يا أهل قندع لا تدفنوا العمامة

بقلم الدكتور: حامد محمد حالفا  المصدر: وكالة زاجل الأرترية للأنباء

على مختلف عهود الاستعمار في أرتريا كانت الهوية الإسلامية مستهدفة على يد كتائب وأموال السلطان

يريد طمسها ومع ذلك استعصت، حافظت على الإرث النبيل، غذته المعاهد والخلاوي والمساجد والدعاة والمعلمون والطرق الصوفية. وفي كل زمن هيأ الله من يجدد الدين ويحافظ عليه ويقتدى به.

والشيخ عثمان محمد نور فاقر أحد الشخصيات الأساسية في ”قندع“ التي تعبر عن هوية السكان، علمًا وخبرة ولباسًا واستقامة ولغة، نحسبه على خير ولا نزكيه على الله، شاهدت مشهدًا من صلاة العيد خرج فيه سكان قندع بكامل حللهم الزاهية في تحد سافر يغيظ الشياطين الذين يحاربون العمامة، يريدونها أن تكون تراث الأقدمين لا فخر الحاضرين ولا رمزا لشريعة السماء في مواجهة شرائع الهوى والضلال والزندقة والانحلال.

تاج المسلمين:

نعم وصلني الخبر الأليم: قبل يومين توفي الشيخ عثمان محمد نور فاقر، لاحت في ذاكرتي العمامة البيضاء التي تتوج رأسه - رحمه الله - إنها ليست قطعة قماش ملفوف فوق الرأس وإنما هي تمثل تاريخ المسلمين وحاضرهم ومستقبلهم فيا أهل ”قندع لا تدفنوا العمامة مع الشيخ الوقور عثمان فاقر بل البسوها وأعلوا من شأنها وورثوها الأجيال اللاحقة فالعمامة هي التاج الأقوى في وجه محاولات الطمس الكائدة. كل الرقاب انتكست تحية للجبار وتحية للأموات والأحياء اقتداء بعادات قوم آخرين غير الرقاب المعممة فإنها لن تسجد لغير ربما السماء.وظلت في كل المناسبات شامخة ترفض الانحناء الإجباري في مناسبات سفيهة كانت تجتهد لإذلال الشعب تحت عناوين خادعة ظالمة لا انصفت الشهداء ولا المواطنين الأحياء وحتى في عهد أشد عتاة إثيوبيا لم تنكس هذه العمائم تحية للإمبراطور عند قدومه أو عند القدوم إليه.

ذاق الموت عثمان فاقر رحمه الله:

بداية افترضت ربما أن الخبر إشاعات لأن أخبار المصائب لدينا كثيرة، والمروجون لها كثيرون، حاولت أن أتخفف من ثقل الحدث الأليم، لكن الأخبار تواترت، فهذه حسابات في الوسائط تترحم، وتتوجع وصورة الشيخ عثمان هي نفسها تملأ الآفاق، الملامح هي الملامح، والعمامة هي العمامة، والوقار هو الوقار؛ الذي يحيط بالصورة وكان الغريب البغيض الخبر الفاجعة الذي سماه الله ”مصيبة“ إنا لله وإنا إليه راجعون، لا مفر من الإقرار بالحق، ذاق الشيخ عثمان فاقر كما ذاق الموت رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام والصالحون الأولون.

عثمان فاقر في الجامعة:

عرفتك منذ أيام الجامعة الإسلامية بالمدينة ا لمنورة وأنت شيخ وطالب تقرأ في كلية الشريعة وأنت تمثل بعلمك الفقه والشريعة والاستقامة.

كان الطلاب يرجعون إليك يستفتون، والمذهب الحنفي عندك مصدر المعرفة والعمامة البيضاء المميزة كانت المعلم البارز الذي حافظت عليه.

إنه رمز الانتماء إلى ”قندع“، دينها، وشعبها، وأرضها الخضراء.

كان الطلاب يأتسون بك ويثقون، كنت المرشد بلسان الحال والمقال، كنت الوالد لهم والمعلم والقدوة الحسنة.

فليس غريبا ان تجد في السواد من أبناء مدينة قندع في المدينة المنورة على نمط واحد من الالتزام والاجتهاد والنجاح والجدية.

كانوا طلاباً في معهدها، وأستاذهم معهم، والآن انتقلوا إلى المدينة مع مربيهم الأستاذ عثمان فاقر، فكان المعهد والطلاب والأستاذ معًا في المدينة، اجتمع فيها المقتدي والمقتدى به والعمل الصالح يربط الجميع والنوايا الحسنة تسوقهم إلى الفضائل.نحسبهم على خير ولا نزكيهم على الله.

طلاب ارتريا يسجلون موقفا في الجامعة شجاعاً:

أتذكر يومًا أن رئيس الجامعة الإسلامية د. عبدالله الزايد طلب اجتماعًا يضم طلاباً من أرتريا وإثيوبيا معا للمناصحة وهي سنة جارية يومئذ في الجامعة والعادة أن الطلاب يطاوعونها منشرحين.

رفض الطلاب الأرتريون الحضور، وحضر الإثيوبيون مستجيبين لطلب جهة إدارية عليا لها حق السمع والطاعة والرضى لأن ما توجه إليه وتسعى يأتي ضمن أهداف الجامعة ورسالتها.

غياب الأرتريين شكل صدمة للاجتماع فهم ركن أساس فيه غضب رئيس الجامعة فأجل الاجتماع إلى يوم آخر حتى يدرس الحالة الشاذة لأنه لم يتعود على موقف مثل هذا وطلاب أرتريا في ذلك العهد فوق المائة حسب ما أذكر والجامعة متعاطفة مع أرتريا وطلابها فمن المستغرب موقفهم السلبي.

الإثيوبيون كانوا في انتشاء كبير لكونهم ظهروا بموقف مطاوع مقابل أندادهم الأرتريين العصاة!! وأخذوا يتملقون - حسب متابعتنا - إلى رئيس الجامعة بموقفهم الإيجابي.

رئيس الجامعة علم لاحقاً أن سبب غياب الطلاب الأرتريين كان جمعهم مع الطلاب الإثيوبيين وهم لهم أعداء لأنهم موالون لحكومة مستعمرة لبلادهم
اهتدى رئيس الجامعة إلى فكرة تعميم الاجتماع فقدم الدعوة إلى طلاب القرن الأفريقي، حضر الارتريون هذه المرة دون أن يتخلف منهم أحد، احتشد في القاعة الكبرى للجامعة مع طلاب أرتريا، طلاب أوغندى، والصومال وجيبوتي وإثيوبيا.

• تسابق طلاب قندع - يا شيخ عثمان - بالحديث باسم أرتريا،

• تحدث الأستاذ/ عبده سيد – فك الله أسره،

• تحدث الأستاذ/ موسى فرج الله – فك الله أسره،

• تحدث الأستاذ عثمان عبدالنور – فك الله أسره،

• تحدث ايضا من غير طلاب قندع البروف/ جلال الدين محمد صالح والشيخ/ محمد عبدالله الحاج رحمه الله وغيرهم.

كلهم كانوا فرسان الفصاحة والخطابة والرزانة والحجة الدامغة اتهمت كلماتهم طلاب إثيوبيا بأن بينهم جواسيس لحكومتهم ولديهم قائمة العملاء.

واستنكرت كلمات الطلاب الأرتريين أن يكون في مدينة رسول الله جواسيس لنظام شيوعي معتدي على مسلمي ارتريا كاعتدائه على مسلمي إثيوبيا.

أدرك رئيس الجامعة أن موقف الطلاب الأرتريين ليس تمردًا ضد إدارة الجامعة وإنما لديهم قضية يريدون طرحها وقد فعلوا بقوة غالبة.

تصرف عاقل عند ضيق الخيارات:

الشيخ عثمان فاقر - رحمك الله - تلك قطوف من ثمارك غرستها في معهد قندع الإسلامي - وأنت عضو مؤسس له ومدير سابق ومعلم مربي، وأتت معك في مدينة رسول الله تؤازرك.سقتها إلى الدرب الصحيح فاستقامت على الدرب الصحيح.

علمت أن معهد قندع الإسلامي صادرته الحكومة كما فعلت بالمؤسسات التعليمية الأخرى بحجة توحيد المناهج التعليمية في البلاد.

وعندما ضاقت الخيارات علمت أنك توجهت مع بعض أصحابك إلى تحفيظ القرآن الكريم والدعوة إلى الله خارج نظام المعهد الذي صودر تشبثا بالمبدأ وعملا بتوجيه شرعي آخر يلزمك أن تعمل بما تستطيع في نشر الدعوة والتعليم الديني فإن تعذر باب تيسر باب آخر فلا أحد يقوى على إغلاق أبواب الخير المؤيدة من الله، الموعودة بالنصر.

علمت أن درسك لم يغب في الجامع الكبير بعد العصر على الرغم من مضايقات وتحذيرات تلقيتها، تحدث كثيرون ان النظام حاول إغلاق فمك عن الدعوة فأبيت ومضيت، تعرضت للسجن لمدة تسعة أشهر في مصوع بداية من إبريل عام 2009م وفضل الله رعاك فعدت بعد أن ذقت آلامه والمكائد ردت مندحرة ذليلة وبقيت شامخاً حسن السيرة مع الناس وهذه أمارة على حسن ذكرك عند الله إن شاء الله.

ودعت بألم إخوانك المعلمين إلى الاعتقال الظالم وكنت ترعاهم وتربيهم ليكونوا سندًا لك ورسل خير معك في تبليغ الدعوة ونشر اللغة العربية.

رحلت عن الدنيا وأنت لم تمتع قلبك بلقائهم ليحكوا لك أخبارهم خلف الزنازين خلال هذه السنين العجاف.

كم هو مؤلم أن تجد طلابك وأصحابك في المعتقل وأنت خلفهم لا تجد حيلة للإفراج عنهم، فكان العزاء الأهم أن تستمر في الدعوة لتبقى الرسالة التي ضحى أصحابك من أجلها.

لم يكن الشيخ عثمان مصادمًا في المدينة المنورة إنما كان رجل الحكمة والفقه والخلق النبيل كعهده في وطنه وقد خرج عقلاء نجباء مناصرين للحق.

كان يقوم في أداء أمانة الدعوة حتى بعد ما أصيب بالشلل في عهده الأخير.

عثمان فاقر في الخرطوم:

زرته في الخرطوم مع أحد إخوانه في المستشفى، قيل لي أتى إليه يبحث عن علاج ثم ساءت الحالة خلال العلاج زرته، وهو كان يعاني متاعب المرض،
وجدت بعض إخوانه يحيطون به خدمة وهو على سمته المعهود المتفائل، على الرغم من قساوة المرض، وقساوة السنين التي أخذت من صحته، مضى إلى الله وهو حتى آخر عهده بالدنيا يمشى إلى الدرس والدعوة بكرسي متحرك، توقف الجسم ولم تتوقف الدعوة رحمك الله وغفر لك وعفا عنك يا شيخ عثمان فاقر.

 


دكتور/ حامد محمد حالفا: قلم فقيه وأستاذ جامعي يهتم بالسياسة الشرعية والقضايا الفكرية، يكتب البحوث العلمية المحكمة التي تعالج مشكلات المجتمع من الوجهة الإسلامية.

Top
X

Right Click

No Right Click