مسيرة عطاء ونماء للأستاذ والمربي الكبير عبدالرحيم خليفة محمود حمد هداد ركا - أبو ياسر

بقلم الأستاذ: حسين رمضان - كاتب ارتري

أناس دائماً نضعهم في حدقات العيون لأنهم يمتازون بجمال صفاتهم ورقي أخلاقهم وسمو مكانتهم

فإذا امتزج جمال الخُلق مع جمال العلم فالناتج روح جميلة ترسم في الوجود بصمة لا تنسى أبداً، مهما اختلف الزمان والمكان لتتوارث ذكرياتهم الحسنة أجيال وراء أجيال سرمداً، وذلك لإخلاص نياتهم وصدقهم وفضائل أعمالهم، وحبهم وإيثارهم الإحسان للناس لا سيما أرحامهم وهذه الذكرى العطرة من عاجل بشرى المؤمن في الحياة الدنيا قبل الآخرة، فضلاً عما يدخره الله لهم في دار كرامته ومستقر رحمته.

من بين هؤلاء الأماجد ضيفنا الكريم الفخيم الأستاذ والمعلم والمربي/ عبدالرحيم خليفة محمود حمد هداد آل ركا.. ونحسبه من الأخيار والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً. هذا الرجل لم أحظى برؤيته ولكن سمعت أذنيّ طيب كلامه وصنيع فعاله الذي ينم على أنه يحمل همّ أمته في إطارها الكبير "الوطن"، وعشيرته وأسرته التي تؤويه في إطار "أرحامه" فلامس قوله وفعله شغاف قلبي فأحببته وتمنيت أن أنهل من معين علمه وفهمه واقتبس من جمال خصاله.

فمن الناس من هو قريب منك مكاناً ونسباً ولكن تبغضه لفحشه وسوء خلقه وتتمنى أن يكون بينك وبينه بُعد المشرقين، ومنهم من يكون بعيد منك مكاناً ونسباً ولكنه قريب إلى قلبك بإحسانه وفضائل أعماله فتحبه لتلك السمات والخصال الحميدة. فسبحان الله مقلب القلوب ومؤلفها كيف يشاء.

ونحن اليوم بصدد الوقوف على محطات من السيرة العطرة لأستاذنا (أبو ياسر) متعه الله بالصحة والعافية - فهذه نبذة مختصرة عنه، بل نقطة في بحر جمائله فهو قامة وهامة سامقة تناطح السحاب نسباً وحسباً وعلماً وفهماً فحياته مليئة بالعطاء عبر أزمنة مديدة فهو من مواليد مدينة حلحل حاضرة عنسبا في عام 1942م، وبعد ولادته عاد إلى قريته (جانتكا) وترعرع وشبّ في ربوعها حتى بلغ السن الدراسية فانتقل إلى بركنتيا قرية أجداده وتلقى فيها تعليمه الأولي حتى أكمل فيها المرحلة الإبتدائية، وبعد وفاة والده - رحمه الله في عام ١٩٦٣م، تولى وتكفل بتربيته وتعليمه هو وإخوته ومنهم (محمد عثمان - رحمه الله - والدكتور محمد علي وهداد وخديجة - مد الله في أعمارهم) - أخوهم الكبير المربي الجليل - المغفور له بإذن الله - الأستاذ/ بشير خليفة محمود حيث انتقلوا إلى مدينة كرن، فواصل أبو ياسر دراسته المتوسطة في مدينة كرن، ونال الشهادة المتوسطة في عام 1956م، ثم انتقل إلى العاصمة اسمرا ودرس فيها المرحلة الثانوية في مدرسة الأمير مكنن، ثم إلتحق بكلية تدريب المعلمين ودرس فيها مدة سنتين وتخرج منها بدبلوم في عام 1959م، كما نال دبلوم في إدارة المدارس والمراقبة من جامعة اديس أبابا عام ١٩٧٤م، وفي التعاليم العالي درس بجامعة اسمرا (سنتا فاميليا) سابقاً قسم اللغة الانجليزية والتاريخ وتخرج منها بدرجة البكالوريوس عام ١٩٧٨م.

فقد نال الأستاذ عبدالرحيم حظاً وافراً من التعليم الأكاديمي ثم بدأ حياته العملية في حقل التدريس وفي عدة مواقع كانت بدايتها مدرسة اغردات في عام ١٩٥٩م، ومنها إلي مدينة منصورة حيث افتتح فيها أول مدرسة ابتدائية وأصبح مديراً لها، فكانت هذه المدرسة من أفضل المدارس في القرى الارترية تقريباً آنذاك، وذلك نظراً لما بذله أستاذنا الجليل من جهد مضاعف وترتيب موفق فنال بذلك ثقة السكان ومحبة الطلاب.

وللإستفادة من تجربته الثرة تم نقله إلى مديرية سراى وبالتحديد إلى قرية عدي منقونتي القريبة من مدينة مندفرا عام 1965م، ثم ختم رحلته في التربية والتعليم في العاصمة اسمرا بعد أن طاف بعدد من المدن والقرى في ربوع بلاده، وفي العاصمة عمل مدرساً في مدرسة بيت قرقيس الوسطى في عام 1966م، ثم اصبح مديراً لها في عام 1968م.

ثم إلى ثانوية الأمير مكنن مرتقياً، وبعدها إلى ثانوية الإمبراطور هيلي سلاسي حيث تم تعيينه مسؤلآً للطلبة (Unit Leader)، ومنها تم اختياره ليكون معلماً في كلية تدريب المعلمين، حتى تأريخ الانقلاب العسكري الشيوعي في أثيوبيا وحينها تم تأميم وإغلاق المدارس التبشيرية، وفي أثناء فترة التحرير واستيلاء الثوار لبعض المدن والقرى وتكدس الطلاب في العاصمة ونتيجة لهذا زاد عدد المدارس الثانوية الحكومية في العاصمة اسمرا، فأختير الأستاذ عبدالرحيم مديراً لثانوية (بوتيقو) والتي كانت سابقاً معهداً تقنياً تابعاً للسفارة الايطالية وبعد التحرير تم تغيير أسمها إلى ثانوية (إبراهيم سلطان)، ثم أنتقل إلى ثانوية باركا (كمبوني سابقا) في عام 1993م.

وآخر موقع وظيفي تبوأه أن عمل معيدا في جامعة اسمرا لتدريس اللغة الانجليزية القسم الليلي، إضافة إلى عمله.

ونظراً لما بذله وتميز به في تأدية رسالته العلمية والإدارية أصبح من أشهر وأفضل المدراء الذين يشار إليهم بالبنان في العاصمة اسمرا بل في البلاد كافة.

ونظراً لعدم توفر المعلومات لدي لم اتناول في هذه السيرة العطرة تفاصيل أنشطته النضالية الوطنية رغم انضمامه مبكراً في حركة تحرير ارتريا في عام ١٩٥٩م، واستمراره في جبهة التحرير الارترية حتى تحقق الاستقلال.

وبعد أن نالت البلاد استقلالها الا انه لم يروق له الاستقرار في بلاده حيث لم تكن الرؤية واضحة له، فقدم استقالته بمحض ارادته في عام 1994م. وبذلك أسدل الستار على عطاءه المبارك في مجال التربية والتعليم في وطنه والذي أمتد قرابة ال 34 عاماً.

فأستاذنا تجثم الصعاب في حياته فحمل عصى الترحال ودلف من أوسع أبوابه وكانت أول محطاته أرض الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية، مدينة جده، فالتحق فيها بمجموعة دله بوظيفة أمين وثائق في قسم القانون عام ١٩٩٧م، ثم عمل في حدى الشركات الفندقية (فنادف مودة العالمية) في المدينة المنورة بوظيفة سكرتير المدير العام للفترة من 1999م - 2003م، وكان مقر العمل أمام الحرم النبوى الشريف فمن فضل الله عليه كان يؤدي الصلوات الخمس فى المسجد النبوي الشريف.

وأخيرا سنحت له فرصة الالتحاق بأسرته والتي سبقته إلى شرق الكرة الأرضية استراليا حيث إكتمل شمل الأسرة في تلك الديار فكانت هذه محطته الأخيرة في الترحال الطويل. وفي استراليا لم ينقطع معين عطاءه فعمل بمهنته التي أحبها معلماً ومترجماً حتى عام ٢٠٠٦م. وبعد عطاء متواصل آن للفارس أن يستريح من نصب العمل فتقاعد وتفرغ لأسرته ومجتمعه موجهاً وناصحاً ومرشداً

وبالرغم من مسيرته التعليمية الطويلة لم يغفل أبو ياسر الجانب الوطني فكان يتنامى عنده الحس الوطني في داخله ومن ذلك شعوره واهتمامه لمعاناة وآلام الوطن، لذا جاء بفكرة مشروع توافقي للخروج من المأزق الذي يعيشه مواطنيه في الشتات فهو صاحب المبادرة تحت مسمى "لم شمل المجتمع المشتت" وذلك بدعوة كافة رؤساء وزعماء التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والكتاب والصحفيين والحكماء والشباب والمرأة بكل ألوان طيفهم للحوار دون أي شروط مسبقة بغرض توحيد الصف والرؤية الوطنية ليكونوا على قلب رجل واحد، ومن ثم إنقاذ الوطن مما هو فيه فدعاهم إلى مؤتمر يُعقد عبر تطبيق الزوم لتنبثق منه لجنة مؤقتة تُعد لمؤتمر شامل للتفاكر حول ما يجمع الأمة في قضاياها العادلة وإيجاد حلول لمعوقات الوحدة الوطنية وتحقيق أهداف الأمة بعيداً عن العنصرية والقبلية والجهوية والفئوية في اطار شامل وجامع وفعلاً تم اللقاء وتكون مجلس إداري لمباشرة المهام.

هكذا يغبط الناس معلمو الأمة العلم النافع لأنهم في مهمة ومهنة الأنبياء والرسل فبهم تستنار العقول والقلوب ويرفع الجهل من الأمم ولهم من الحسنات بقدر ما علموا وعملوا، ومن تعلم في أيديهم فهو عطاء متدفق لا ينقطع ولا يجف معينه فهو بمثابة الصدقة الجارية لهم.. وقد نظم الشاعر أحمد شوقي قصيدة جميلة طويلة في التعريف بمكانة المعلم ويقول في مطلعها:-

قم للمعلم وفه التبجيلا ..... كاد المعلم أن يكون رسولا

أعلمت أشرف أو أجل من الذي ..... يبني ويُنشيء أنفساً وعُقولا

سُبحانك اللهم خير معلم ..... علّمت بالقلم القرون الأولى

أَخرَجتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِه ..... وَهَدَيتَهُ النورَ المُبينَ سَبيلا.

وقبل ذلك قال الله سبحانه وتعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير).

وهذه مجرد إشارات أو رؤوس أقلام في رحلة عطاء طويلة ومباركة عاشها أستاذنا المخضرم، عبدالرحيم خلفية محمود حمد، في ربوع بلاده، بل امتد عطاءه إلى خارج الحدود فهو كالغيث حيث حلّ أزهر وأثمر فهو معين لا ينضب وسيل منهمر.

وخير شاهد على ذلك ممن تتلمذ على يديه من جيل وراء جيل، فمنهم من تبوأ مناصب قيادية وإدارية رفيعة في أرض الله الواسعة ونفع الله بهم البلاد والعباد فيرث هذا من ذاك وتستمر السلسلة حتى قيام الساعة ويكتب من الأجر الكثير لمن علمهم حرفاً، فهنيئاً لمعلم الأجيال ولمن حسنت سيرته وسريرته.

فنسأل الله له التوفيق والسداد...

وأن يمد في عمره ويبارك فيه...

مع حسن القول والعمل الصالح...

Top
X

Right Click

No Right Click