ذكريات وتجارب - الحلقة السادسة والخمسون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

سجن عدي خوالا عبارة عن قلعة تطالعك من مسافة بعيدة حيث يبلغ علو سوره نحو خمسة أمتار

وعرضه نحو مترين تعلوه ستة قبب خرسانية للمراقبة فضلا توفر قوة عسكرية لا بأس بها عدة وعددا يمكنها الصمود ريثما تصلها النجدة. فقد بني السجن في العهد الايطالي في موقع استراتيجي من المدينة الواقعة في اقليم سراي القريبة من الحدود الاثيوبية.

ومن ناحية توزيعاته الانشائية فيتكون السجن من عدة مكاتب ادارية، ستة عنابر خاصة بالذكور وعنبر للإناث، زنزانات للعزل والعقاب، عنبر لاستراحة الحراس الاحتياطيين، عنبر مقسم بين عيادة ومستشفى، مطبخ وملحقاته، مستودع مركزي، مدرسة - وهى عبارة عن عنبر مقسم إلى فصول، غرفة لجهاز لاسـلكي، غرفة لمولد كهربائي احتياطي وكان عدد المساجين يتراوح بين ثلاثمائة وخمسين الى اربعمائة سجينا.

كان عنبر 4 الذي اودعت فيه خاصا بالسياسيين وكان عددهم نحو ستين اعرف غالبيتهم، والعنابر بصفة عامة كانت اكبر واوسع من عنابر سجن سمبل وبالتالي كانت المساحة المخصصة للفرد اكبر. اما الساحة او الفسحة التي يقضي فيها المساجين حوالي ثمانية ساعات في اليوم كانت نوعا ما صغيرة ومغطاة بحصى عمق خمسة عشر سنتمتر تقريبيا، ولهذا كانت نعال معظم احذية المساجين معمولة من كفرات السيارات. كانت اجسام معظمهم نحيلة وشاحبة بفعل سوء التغذية بعد تخفيض المصاريف وايضا نتيجة طبيعة الطقس الذي يتسم بحرارة شديدة في الصيف وبرودة شديدة في الشتاء.

سواء كان بسبب بعد المسافة او ضعف الامكانات المادية، كانت نسبة الزيارات الى هذا السجن قبل قدوم السياسيين اليه شبه نادرة المقارنة الا من اهل المنطقة. فعلى سبيل المثال، عندما توقفت بنا السيارة امام البوابة للحظة، رأينا من خلال فتحة التهوية عدد لا بأس به من الاهالي مجتمعين امام السجن فاعتقدنا انهم عوائل جاءت لزيارة ابنائها كما يحصل في سجن اسمرا، ولكن عندما عبرنا الى الداخل وسمعنا وصفا حيا كان ينقله حارس فوق البوابة لزميل له كان بالقرب منا امام المكتب فهمنا ان سبب التواجد لم يكن بقصد الزيارة انما لمشاهدة سجين خرج توا بعد ان قضى نحو عشرين عاما في السجن (أي من اهل الكهف) وكانت هذه المرة الاولى التي يتم فيها اطلاق سراح سجين قضى مثل هذه المدة في المدينة حيث كان كل من اقترب تاريخ خروجه يحول الى سجن اسمرا ليستعيد توازنه النفسي ويتأقلم مع الحياة الاجتماعية. والموقف المؤثر، بينما كان هؤلاء الناس يتفرجون عليه كان السجين يحوم حول حمار تصادف وجوده في الموقع لأنه لم ير حمارا طيلة هذه المدة. تظاهرنا بالضحك من باب المجاملة ولكننا في قرارة انفسنا كنا نشعر بخشية من ان يكون مصيرنا نفسه.

لهذه العوامل، كان الشخص الذي يزوره احد او تصله رسالة يحظى باحترام ويقام له تكريم وفقا لعرف متبع. فبعد تناول وجبة الغداء او العشاء، يعلن رئيس العنبر او اقرب شخص اليه انه تلقى زيارة او رسالة وانه سيتم شرح تفاصيلها بعد الانتهاء من غسل الصحون والحمام. وبعد تكامل الحضور والتزام الصمت، يقف الشخص المعني امام مرقده وعلى يمينه زميله الذي يتولى الشرح ابتداء من التعريف بهوية الزائر وصلة القرابة او الصداقة التي تربطهما ثم ما تم تبادله من حديث، اما اذا تعلق الموضوع برسالة فيقرأها ثلاث مرات، حتى لا يكون هناك من فاتته القراءة الاولى او الثانية، ثم يجلس الاثنان على مكان مرتفع، على سبيل المثال، فوق فراش مطوي، ومن ثم يبدأ طابور المهنئين له ولزميله. ثم يتناوب البعض في قراءة الرسالة شخصيا. وينقل الخبر او الرسالة في اليوم التالي الى اقرب زملائه في العنابر الاخرى وهناك ايضا يحظى بنفس الاحترام وتقام بنفس المراسيم وهكذا تصل الرسالة او الخبر الى اخر عنبر. قد ينظر البعض منا الى هذه التصرفات بعين السخرية واستخفاف، اما بالنسبة لأولئك الذين عاشوا معزولين بكل ما تعني الكلمة ولم يروا وحتى لم يسمعوا شيئا عن اهلهم ناهيك عما يجري في العالم لسنوات عديدة فالوضع مختلف تماما. لان هذه الرسالة التي لا تزيد عن صفحة واحدة بمثابة الاعتراف بإنسانيته والتأكيد على عضويته في المجتمع. فما بالك اذا كنا نحن اليوم نصاب بانزعاج وقلق اذا لم نسمع رنة هاتفنا لساعة فقط بالرغم مختلف وسائل الاتصالات المتوفرة.

كان المساجين قبل قدومنا بفترة وجيزة يعملون في تكسير الحجار الى حصى (gravel) يدويا وبالمعنى الاصح كانوا عبارة عن كسارة بشرية مقابل سنت واحد في اليوم بينما تربح ادارة السجن اموالا طائلة، وعلى العموم، بفضل الثلاثين دولار التي يحصل عليها في عشرة اعوام كان السجين يضمن اجرة المواصلات والمصاريف التي توصله الى اهله. بالإضافة الى الكسارة، كان هناك مشغل سجاد تم نقله الى سجن سمبل يعمل فيه المساجين بدون أي مقابل مادي اللهم تمضية وقت. والشيء الوحيد الذي تبقى من كل هذا كان فتل الحبال الذي لا يستغرق اكثر من ساعتين في اليوم صباحا ومساء ومجموعة صغيرة تقوم بصبغه بالوان معينة قبل شحنها الى سجن اسمرا.

بدون اخبار ومستجدات او، على الاقل، دعاية واشاعة كما كان في سجن اسمرا، تكون الحياة مملة ورتيبة جدا فيعود الانسان الى مخزونه من ذكريات الماضي وحتى هذه سرعان ما تستهلك ولهذا قليلا من كان يتسامر حيث يأوي الجميع الى مراقدهم ويتناومون الى ان يناموا حتى قبل الساعة الثامنة وهو الموعد المحدد نظاما. اما مساء يومي السبت والاحد فيشنف آذانهم لسماع موسيقى رومانسية هادئة واغاني ناعمة تثير الاشجان وتنعش الذكريات وكأنها مؤلفة خصيصا لمن يعانون من اكتئاب مثلنا. وللأسف، بعد اسبوع او اسبوعين اعلنت حالة الطوارئ وحظر التجوال ليلا في البلدة قيل بسبب معركة جربت مع الجبهة منطقة مسيام القريبة ما ادى الى اقفال البار ابوابه.

لم يكتف المالك بقفل باره فحسب بل قرر التخلص من قرد كان يستفيد منه في تسلية زبائنه سواء ببيعه او تشريده في الشارع، فاقترح عليه احد الحراس ان يصحبه كل يومي السبت والثلاثاء - ايام زيارة العوائل - لعل المساجين يأنسون به ويعطفون عليه بما توفر لديهم ريثما يقرر هو ما يفعله. وبالرغم من ضيق ذات اليد، لم يبخل المساجين في الاحتفاء بضيفهم الكبير تقديرا لظروفه ولأنهم مر على بعضهم عشرات السنين لم يروا فيها قردا، ولم يكن القرد اقل تقديرا وتفاعلا مع تعاطفهم فقضى يومه الاول في عنبر رقم 3، وكان عمال المطبخ ينقلون اخباره وحركاته البهلوانية اولا بأول بشكل اثار فضول العنابر كلها. وانتقل في اليوم التالي الى عنبر رقم 2 ولم يكن حاله اقل حماسا وسعادة بمن حل بدارهم. وكذلك عنبر رقم 3 وتشرفنا بزيارته في اليوم الرابع الذي صادف يوم الزيارة.

لربما من باب اللياقة واللباقة فقط قبل دعوتنا حيث تبين انه لم يكن سعيدا ان لم يكن مكتئبا، ومع هذا انهالت عليه ببعض الفواكه رغم ندرتها ولكنه لم يعفها فحسب بل واصر على عدم الاقتراب منها كما يفعل الفأر من قطعة يشك في امرها، وظل متلبثا بمكانه وسط العنبر حزينا يلهث ويتأوه وكأنه اصيب بفاجعة او تبلغ امرا خطيرا. وهكذا قضى معظم يومه تقريبا مخيبا امل الزملاء استبشارهم به بل زادهم الى همهم هما. كان الزميل ادريس نافع الوحيد الذي لم ييأس منه فقضى وقتا طويل وهو يلاطفه ويلاعبه ولكن بدون جدوى حيث ازداد تنهدا وانينا واضعا فمه على يديه الممدودتين الى الامام، فما كان من ادريس الا ان قال ’أتتأوه ولم يمض عليك الا اربعة ايام‘ ورماه بفردة حذاء كادت تفقأ عينه. الزميل ادريس كان مقاتلا حكم عليه بعشرة اعوام.

علق احد الرقباء عندما رأى حال القرد وهو يخرج ’انا متأكد ان هؤلاء الملاعين قالوا له شيئا في السياسة‘! اعتقد ان السبب وراء تغير نفسية القرد ونظرته انه استنتج من رؤية نفس الوجوه في نفس المكان وفي نفس الحال لعدة ايام انهم مساجين وبالتالي انه في سجن وليس في سوق كما تخيل في البداية فخشى ان يبقى فيه فياما في السجون من ابرياء. لا تثريب على زميلنا القرد اذ ليس اول من ينخدع بالمظاهر، فكثير من البشر ايضا لا يدركون انهم في المكان او الوضع الخطأ الا متأخرا وربما متأخرا جدا.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click