياسيين ولاسيما ذوى الاحكام الكبيرة ليتم نقلهم الى السجون الاثيوبية. لم نشك مطلقا في صحتها حيث اعتبرناها منطقية جدا اذا ما تم ربطها بمدى الاهمية والخطورة الامنية التي تنظر بها الحكومة الى وجود السياسيين في سجن تتواجد الجبهة في محيطه. فما كان منا الا ان ابلغنا سعيد صالح بالمستجدات وطلبنا منه الإسراع في التنفيذ قبل فوات الاوان.

خلال ايام قلائل تلقينا ردا يطمئننا فيه سعيد صالح أن العملية ستنفذ قريبا وفى عز النهار ! تنفيذ العملية في عز النهار الامر الذي لم نتوقعه ولم يخطر ببالنا على الاطلاق حيث كان الاعتقاد السائد بيننا انها ستكون عملية ليلية خاطفة. بالفعل كانت بالنسبة لنا صدمة كبيرة جدا رأينا فيها تكرارا لمأساة عملية حلحل المشؤومة سيما وانه كان بيننا من المسنين والمرضى الذين لا يقوون على السير بالسرعة المطلوبة امثال الشيخ عمر كراي (عمر كراى الكبير - زميل محمد حامد وعلى بنطاز وحامد عواتي) وكان عمره في هذا الوقت يناهز السبعين بالإضافة الى محاذير عسكرية كان سعيد صالح ادرى بها منا ومع هذا لم نتردد في التعبير عن وجهة نظرنا بوضوح.

وقعت معركة حلل المشار اليها في السادس من اغسطس من عام 1968 عندما حاولت قوات من المنطقة الثانية بقيادة قائد المنطقة الشهيد عمر ازاز احتلال مركز شرطة المدينة. وحسب ما ذكر لي فيما بعد المناضل محمود ملكين الذي جرح فيها ان السبب في هذه المأساة نتج عن تكليف الشهيد عمر ازاز مراسلا يتنقل بين المدينة والميدان وتربطه به علاقة اسرية بتحذير الاهالي من انتقام جيش العدو عقب تعرضه لهجوم من الجبهة. اتضح ان هذا الشخص كان مراقبا وتم اعتقاله قبل تسلله الى المدينة واثناء التعذيب اعترف بالهجوم الوشيك الذي ستقوم به الجبهة. ومن فوره اخذ الجيش في تعزيز قوته ودفاعاته الى درجة اقتلاع بعض الاشجار المحيطة بالمركز، ولسبب ما لم تتنبه الجبهة لا لغياب الشخص ولا بالتحركات العسكرية الجارية في المركز حتى وقعت الواقعة حيث بلغ عدد الشهداء ست وخمسين مثل العدو بجثث سبعة واربعين منهم في مدينة كرن، اما عدد الجرحى فقد بلغ ستة وتسعين مقاتلا.

كم كانت هذه الايام عصيبة وكئيبة جدا بعد خضعنا للأمر الواقع، فعلى ضوء تنفيذ العملية نهارا اصبح بيننا وبين البوابة الرئيسية خمسة ابواب بدلا من ستة. اخر ما توصلنا اليه فيما يتعلق بما يمكننا القيام به كان منع الحراس الاحتياطيين المتواجدين في استراحة داخلية من الوصول الى مستودع السلاح. ورأينا ان الطريقة التي تمكنا من الوصول قبلهم الى الساحة الواقعة بين الباب الثالث والباب الرابع المؤدي الى مخزن الاسلحة والذى لا يمكننا باي حال من الاحوال اجتيازه، فعليه، انحصر تفكيرنا في كيفية تجاوز الباب الثاني والثالث. كنا في عنبر رقم 4 وبحكم عملنا كمدرسين كان من السهل ان يتواجد اثنان منا خارج الباب الثاني وامام الباب الثالث ذهابا الى المدرسة او ايابا منها. ولكن اثنان فقط لا يستطيعان تجاوز الباب الثالث، وحتى لو تجاوزاه ووصلا الى قبالة الباب الرابع فانهما لا يستطيعان مقاومة ومنع الحراس الاحتياطيين من الوصول الى المستودع حيث يمكن القضاء عليهما بسرعة وسهولة.

اما اذا تمكن الاثنان من التغلب على الشاويش المناوب اثناء فتحه باب العنبر لإدخالهما وسارعا بفتح الباب على مصراعيه امام السجناء المتواجدين في الساحة فبإمكان بعض المندفعين منهم بشكل هستيري تسلق الباب الثالث، بالرغم من الاسلاك الشائكة، والوصول الى قبالة الباب الرابع حيث يفترض مواجهة الحراس الاحتياطيين العزل القادمين من الاستراحة في معركة متكافئة بالأيدي مع استبعاد توجيه الحراس على السور نيران بنادقهم الينا اولا نتيجة لتداخلنا مع الحراس الاحتياطيين وثانيا لتعرضهم في نفس اللحظة للإطلاق نار من الجبهة. كان تقديرنا للفترة الزمنية التي قد تستغرقها هذه العملية ما بين اربعة وخمسة دقائق.

اما من الناحية العملية فلقد كان من المستحيل ان تنجح هذه الخطة ما لم يتوافر لها شرطان وفي نفس الوقت متزامنان، اولهما ان تنفذ العملية اثناء دوام المدرسة حتى نكون في الساحة الفاصلة بين عنبرنا والعنابر الاخرى وثانيهما تواجد الشاويش المناوب في هذا المكان وبالثانية. كتبنا الى سعيد صالح بهذا التصور لأخذه في الاعتبار عند تحديد ساعة الصفر واكدنا عليه العمل على تأمين تواجد الشاويش المناوب او بديله في المكان المحدد.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click