التواطؤ والخيانة الخونة الكوماندوس - الحلقة الرابعة

بقلم الأستاذ: متكل أبيت نالاي - كاتب وناشط سياسي ارتري

أوراق ودرو ولسون العامة، تحرير ري ستنرد بيكر ووليم: وفي مزاج الحلفاء الظافرين كيف كان ينظر

إلى مبدأ تقرير المصير في تلك الفترة، وبرعايتهم كيف نظموا الشعب الإرتري مصيره. بدا تقرير المصير للكثيرين، في ريعانه الو لسني، فكرة بسيطة مستقيمة تجمع تحت عنوان واحد عددا من اعز فكر الليبرالية في القرن التاسع عشر، مما يتعلق بالحرية والديمقراطية وحقوق الأفراد والشعوب. على أن تاريخه فيما بعد كان تاريخاً متعدد الأشكال في تطبيقه العملي وفي وضع النظريات المتعلقة به على السواء.

وهو ما برح يغري الرجل المجرب بإظهار فطنته وعلمه، عن طريق التدليل على نقائصه ومناقضاته، كما إنه اكره كثيرين من رجال الدولة على هز رؤوسهم هلعاً من قسماته الفجة. فلا المجرب الشكاك، ولا رجل الدولة المضطرب كان له أي أثر خطير في زحف الشعوب الثوري لبلوغ مصيرها المستقل بأسلوبها الخاص بها.

وإلقاء نظرة خاطفة على خبرة العالم بتقرير المصير منذ الحرب العالمية الأولى يدل على سيرته الغربية. فلقد بين ودرو ولسون قواعده، كما بينها البلاشفة في إثناء الحرب، فصار احد المبادئ الأساسية في المجتمع الدولي، ومع ذلك فانه لم يجد مكانا في ميثاق عصبة الأمم. وقد عمل كمرشد في كثير من الحالات التي أعيد فيها تشكيل الدول في أثناء عقد الصلح الذي جاء في أعقاب الحرب.

ولكن، بعد إتمام هذه العملية،لم يظهر من الدول الجديدة على المسرح الدولي في عقود ما بين الحربين سوى أيرلندا في أوروبا والعراق والسعودية في آسيا (ويمكن إغفال دولة مانشوكو اليابانية الضعيفة إغفالا ملائماً في هذا السياق، كما يمكن إغفال ما خلفه هتلر في أوروبا الوسطى).

وخبرة الحرب العلمية وما أعقبها هما عكس الأولى من عدة وجوه. ومع أن ميثاق الأطلسي أبدى ولاء مناسباً لتقرير المصير غير مباشرة نوعاً ما، فان الحلفاء لم يكونوا منقسمين فقط فيما يتعلق بتطبيق تقرير المصير، ولكنهم كانوا أيضاً قد فقدوا عموماً حماستهم له كشيء يقرب أن يكون دواء لكل داء ـ هذا إذا تركنا جنبا إعادة الشعوب التي قهرها المحور إلى مكانتها السابقة. وهدف تقرير المصير عند الإتحاد السوفيتي كان قد صار بالنسبة إلى جيرانه الغربيين أما الدمج أو الإخضاع، أما عند الدول الاستعمارية فقد صار معناه هدم الاستعمار بيد ذاتها. ولذلك فان مبدأ تقرير المصير للشعوب لم يقم إلا بدور ضئيل فيما حصل من عقود الصلح، مع أن هذا المبدأ كان قد صار عندئذ غرضا من أغراض ميثاق الأمم المتحدة. وكبديل محزن من تسوية سلمية، فان الحرب الباردة عملت حقا على إقامة تجزئات قومية على بعض النقاط الرئيسة في الحدود الدولية المعروفة. وفي ألمانيا وكوريا وفيتنام أخضعت دعاوى الأمم في الوحدة للإستراتيجية العالية الخاصة بالسياسة الدولية، فكانت النتيجة أن كلاً منها أقيم فيه حاجز مخفور بصورة حماسية ليبين حدود المناطق الخاصة بالكتلتين الكبيرتين المتناحرتين، كما أن الصين كابدت الفصل بين أرضيها وجزيرة فرموزا. وفي كل حالة من هذه الحالات كان ثمة نظامان يتناحران بشدة، أحدهما شيوعي والآخر غير شيوعي، وكل منهما يدعي الحق في تمثيل الإرادة القومية تحت شعاراته الخاصة به.

وكان تقرير المصير لا يزال فيه الكثير من الحياة، ولكن مكانه كان قد تحول من أوروبا إلى آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، وكانت الدول المناهضة للاستعمار تتجه إلى التأكيد بأنه مسألة لا تنطبق في أغراضها العملية إلا على المناطق المستعمرة. ومع أن الذين عقدوا الصلح في فرساي عام 1919 كان في إمكانهم غالباً عمل شيء أكثر قليلاً من إقرار حالات واقع كانت الشعوب التي يعنيها الأمر مباشرة قد حققتها،فان إعادة تنظيم أوروبا الوسطى والشرقية إنما جرى حقا تحت رعاية الحلفاء الظافرين وعلى حساب أعدائهم وحساب روسيا. وفي عام 1945 وما تلاه كان تقرير المصير سلاحاً مسددا مبدئياً إلى الدول الاستعمارية الظافرة نفسها، ولم يكن هذا المبدأ تحت سيطرتها إلا من حيث إنها كانت تستطيع إما محاربته كلية، كما في الهند الصينية واندونيسيا، أو العنوا له بشيء كثير أو قليل من الرضا، كما في الفيليبين والهند وبورما وسيلان. ومقابل بروز العراق الوحيد في عقود ما بين الحربين، فان كثيرا من الدول الآسيوية والأفريقية الجديدة أضيفت إلى العائلة الدولية في الأعوام التي تلت الحرب العالمية الثانية. ويقول الكاتب: هنالك عدد من دول قادمة إلينا نتيجة الانكماش في الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية.

ومبدأ تقرير المصير ينبع من مجموعة مألوفة من المذاهب التي تخفي بساطتها الظاهرة وفرة من التعقيدات. ونقطة الانطلاق الرئيسية هي، على ما يظن، الرأي الذي ظهر في القرن الثامن عشر، وهو أن الحكومات يجب أن تقوم على رضا المحكومين. ولقد أضاف القرنان التاسع عشر والعشرون إلى هذا الرأي فرضا مؤداه إنه ما دام الإنسان مخلوق عاقل، فان الحكومة التي يمنحها رضاه إنما هي حكومة تمثل أمته ذاتها. وحتى يظهر تقرير المصير كاملاً، فان هذا لا يقتضي سوى تأمين التسليم بمبدأ جديد من مبادئ القانون الطبيعي الذي يخول الأمم أن تملك دولها الخاصة بها، كما يجعل الدول التي لا قاعدة قومية لها، من الوجهة الآخر، دولاً غير شرعية. والإمبراطوريات المركزية، على ما قال ودرو ولسون، أكرهت على إفلاس السياسي لأنها سادت “شعوباً غريبة لم يكن (لهذه الإمبراطوريات) أي حق طبيعي في أن تحكمها”.(1) وبمعونة قليل من الحيلة، فان المطلب الأصلي القائل بأن الأفراد يجب أن يقبلوا بالحكومات التي تحكمهم أو أن يقيموها بطريقة تعاقدية، إنما ينقلب بهذه الطريقة حقاً طبيعياً للأمم تقرر بموجبه دوليتها الخاصة بها.

ومصاعب تقرير المصير إنما تبلغ ذروة الخطورة عندما يهبط به الناس من التجريد إلى الواقع العملي، وعندما يبذلون من الجهد، مثل ما في صكوك الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان، لترجمته من سنن أدبية وسياسية إلى قواعد قانونية ملزمة. وفي المزاج الحالي للرأي العالمي لا يستطيع أحد مبدئياً مقاومة ما قد صار حقاً للشعوب في التحكم في مصائرها، وهو حق غني عن البيان تقريباً. ولكنه من المستحيل بصورة مماثلة، لسوء الحظ، صوغ هذا الحق بألفاظ تجعله ينطبق على الواقع انطباقا ذا معنى. فمن الذي يستطيع أن يقول للأمم لا، ومع ذلك فمن الذي يستطيع أن يقول أي الأمم ومتى وكيف يجب أن تفرض وجودها؟

وحينما وضعت القضية الإرترية في أعنف صيغها كان الشعب الإرتري يقاوم بقوة، وكان قد أسمع صوته للأمم المتحدة بمقدار من النضج السياسي. وفي أشد صيغ تعبيراً أبلغ الزعيم الإرتري إبراهيم سلطان رغبت الأغلبية من الشعب الإرتري والمتمثلة في الكتلة الاستقلالية والتي طالبت الأمم المتحدة بحقها في إنشاء دولتها مثل كل الدول التي خضعت للاستعمار الإيطالي. ولكنهم اكرهوا شعبنا على الإذعان لمطالب الإثيوبية الذي ليس فيها شيء من الحقيقة. وتحت ظروف خارجية ضاغطة وبأساليب وحشية إثيوبية نظر العالم للأماني الإثيوبية وفرضت على الشعب الإرتري إثيوبيا فرضاً بغير ما تشتهيه رغبتهم. وأضعت الأمم المتحدة هذا الشعب تحت الامتحان القاسي المتصل بحلقات من الاستعمار المستمر.

هكذا تمكن هيلي سيلاسي من دمج حق الشعب الإرتري في دولته لأنه كان يستطيع أن يفعل الكثير بفضل مكانته بين أمريكا وبريطانية وبفضل الجغرافية وعضلاته العسكرية القوية على الشعب الإرتري.كما تبدلت الأحوال في ظل الإدعاءات التاريخية الكاذبة على إرتريا والغة الفضفاضة التي انزلوا بها العالم الإرتري بشكل يستبد بالشعب الإرتري وينكر حقه في شؤون سلطته الداخلية (الفيدرالية).

لاحقاً تحولت المنطقة إلى محور الاهتمام الأمريكي حركت فيها كل أدواتها ما هو متاح وما تقتضيه المصلحة أمريكية في المنطقة. أما الشعب الإرتري التي بدأت شخصيته الوطنية الحديثة في التشكل تحت معاناة ومقاومة الاستعمار الإيطالي على مدى ستين عاماُ مع نهاية القرن التاسع عشر، ثم أخذت ملامحها في التبلور إبان فترة تقرير المصير الأولى التي أعقبت انهيار الاحتلال الإيطالي في الحرب العالمية الثانية، وقيام أحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية تعبيراُ عن قضايا وهموم تلك المرحلة تجلت بوضوح في الإجماع الذي عبر عنه المجتمع السياسي الإرتري برفضه القاطع للمشروع البريطاني، الرامي إلى تقسيم إرتريا بين السودان الرازح إلى إمبراطوريتها المتهرئة.حدث ذلك كله في الوقت كانت تشهد فيه الساحة الوطنية خلافات حادة حول مصير البلاد، بين الدعوة للوحدة مع إثيوبيا من ناحية، والدعوة إلى الاستقلال وقيام دولة إرترية مستقلة من ناحية أخرى.ورغم ما كان يفرق بين القوى السياسية والمجتمع بشكل عام من حساسيات دينية وقبلية وإقليمية كانت تغذيها القوى الأجنبية، خاصة الإثيوبية والبريطانية.

يتميز المجتمع الإرتري بثنائية دينية متوازنة، بحيث يتساوى فيه المسلمون والمسيحيون في الكثافة بصورة تكاد تكون فريدة. فضلاُ عن كونه مجتمعا متعدد اللغات والعادات والتقاليد.. ومع ذلك فهو مجتمع متسامح دينياُ وعرقياُ ومحب للسلام. إذ لا يعرف تاريخه خلال مئات السنين، ما يدل على أن أياُ من الطائفتين سبق لها أن قامت بغزو لمناطق الطائفة الأخرى.أو حاولت السيطرة عليها، أو إجبار إحداهما الأخرى على التخلي عن ديانتها أو هويتها الثقافية. لقد برز إلى الوجود نزاعات من هذا القبيل لأول مرة في حياة الشعب الإرتري المعاصرة،

بفعل التدخل الإثيوبي السافر في الشؤون الداخلية الإرترية، مدفوعاُ بأطماعه التوسعية في أربعينيات القرن الماضي، وبتواطؤ مكشوف من الإدارة البريطانية، مدفوعة هي الأخرى بالأهداف الاستعمارية لبريطانيا العظمى، الرامية إلى تقسيم ارتريا، بضم الأجزاء الغربية والشمالية منها ذات الكثافة المسلمة إلى السودان المجاور.ثم ضم الأجزاء المتبقية ذات الأغلبية المسيحية، وكل من إقليمي سمهر ودنكاليا إلى الإمبراطورية الإثيوبية.

ففي الوقت الذي سخر فيه نظام هيلي سلاسي إمكانات إمبراطوريته لتأجيج النعرات الدينية في المجتمع الإرتري مستخدماُ أصحاب المصالح الطبقية الخاصة ورجال الدين الرجعيين، وقيادات حزب (الأندنت) العميلة، ومستغلا المشاعر الدينية للسواد الأعظم من الشعب، التي كانت تعيش في ظلام الأمية، وفي واقع سياسي واجتماعي متخلف، مستهدفاُ إضعاف الوحدة الوطنية الارترية، والقضاء على التيار الوطني بقيادة الكتلة الاستقلالية، فأن الاستعمار البريطاني قد تواطأ بدوره مع الإثيوبيين في تنفيذ مخططاتهم الإجرامية تلك،لأنه كان يري في انقسام الارتريين على أسسي دينية، ما يوفر له مبرراُ وحجة قوية لتمرير مشروعه ألتقسيمي.

وكانت من نتائج تلك الهجمة الاستعمارية المنسقة حدوث استقطاب حاد في الصف الوطني، عبر عن نفسه في قيام أحزاب سياسية أو قوالب دينية وإقليمية، حيث شهدت الساحة ميلاد حزب الأندنت أو- حزب الوحدة- الذي كان يطالب بقوة بالانضمام الكامل في الإمبراطورية الإثيوبية دون شروط.

لقد خرج حزب الأندنت من بطن جمعية “حب الوطن” الذي تأسست في عام 1942 والتي كان يترأسها جبر مسقل والدو، ولكن انحرفت عن الخط الوطني بدفع ودعم من إثيوبيا التي استولت عليها عبر مأجورين لها من الإرتريين مثل زعامة تدلا بايرو، وبقيادة وتأييد معظم رموز الإقطاع الديني والإقليمي المسيحي في المرتفعات، تغير اسمها إلى حزب أندنت أي ”حزب الوحدة مع إثيوبيا” وسرعان ما انضمت إليه رموز الإقطاع الديني والقبلي المسلمة وغيره في أنحاء مختلفة من الوطن، حفاظاُ على مصالحها وامتيازاتها التي ارتبطت دوماٌ بالوجود الأجنبي مقابل ما تقدمه له من خدمات كأدوات في تحصيل الضرائب واستغلال الشعب وقمعه وإخضاعه للاحتلال المتعاقبة وعلى الرغم من الطابع الديني الذي اتسمت به ظاهرياُ، الصراعات التي عصفت بالساحة الوطنية حول تقرير مصير البلاد، إلا أن الدعوة للانضمام إلى إثيوبيا كانت تعبر في جوهرها عن مصالح طبقية وشخصية ضيقة للقيادات الرجعية في المجتمع الإرتري بشقيه المسلم والمسيحي على حدُ سواء، لن تلك القلة كانت تري في الارتباط مع النظام الإقطاعي في إثيوبيا ضماناُ لحماية مصالحها الضيقة الموروثة، وقد تناست في سبيل ذلك ما بينها من عداوات عقائدية وثقافية، لم تكن تتأخر لحظة واحدة في استخدامها لتأجيج التناقضات الثانوية وسط الشعب، حينما تقتضي مصالحها ذلك. وإلا فبماذا يمكن أن نفس قيام ذلك الحلف غير المقدس الذي جمع بين الزعامات الدينية والقبلية المسلمة مع مثيلاتها المسيحية في صف واحد تأييداُ للتوسع الإثيوبي المدعوم إرهابيا، ومعاداة حرية الوطن واستقلاله. وهذا الحزب من أجل الوصول إلى أهدفه التخريبية قام بأعمال تخريبية خطيرة تمثلت في الأتي:

• خلق شرخ عميق في وحدة الصف الوطني، وذلك بنشر كل ما من شأنه أن يؤدي إلى العداء بين المسلمين والمسيحيين.

• تصفية أفراد الجالية العربية ووصفهم بالغرباء

• تزييف الحقائق على مندوبي الأمم المتحدة حتى لا يتمكنوا من الوصول إلى الرغبة الحقيقية للأغلبية الساحقة من أبناء الشعب الإرتري الذي يتوق إلى الاستقلال والسيادة الوطنية.

• تبني قطاع الطرق المعروفين باسم ”الشفتا” وهم كما يعرفهم تريفاسكيس: فريق من التنظيمات الإرترية المسيحية قامت بسلسلة من الاعتداءات على بعض المستوطنين الطليان والمسلمين وعلى ممتلكاتهم حيث قتلوا 6 إيطاليا و15 مسلماُ وقطعوا رؤوس خمسة من المسلمين أمام أعين زوجاتهم وأولادهم، وسلبوا عددا كبيرا من مواشي المسلمين في غرب إرتريا، وكانوا يتركون في مسرح جرائمهم رسائل تؤكد إخلاصهم للإمبراطور هيلي سلاسي، وتهدد كل وطني بالقتل”.

وهذا الحزب خرج أساسا من رحم الكنيسة بزعامة الأب مرقوص أحد أشد القساوسة تحمساُ للقومية الإثيوبية، فبتحريك من إثيوبيا قامت الكنيسة باستغلال نفوذها بين مسيحيي إرتريا، وكما وصفها الإمبراطور هيلى سلاسي عام 1945 بقوله :” الكنيسة كالسيف والحكومة كاليد ذلك فان السيف لا يمكن أن يقطع بنفسه ما لم تستخدم اليد” ويصور لنا تريفاسكيس المشهد بكلمات بليغة ( بعد سنة 1943 أصبح كل راهب داعية للقضية الإثيوبية، وأصبحت كل كنائس القرى أوكارا للقومية الإثيوبية، وتحول كل احتفال ديني مثل أل ”مسقل” (عيد الصليب) إلى مناسبة لإشهار الروح الوطنية الإثيوبية، وصارت كاتدرائيات المدن وكنائس القرى والأديرة تزين بالأعلام الإثيوبية، وأخذت الوعظ والصلوات طابعا ومغزى سياسيا...) ومن الوحدويين مع إثيوبيا من قاموا بتقديم عرائض تطالب الإدارة البريطانية بحل حزب الرابطة الإسلامية بحجة أنهم جماعات من العوام الرعاة وارحل دفعوا إليه لأسباب دينية محضة).

وفي عام 1943 ظهرت حركة شعبية قوية أطلق عليها الوحدويون العملاء “الحركة الانفصالية” انطلقت من أكلي جوزاي ”بزعامة ديجازماش تسما أسبروم، هدفها وحدة إرتريا وتجراي في بلد مستقل، ولتحقيق ذلك سعت الحركة إلى جمع تواقيع وهمية في جريدة” الأسبوعية الناطقة باسم ”مكتب المعلومات البريطاني” والتي كان يرأس تحريرها الراحل والدآب ولدماريام أحد كبار منظري حركة تجراي تجرنية.

وفي سنة 1947 كونت هذه الحركة تحت شعار “إرتريا للإرتريين” حزبا أطلقت عليه الحزب التقدمي الحر برئاسة ولدآب ولدماريام. وبالرغم من الشعارات التوسعية التي نادي بها هذا الحزب إلا أنه شكل تحديا كبيراُ لإثيوبيا وأداتها العميلة الأندنت وذلك لكونه يمثل قطاعات واسعة من السكان، ولتوافقه بل واتفاقه مع الرابطة الإسلامية على الثوابت الوطنية والتي تأتي وحدة إرتريا والاستقلال التام على رأسها.

وكاءجراء على هذه التطورات المتلاحقة والتي عكست التطلعات القومية المكبوتة من أجل تقرير المصير، قام رئيس أساقفة الكنيسة باء يعاز من إثيوبيا بحرمان المسيحيين الإرتريين بمن فيهم القسيسين والرهبان من حقوقهم الكنسية ما لم يذعنوا الآراء حزب الوحدة، رافق ذلك حملة إرهاب واسعة النطاق دلت على أن حزب الوحدة ما هو إلا حزب أقلية مأجورة، مما يدفعه ذلك إلى اللجوء إلى الإرهاب، أما على الجانب الأخر فقد جاءت ردة الفعل نتيجة الإرهاب الذي نشأ في إرتريا بهدف دفع الناس إلى تأييد الإتحاد مع إثيوبيا والممارسات الدنيئة للقوى العميلة، ببروز حزب الرابطة الإسلامية بأغلبيته المسلمة في مواجهة حزب الأندنت ذي الأغلبية المسحية، لم تكن الرابطة الإسلامية حزباُ دينياُ يدعو لقيام نظام حكم إسلامي، كما قد يعتقد البعض من تسميته، إنما كان حزباُ سياسياُ وطنياُ يدعو إلى قيام دولة إرترية موحدة ومستقلة. وإزاء هذه التطورات الخطيرة لم يكن أمام القوى الوطنية الفاعلة إلا توحيد جهودها وتدارك الشرخ الذي أحدثته العناصر المأجورة والوقوف صفاُ ضد كل القوى التي تستهدف المشروع الوطني، فأثمرت الجهود عن ظهور الكتلة الاستقلالية بزعامة الزعيم الوطني الكبير مؤسس الرابطة الإسلامية الشهيد إبراهيم سلطان علي، وقد ظهر في تلك التجربة الوحدوية الرغبة الحقيقية لشعب الإرتري إذ أن معظم العناصر الذي كان قد غرر بها أدركت حجم الكارثة وسرعان ما انضمت إلى المشروع الوطني لتصبح بذلك عدد الأحزاب والجمعيات المنضوية تحت المشروع الوطني ثمانية حزب وجمعية مقابل الحزب العميل الوحيد وهي:-

1. الرابطة الإسلامية

2. الحزب التقدمي الحر

3. حزب إرتريا الجديدة

4. الجمعية الإرترية الإيطالية

5. حزب المحاربين القدماء

6. حزب المثقفين

7. الحزب الوطني

8. حزب إرتريا المستقلة

ومع ذلك زادت المواجهة بين الحزبين المتنافسين من حدة الاستقطاب الطائفي في المجتمع، والذي جاء مصحوباُ بعنف دموي من تدبير وتغذية المخابرات الإثيوبية ضد دعاة الاستقلال، يحدث لأول مرة في التاريخ الإرتري، وقد استخدمت فيه المخابرات الإثيوبية عملاء لها محليين وآخرين متسللين من الأقاليم الإثيوبية المجاورة وقد راح ضحيته عدد من رموز الاستقلال معظمهم من المسلمين، فكانت النتيجة حدوث شرخ عميق أصاب في الصميم الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي للشعب الواحد، ومن ثم وقوع إرتريا تحت الاحتلال الإثيوبي الذي يعد بكل المقاييس من مخلفات القرون الوسطى.

ومن ذلك الحين، أخذت الآثار المدمرة لأحداث تلك الحقبة من تاريخنا وانعكاساتها السالبة تلقي بظلالها القاتمة على العلاقات بين المسيحيين والمسلمين، بل وامتدت تلك الآثار حتى فترة الكفاح المسلح، حيث وفرت للاحتلال وعملائه مناخاُ مواتياُ لتفريخ المؤامرات ضد وحدة الشعب الإرتري وثورته المسلحة في أصعب الظروف التي كان يمر بها، كما زادت من تشدد مواقف المتطرفين ولا شك في أن توجهات إسياس أفورقي الشوفينية الحالية، ومنذ أن كان قائدا للجبهة الشعبية في المدان، والتي أكد عليها نهجه ممارساته الاستفزازية للمسلمين الإرتريين، بعد أن أصبح حاكماُ مطلقاُ في دولة إرتريا المستقلة، قد عادت بذاكرة قطاع واسع من المسلمين إلى ذكريات ذلك الماضي المؤلمة.

نواصل... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة

Top
X

Right Click

No Right Click