ذكريات وتجارب - الحلقة التاسعة والاربعون

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

اول عملية تطوير جرت على اللجنة المركزية التي تكونت في 1960/7/7 كأول قيادة للجبهة كان عام 1962 تحت مسمى

المجلس الاعلى وكان برئاسة الشيخ ادريس محمد ادم وعضوية كل من ادريس قلايدوس، سيد احمد محمد هاشم، محمد صالح همد، وضم اليهم فيما بعد عثمان صالح سبي وعثمان ادريس خيار ثم تدلا بايرو. ولربما لقاء المناضل الكابتن احمد شيخ ابراهيم فرس بالشيخ ادريس محمد ادم وعثمان سبي معا في عدن، حسب ما ذكره في سيرته الذاتية (نضالي مع الثورة الارترية) كان بعد هذا التشكيل حيث قال انهما كانا في طريقها الى الصومال ومنه الى العراق لاستلام واحضار الاسلحة التي كان من المفترض ان يتولى هو نقلها من عدن الى ارتريا بحرا لولا تراجع الرئيس العراقي عن وعده ما ادى الى شراء خمسة بنادق وسبعة مسدسات مع كمية من الذخيرة من السوق المحلي في عدن وتوليا نقلها معهما الى السودان جوا.

وفي عام 1965 اعيد النظر في تشكيلة المجلس الاعلى وتحديد مهام اعضائه على النحو التالي: الشيخ ادريس محمد ادم - رئيسا، تدلا بايرو - نائبا، عثمان صالح سبي - سكرتيرا للعلاقات الخارجية، ادريس عثمان قلايدوس - سكرتيرا للشئون الداخلية، محمد صالح حمد - مسئولا عن الاعلام، طه محمد نور - مسئولا عن شئون الطلاب، سيد احمد محمد هاشم - عضوا، عثمان ادريس خيار - عضوا. وبالرغم من هذا التشكيل الذي كان يهدف الى تحسين الاداء والعمل بسلاسة، استمر الخلاف ان لم يتطور نحو الاسوأ حيث لم تتجاوز المعالجة قشور المشاكل وليس جذورها.

كان عثمان سبي يتهم الشيخ ادريس محمد ادم وادريس قلايدوس تحديدا، طبقا لما سمعته من عدة اشخاص قريبي من عثمان، انه كان يتهمهما منذ البداية بالسعي الى حصر قيادة الجبهة في ابناء المنطقة الغربية وتحديدا قبيلة بني عامر وبجوك على اساس انهم الاقدر على حمايتها والحفاظ على مكتسباتها وعلى هذا الاساس كانت تعتمد تعبئتهما داخل قاعدتها، وانه كان يستدل على هذا بتجاهلهما له لفترة طويلة مع انه كان المبادر بالاتصال بهم واسبقهم الى النشاط السياسي في الخارج، وانه كان يشعر ان دعوتهما المتأخرة له للانضمام الى المجلس الاعلى لم تنبع عن قناعة وتقدير حقيقي لدوره بقدر ما كانت للاستفادة من خدماته وفقا لحسابات معينة. وان ما لمسه عندما دخل الميدان قب استشهاد قائد الجيش بابكر محمد ادريس عام 1963 عزز فيه هذا الشعور. فبينما كان من المفترض، حسب التقاليد المتبعة، تثبيت محمد عمر ابو طيارة على القيادة بحكم النيابة والاقدمية، اصر الشهيد طاهر سالم وبشدة على انه الاحق بالمنصب حتى كاد الخلاف يأخذ منحى اخر ما استدعى تدخل المجلس الاعلى لحسمه بسرعة. وعندما تقاعس اعضاء المجلس الأدري بالبيئة والاشخاص، دخل عثمان الميدان وبعد استجلاء الموقف والاستماع الى كافة الآراء، طلب من طاهر سالم اعتراضه ولكنه، بدلا من الامتثال للتوجيه، شهر مسدسه الامر الذي زاد الموقف تأزما ولاسيما بعد ان رشحت معلومات تشير الى وقوف ادريس قلايدوس وراء المشكلة حيث ينتمي ابو طيارة الى قبيلة ماريا.

وعليه، تفاديا لمضاعفات اكبر تنعكس على معنويات المقاتلين وعلاقاتهم البينية، صارح عثمان القائد ابو طيارة بالحقيقة وان المصلحة الوطنية في هذا الظرف الدقيق تقتضي منه التنازل عن حقه النضالي، وبالفعل تجاوب ابو طيارة مع ما طلب منه عن طيب خاطر، ولربما من هنا نشأت العلاقة والثقة بين سبي وابو طيارة ظهرت اثارها فيما بعد. واذا صحت هذه الرواية، فان زعم البعض ان تولي طاهر سالم قيادة الجيش نتيجة استدعاء ابو الطيارة من قبل المجلس الاعلى غير صحيح ومجحف ايضا.

اما اول اختلاف مباشر جرى بين عثمان سبي والشيخ ادريس وادريس قلايدوس كان عقب انضمامه الى المجلس الاعلى واقتراحه توسيع وتنويع عضوية المجلس من خلال استقطاب كفاءات فعالة من ضمنها، على سبيل المثال، عثمان ادريس خيار وتدلا بايرو، على اساس ان الاول كان معروفا بموقفه الوطني ونشاطه السياسي قبل وبعد قيام الجبهة ولكونه مؤسس فرع جدة الذي تعتمد عليه الجبهة ماليا ولوجستيا، والثاني باعتباره رئيس حكومة سابق يمكن ان يعطي القضية زخما سياسيا وشعبيا في الداخل والخارج وفعلا تم التوافق على استيعاب المذكورين مع ازدياد الشكوك في انه يسعى لتعزيز موقفه وخلق ارضية داخل الجبهة اكثر من سعيه لتطوير اداء التنظيم ما رفع من درجة الريبة والحذر من أي اقتراح يقدمه او من شخص ينتمي اليه وسرعان ما انتشرت نغمة ’جماعة سبي واولاد البحر الاحمر‘ مع ما تحمله من اتهامات ومضامين سلبية.

اما الطلاق الغير معلن فقد كان في الجلسة الاولى التي عقدها المجلس الاعلى عقب تأسيس المناطق و انتشار الجيش فيها. كان الغرض من عقد الاجتماع الاستماع الى تقييم الوضع التنظيمي الراهن من ضمنها الصعوبات التي واجهت القوات اثناء الانتشار. وفي هذا تساءل عثمان سبي عن مدى صحة المعلومات التي ذكرت ان جنودا من ابناء المنطقة الغربية رفضوا في اللحظة الاخيرة التوجه مع وحداتهم الى منطقة البحر الاحمر وكانوا سببا مباشرا في الخسائر الكبيرة التي تكبدتها القوة في الارواح والمعدات وتعريض مشروع افتتاح المنطقة الى فشل حقبقي، وماهية الاجراءات التي تم او يجب اتخاذها ازاءهم.

وعندما لم يتم تقديم توضيح مقنع وبصفة خاصة من قبل الشيخ ادريس محمد ادم، بحكم موقعه كرئيس وادريس قلايدوس بصفته سكرتيرا للشئون الداخلية وعدم تعاملهما مع السؤال بالجدية والاهمية التي يستحقها، واخذا في الاعتبار اخفاقات تنظيمية سابقة وما تستدعيه المرحلة المقبلة من جهد كبير، طلب بعض الاعضاء من الشيخ ادريس افساح المجال لغيره الا انه اعتبر المنصب مكتسب شخصي لا يمكن التنازل عنه ولاسيما انه المؤسس، الاكبر سنا ومن اكبر مكون اجتماعي.

فيما يتعلق بالمعلومات التي كانت لدى عثمان وهو يطرح السؤال، ان رفض اولئك الجنود كان جماعيا وموجها يهدف الى تمكين العدو من تصفيتها بحيث لن تكون له خلفية عسكرية يعتمد عليها، وان الشيخ ادريس محمد ادم وادريس قلايدوس ان لم يكونا مشاركين في وضع الخطة، فعلى الاقل، كانا على علم تام بها.

شخصيا، تأكدت من عدة كوادر وجنود رفضوا التوجه مع قوتهم الى منطقة البحر الاحمر، ولاعتبارات اقدرها، تحفظ بعضهم في توضيح الاسباب بينما لم رغب البعض الاخر في استعادة مرارة الماضي.

بما ان المعلومات الواردة اعلاه سمعتها من طرف يمكن اعتباره متعاطفا مع موقف عثمان سبي، اقتضت مني الموضوعية الاستماع الى وجهة نظر الطرف الاخر ممثلة في بعض القيادات والكوادر التي عايشت تلك المرحلة . للأسف، كانت اغلبية الاجوبة نمطية لا تزيد عن حصر مشكلة الجبهة في الخلاف بين عثمان سبي وادريس قلايدوس ولكن بدون ذكر وقائع محددة اللهم مضاعفاته اللاحقة في السبعينيات.

فلم يكن امامي بد من محاولة الاستماع الى وجهة نظر الاستاذ ادريس قلايدوس. سنحت لي الفرصة بعد الاستقلال حيث التقيته في منزله في اسمرا صحبة الاخ عبدالرحمن صالح عثمان (نكروما) من ناحية لعيادته حيث كان قد مر بوعكة صحية، ومن ناحية اخرى للتعرف عليه، واذا امكن، استغلال الفرصة على امل ان يثري الاخ عبد الرحمن النقاش بحكم المامه الكبير بكل ما شهدته الساحة من تطورات اذ كان من اوائل من انخرطوا في السياسة فور قيام الجبهة وحتى ما بعد الاستقلال. مع ان زيارتنا كانت بدون موعد مسبق، استقبلنا بحفاوة وعفوية غيرت الصورة الذهنية التي كنت احملها عنه، ومن باب التمهيد ذكرت له ان زوجته الاخت رشيدة كانت زميلتي في المدرسة في مصوع وانني زرتها في مستشفى القاهرة عندما ولد ابنه عثمان عام 1976. شعر من تلقائية اسلوبه في الحديث انه كان مستعدا للفضفضة كشأن كل السياسيين عندما يصلون اواخر المشوار، وبينما افكر في كيفية استهلال الاسئلة دخل فوج من الزوار فلم يكن امامنا سوى افساح المكان المجال على امل ان اعيد الكرة في زيارتي قادمة الى اسمرا ولكنه كان قد انتقل الى رحمة الله.

ولعله من المفيد ان اقتبس هنا نصا بعض النقاط التي وردت في كتاب المناضل ابراهيم محمد علي - عضو اللجنة التنفيذية في جبهة التحرير الارترية - المجلس الثوري "مسيرة جبهة التحرير الارترية - بداية ونهاية" في هذا الخصوص مع الامل على ان يتم اثراءه من قبل الاخرين.

في صفحة 42 قال عن عثمان:-

• صحيح ان عثمان سبي قدم كثيرا من خلال اعمال الترجمة واصدار المطبوعات للتعريف بالقضية والهوية الارترية ولاسيما في منطقة الشرق الاوسط‘.

• صحيح ان عثمان كان يتميز عن رفاقه في القيادة بنشاط وحيوية عاليتين.

• كان، للأسف، يهدم في الداخل ما يبنيه في الخارج.

• لم يكن يتورع او يتردد في استخدام اية وسيلة للوصول الى غايته.

وفي صفحة 43 قال:-

• وصف عثمان المجتمع الارتري انه عشائري وطائفي.

• ’استخدم موارد العلاقات الخارجية في الدعاية الى تشويه صورة قلايدوس‘.

وفي صفحة 44 قال:-

• اما فيما يعلق بالأسباب الحقيقية للخلافات في المجلس الاعلى، خاصة بين عثمان سبي وادريس قلايدوس والتي وصلت الى حد العداء بينهما فلا احد يعرف ذلك بدقة‘.

• كانت ترشح احيانا مزاعم واتهامات من هنا وهناك، ولاسيما من فريق عثمان تزعم بل تتهم قلايدوس بالانتماء الى الشيوعية وتشير الى انه عندما كان طالبا وكانت له صلات بأطراف يسارية دون تحديد تلك الاطراف‘.

• وكذلك بالنسبة الى عثمان فثمة مزاعم من نوع اخر تدعي بانه عندما كان يعمل معلما في مدرسة حرقيقو كان ينتمي الى جماعة اسلامية تدعى جماعة (العروة الوثقى) لكن لا توجد حقائق موثقة تؤكد هذه المزاعم او تنفيها‘.

وفي صفحة 54 قال فيما يتعلق بتعثر الوحدة بين المناطق:-

• فجناح سبي وقيادة الوحدة الثلاثية (الثالثة والرابعة والخامسة) يوجهون الى جناح ادريس محمد ادم وقيادة المنطقتين (الاولى والثانية) الاتهامات بعدم الجدية في قضية الوحدة في حين يتهم جناح ادريس محمد ادم وقيادة المنطقتين جناح سبي والوحدة الثلاثية باستغلال قضية الوحدة الوطنية لأغراض سياسية تستهدف الهيمنة على جبهة التحرير الارترية‘.

في رايي الشخصي ان كل النقاط المذكورة اعلاه كلام عام، اما لان الكاتب غير ملم بما كان يجري وهذا مستبعد، واما لأنه اعتبره اسرارا وحرصا على السمعة، وهذا ايضا يتنافى مع ما تضمنه الكتاب من اقوال لم يراع فيها حتى الحد الادنى.

كان هذا بخصوص ما عرفته عن اسباب ومدى تدهور العلاقة بين القيادة السياسية منذ انطلاقة الجبهة وحتى 1968، اما ما كان يجري خارجها في القاهرة وحسب ما سمعت من بعض السياسيين والطلبة، ان الشيخ ابراهيم سلطان لم يمارس منذ وصوله الى القاهرة برفقة الشيخ ادريس محمد ادم أي نشاط سياسي، وانه لم يشارك في تأسيس الجبهة ولم يشترك فيها، كما انه لم يبذل أي جهد او دور يذكر للتوفيق بين اطرافها المختلفة وان كان، لأسباب معينة، يميل الى جانب عثمان .

اما الزعيم ولدآب ولد ماريام اول لاجئ سياسي ارتري الى مصر فقد بدأ فور وصوله بالتعاون مع وزارة الداخلية في مجال الترجمة من والى اللغة الامهرية والتجرينية، وعندما اختلفت الحكومة المصرية مع الحكومة الاثيوبية ابان تأميم قناة السويس سمحت له بث برنامج اذاعي اسبوعي موجه باللغة التجرينية بمساعدة الدكتور الصافي امام كان يحظى بمتابعة كبيرة في ارتريا وسرعان ما توقف عندما تحسنت العلاقة بين الدولتين، كما انه اقام بعض العلاقات مع بعض دول المنطقة والدول المهتمة بالشأن الارتري من خلال تزويدها ببعض النشرات والدراسات التي تدعم شرعية القضية الارترية واهميتها الاستراتيجية في المنطقة.

والاهم من هذا انه اهتم ولد آب كثيرا بتوعية وتعبئة وتنظيم الطلبة في امريكا الشمالية والدول الاوربية من خلال طبع أدبيات ودراسات ارشادية دورية تحليلية للأوضاع السياسية والاجتماعية في ارتريا والاسلوب الامثل لتأسيس عمل وطني سياسيا كان او عسكريا يؤدي الى التحرير والاستقلال. لقد قرأت في احدى رسائله التي كتبها عام 1964 الى هؤلاء الطلبة دعوته لهم بعدم الانزعاج من قيام الجبهة وانه يتابع التطورات المتصاعدة داخلها عن كثب ويتوقع، بالنظر الى محدودية قدرات قادتها، على حد قوله، ان يكون مآلها الفشل ويطالبهم بعدم التعامل او الالتحاق بها او القيام باي تحرك ريثما تصلهم اشارة منه.

وفي نفس السياق، واستنباطا من رسالة اطلعت عليها كتبها اليه عثمان سبي في سبتمبر من عام 1968، قام ولدآب بإقناع مجموعة ضباط مسيحيين كانوا في طريقهم الى الميدان بعد ان تخرجوا من دورة عسكرية في الصين ان الجبهة عبارة عن مجموعات قبلية اقليمية متعصبة ومتناحرة وانها على وشك الانقضاض على بعضها وان عليهم ان يربؤوا بأنفسهم بالهجرة الى اوروبا والتحرك مع اخوانهم على ان يوافيهم بكل المعلومات، ثم اعطاهم رسالة الى عثمان يوصيه فيها بمساعدتهم للهجرة الى اوروبا. لهذا كانت رسالة عثمان عبارة عن عتاب شديد له على سوء تصرفه والاضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالجبهة بسببه، مع التأكيد على ان الاوضاع داخل الجبهة تسير بشكل مرضي وان كل ما يسمعه من اخطاء وتجاوزات انما من صنع اجهزة العدو واعوانه، وفي نفس الوقت وجه انتقادا لاذعا للمثقفين المسيحيين بسبب تقاعسهم عن المشاركة في الجبهة او، على الاقل، الدفاع عنها اعلاميا في مواجهة الحملة الشرسة التي تتعرض لها في الداخل والخارج، وختاما ابدا له استعداد الجبهة لإصدار مطبوعة باللغة التجرينية حتى يواكب القراء بمتابعة الاحداث ولكن اذا وافق هو على تولى تحريرها.

ارجو من خلال هذا السرد ان اكون قد اعطيت القارئ الكريم لمحة عن الخلافات السياسية التي اضاعت الفرصة التاريخية التي سنحت عام 1968 حسب ما كان يبدو لي، فمما لا شك فيه ان تبعات طول الزمن وتكاثر عدد اللاعبين في وضع اصلا متأزم لا تزيد الا تعقيدا لما لكل منهم من حسابات وطموحات. وعليه، كان من الطبيعي الا يتمخض مؤتمر ادوبحا الذي عقد عام 1969 تحت هذه التأثيرات والمؤثرات الا عن قيادة مدفوعة بروح انتقامية سرعان ما اقحمت الساحة في صراعات وحروب اهلية قضت على امال الشعب وتطلعاته في الامن والاستقرار.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click